لن نسبح في ذات النهر مرتين- دلال بشار

قصة

لن نسبح في ذات النهر مرتين

دلال بشار

دلال بشار

من ماذا نخاف؟

 لماذا نخاف؟

 كيف نخاف؟

 هل يولد الخوف بولادتنا؟

 هل يموت معنا؟

 أهو رجل أم ظل يتتبع خطواتنا؟

هل له شكل إنسان؟

أهو حيوان مفترس أم وحش أو ضباب يتلاشى مع الزمن؟

باقةٌ من الأسئلةِ تنهال على خيالٍ يعاكس بعضها بعضاً أثناء ركود دقائق الشتاء المملة.

 عشرون عاماً أنقضت على تلك الحياة التي عشتها ولم تعشني.

 كنتُ أحيا داخل إطارٍ مليءٍ بضحكات العائلة تحيطهُ هالةٌ من السعادة حبلى بالحب.

 لم يكن الخوف يومها يعرف طريقهُ إلى روحي، بعيداً جدا كان لدرجة أنني أحسبه شخصيةً من شخصيات الأقزام السبعة التي نسمع عنها في طفولتنا ولم يكن لها وجودٌ في الحقيقة.

ليتني لم أكبر!

 تغيرت الأيام وأصبحت تركض ركضاً وتجري بنا إلى شوارع لا نعرفها ومن ثم تأخذنا إلى أعماق اللامحدود. أصبحنا نهرولُ أملاً في العثور على بيتٍ نسكنه أو أرض تحتضنُ خوفنا وإنكسارنا وتلملم شملنا من زوايا العالم المختلفة. روحٌ في مدينةٍ وأخرى في جزيرة وقلبٌ يروي عطشه من نهرِ مدينةٍ لم تذق طعم الآمان يوماً. حرب هنا وحرب هناك موت هنا موت هناك، دموعٌ لا تكفي.

عشرون عاماً أنقضت أخذت معها ما أخذت من شبابٍ واستبدلتهُ بشيب لا وقت لتأمله.

***

الثانية بعد منتصف الليل، والكل نيام، وكعادتي أجلس خلف النافذةِ مع لعبةٍ من خياطة أمي. بدأ صوتٌ غريبٌ يتسلل إلى أذني كان، صاخباً، ومزعجاً. بدأ الصوت يزداد ويقترب أستيقظ والدي ووالدتي. كان كل ما سمعتهُ منهما في تلك اللحظة هذه الجملة

 إنهم دخلوا وفعلوها أولاد الكلب!

_ ماذا سنفعل يا عامر أين سنذهب ونحن لا نملك ثمن طعام الغد

 احتضنتني والدتي فشممت فيها رائحةً معتادةً عندي منذ عشر سنوات ولم تتغير. كان لها عطرٌ مميز تصنعه من الورد في السندانة.

_لن نفعل شيئاً سنبقى هنا نترقب ما قد يحصل والله الحامي

جلس والدي بجانبنا، واحتضنتُ لعبتي، رغبتُ في معرفة من هم الذين دخلوا وأين دخلوا ولماذا، كان والداي متوترين، لم أرغب في سؤالهم شعرتُ أن علي ألتزام الصمت فالوقت غير مناسب للحديث وطرح أسئلةٍ قد تؤدي بنا إلى أبوابٍ مغلقة.

كان بيتنا صغيراً يقع في زقاقٍ ضيق تقسمه ساقية من وسطه حيث يجري الماء داخلها ليل نهار كأنه نهرٌ صغير، وكان الأطفال أثناء عودتهم من المدرسة يضعون أقدامهم داخله محتفلين به وكأنه رافد من روافد دجلة، وفي الشتاء يفيض من كثرة الأمطار، فيما تضع أمي قطعاً من القماش لتمنع دخول الماء إلى البيت وهو ما كان يفعله الجيران أيضا.

 كان البيت يحتوي على غرفةٍ واحدة يمين الحوش تحوي على سرير كبير وآخر صغير إشتراهُ لي والدي بعد أن أصبح سريرهم لا يسع طفلة كبيرة كما قالت أمي ،وكان يقابلها مطبخٌ صغير وصالة صغيرة تحوي على تلفاز نشاهد فيه الأخبار وبرنامجٌ صباحي تبثه الإذاعة وسندانة الزهور التي تصنع منها أمي عطورها.

 كان بيتاً صغيراً لكننا كنا سعداء فيه!

ازداد القصف حسب كلام والدي وحسب ما كان يصل إلى أذني من أصوات عاليه لها دويٌ عميق في مكان لا أدري أين.

_ماذا يعني القصف؟ سألت والدي

_لاشيء، انتبهي إلى لعبتك سأشرحُ لك لاحقا

لا زلتُ أنتظر شرحك وقد مضى على وعدك عشرون عاماً

بدأ صوت الجيران  يظهر من النوافذ وأسطح المنازل. الكل بات متوتراً وأصبحت كلمة دخلوا فعلوها أولاد الكلب تزداد وكأنها جواب على سؤالٍ يطرح في المدرسة

بدأوا يطرقون الباب بقوة، لم أعرف من هم لكنني شعرتُ أن باب المنزل سينكسر.

أشار والدي إلى أمي أن تُدخلني إلى الغرفة وتغلق الباب.

أغلقت الباب وخرجت إلى حوش الدار،ثم فُتح باب الدار فاقترب مني صوت إطلاقٍ ناري وسمعت صوت صراخ والدتي ومن ثم هدوء أحاط  بالدار.

 أردتُ الخروج ولكنني إلتزمتُ بوعدي وبقيت جالسةً لفترةٍ لم تكن قليلة، شعرت بالجوع وحاولت الخروج لكنني لم أرغب في كسر كلام والدتي.

 فتحت نافذة الغرفة المطلة على الحوش. كان كل ما رأيته نهرٌ صغير تكون من إمتزاج دماء والدي ووالدتي أصبح حبهمها واحداً. أمي وأبي أصبحا نهراً، هكذا يموت العشاق، أوليس الحب نهراً نلجأ إليه كلما ضمأت أرواحنا؟.

اليوم أمشي في ذلك الحي الضيق إلى جانب الساقية رغبةً في العثور على ضحكةٍ قد تعيد ذاكرتي، أرغب في رؤية طفلٍ يضع قدمه في الماء فتبدأ أمه بالصراخ عليه..

 رأيت باب البيت، ورأيت سندانة الورد فارغةً، رأيت تلك النافذة التي أجلس خلفها أتامل ذلك النهر، رأيت ساقية الحي لكنني لم أرى ذلك اللون الأحمر الذي إمتزج مع مياهها في تلك الليلة فأيقنت أنه لا يمكننا أن نسبح في ذات النهر مرتين.

عشرون عاماً أنقضت، عرفت خلالها أن الخوف هو الهدوء الذي أحاط دارنا بعد أن أضاع إلى بيتنا سبيلاً.

وذلك النهر الأحمر الذي امتزج مع ساقية الحي فأصبح أحد روافدها، إنهم أولاد الكلب الذين دخلوا ولا زلت أجهلهم حتى هذه اللحظة، إنها الذكريات التي تنخر أوراق ذاكرتي كجرادٍ يأكل الزرع فيفسده، والأمان الوحيد يكمن في اللعبة التي صنعتها لي أمي من بقايا ثوب والدي ومن ثم عطرتها بالعطر الذي استخرجته من ورد السندانة.

مشاركة