لم يكن من بين الأباء المؤسسين رجل أسود – ماجد حميد الضيدان

لم يكن من بين الأباء المؤسسين رجل أسود – ماجد حميد الضيدان

ولدت تجربة العيش في اراضي العالم الجديد في قارة امريكا وتحديدا الاراضي او الولايات الشمالية منها عبر رحلة الالاف من المهاجرين الذين تركوا قارة اوربا خلفهم ومضوا نحو تحقيق احلامهم التي ينشدون انذاك ومن ثم نشأت التجربة السياسية الامريكية في تلك القارة عبر مجموعة من التقاة المتشددون البروتستانت على الرغم من وجود اصناف اخرى من المهاجرين كانوا ينشدون مآرب اخرى منها على سبيل المثال تحقيق الثروة وما يسمى اليوم الحلم الامريكي.

عندما اجتمع القادة المؤسسون في تموز في فيلادلفيا لصياغة احلامهم في اعلان الاستقلال وقد صاغوا مباديء علمانية تبدو في نظرهم انها مقدسة ومحرمة وكنسية في الوقت نفسه, وقد اظهرت العقيدة الامريكية مجموعة من المباديء والتي تبدو من المسلمات والتي اعتبرها المؤسسون واضحة منها “العدالة للجميع لأننا جميعا خلقنا متساوين, والحرية للجميع لأن الخالق منحنا جميعا بعض الحقوق غير القابلة للتصرف” , ومن ثم فإن التاريخ لا يزال خير حكم على مدى اخلاص امريكا لهذه العقيدة وان مواجهة ذلك لا يزال يمثل تحديا مستمرا.

في الولايات المتحدة كدولة تملك رصيدا دستوريا وقانونيا حافلا بالمزيد من الاشارات والنصوص التي تتحدث عن الحرية والايمان الذين اتحدا فيما بينهما لتكوين سياسي يمكنه ايجاد اتحاد اعلى واسمى من الاثنين فالدولة التي لم تشير الى تبنيها لدين معين بقدر كونها تضع حدا فاصلا بين الكنيسة والدولة ووفقا للنص القائل ” إذا كانت امتنا ليست أمة مسيحية فهي مع ذلك مبنية على اساس ديني”. واستمرت الولايات المتحدة كدولة نشأت من المهاجرين البيوريتان الاوربيين ولا تزال تنوء بعبيء هذا الثقل الطاغي والمتحكم في كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الامريكية في ظل تناقض واضح بين مباديء اعلان الاستقلال وواقع استغلال الملونين او المواطنين من ذوي البشرة السوداء الذين جرى استقادمهم عبر عمليات غير انسانية وظروف عمل وسخرة قاسية جدا.

واقع اقتصادي

عمل واستقدام العبيد ادى الى نشوء واقع اقتصادي في الولايات الجنوبية يختلف عما هو في الولايات الشمالية التي كانت تبدو شبه خالية من العبيد إذ كان العبيد مصدرا للعمل واستحصال الثروة القائمة على اساس الزراعة الواسعة في مساحات وولدت اقطاعيات كبيرة الامر الذي عانى فيه السود من شتى انواع التعذيب والتنكيل في انسانيتهم, وفي السنوات التي سبقت الحرب الاهلية دافع كل من مؤيدي ومعارضي العبودية عن مواقفهم المتناقضة على حد سواء عبر جمع الادلة عن الدستور الامريكي والكتب المقدسة ووثيقة اعلان الاستقلال مع قيام دعاة الغاء العبودية بتفسير شامل للبند الافتراضي القائل بأن “الجميع خلقوا متساوين” ورد الحزب المؤيد للعبودية بأن نية المؤسسين استبعدت بوضوح الاشخاص الملونين. وما بين تاسيس الدولة عبر الاتحاد الفيدرالي والحرب الاهلية الامريكية حدثت بعض التناقضات والجدل المحتدم بخصوص المساواة من عدمها وهل تتسع لتشمل الملونين ومنهم العبيد ام لا ووفقا لقرار القاضي (دريد سكوت) عام 1787 وبعد جدل كبير توصل القضاة الى الادعاء بأن ” تشريعات وتواريخ العصر واللغة المستخدمة في اعلان الاستقلال تظهر انه لا طبقة الاشخاص الذين تم استيرادهم كعبيد ولا احفادهم سواء اصبحوا احرارا  ام لا تم الاعتراف بها كجزء من الاشخاص ولم يقصد ادراجها في الكلمات العامة المستخدمة في هذا التعريف الذي لا ينسى”. فالعبيد المحررين وفقا لهذا القرار لا يمكن اعتبارهم مواطنين رسميا ولا يحق لهم التملك حتى في الولايات الشمالية. كان ابراهام لنكولن متعاطفا اكثر من غيره عن ضرورة مساواة السود مع البيض في امريكا وعد ذلك ضرورة لتلافي الانقسام الحاصل انذاك والذي ادى الى الحرب الاهلية ولضرورة تفادي انهيار الاتحاد وخطوة لكسب الحرب عبر ضرب اقتصاد الولايات الجنوبية عبر قرار تحرير العبيد وان كان هو نفسه في نظر البعض يبدو في سنواته الاخيرة متعصبا للبيض فقد اعترف بان الامريكيين الافارقة لم يكونوا متساوين مع البيض فيما يتعلق بالعقل او التطور الاخلاقي او القدرة الاجتماعية.

واليوم فإن العرقية في الولايات المتحدة الامريكية تشهد مفارقة اساسية فعلى الرغم من التقدم الحاصل فيها واختفاء العزل او تلاشيه بعد ان كان مفروضا بالقانون وان كان لا يزال موجودا على صعيد الثقافة السائدة إلا انه يشكل فضيحة رغم ان الولايات المتحدة لا تزال حاظرة لديها قائمة “جيم كرو الجديدة” , ناهيك عن الفقر الذي يعيش في ظله ذوي البشرة السوداء. فالعبودية وفقا للكثير من الناشطين من ذوي البشرة السوداء لا تزال موضوعا بنيويا ويمثل سلسلة طويلة وهرمية متاصلة لأرث طويل من العذابات الذي من الضروري ان يتم تعويضهم عنه.

فهل ان الولايات المتحدة اليوم ملتزمة بمبدأ “كل البشر خلقوا متساوين” , وهل ان التاريخ الامريكي يبدو وكأنه كتحقق لهذا المبدأ؟, وما الذي جعل امريكا مختلفة عن نظيراتها الاوربية ومالذي دفع الناس الى الهجرة اليها؟ فعلى حد تعبير (فردريك دوغلاس) الذي طرح فكرته في ان الهدف من التاريخ الامريكي هو تكوين أول أمة “مركبة”.

ان الذي حصل تمثل في انهاء التمييز الرسمي مع بقاء واقع ذوي البشرة السوداء كما هو عليه على الرغم من خلاصهم من العبودية فهم في فقر بين وفرة وفقاَ لــ مارتن لوثر كنغ. ولم يكن صعود رئيس من ذوي البشرة السوداء إلا تأكيدا لأزالة التمميز على الصعيد الرسمي وان اي اصلاح يغض الطرف ويتعامى عن حقيقة بنية التمييز المتناقلة في الولايات المتحدة هو تسطيح للحقائق, وحوادث القتل والتعذيب التي تصدر بين الحين والاخر خير دليل على ذلك وكما حدث لـ جورج فلويد وغيره.  فهل لذوي البشرة السوداء حرية كما للبيض حرية, لقد فكر الناشطين من ذوي البشرة السوداء خصوصا في مرحلة الخمسينات وما تبعها في ضرورة ان يكون هناك فهما مشتركا وتماهيا بين حركات تصفية الاستعمار وبين اي من السيناريوهات يمكن ان ينجح في تفكيك بنية العقيدة الامريكية القائمة على انتهاك وتمميز ذوي البشرة السوداء. فهل ان المجتمع الامريكي بلا اثام؟

فالفرص المتزايدة للحصول على الثروة والعيش بحرية والحصول على السلطة كانت كلها تتم في ظل وجود ضحايا وما يسمى بالاضرار الجانبية, فالمجتمع هناك نشأ من المهاجرين وسحق حياة السكان الاصليين, واستجلب العبيد وانتزعهم من سهول واحراش افريقيا ومن ذويهم واهليهم, إذاً هي آثام اساسية للمجتمع الامريكي.

قضية العبودية

واثناء كتابة الدستور ايضا كانت قضية العبودية اساسية من خلال تأثير آراء سكان ونخب الولايات الجنوبية التي يقوم اقتصادها على العبودية, وعلى الرغم من تحرير العبيد رسميا لكن واقعيا هم لم يحصلوا على حريتهم إلا في حقبة الستينيات فلا زالت تفرض عليهم بعض التقييدات ولا يزال هناك الكثير من بقايا النظام العنصري تمارس على اصحاب البشرة السوداء خصوصا من قبل افراد وعناصر الشرطة الامريكية ولا يزال للسود كنيستهم. فهذه المعركة من اجل الغاء العبودية على المستويات كافة لا تزال مستمرة وان شهدت بعض التقهقر احيانا فقد تغيرت فيها الضمائر بدلا من عدم المبالاة الى الانخراط التام في هذه الانشطة المناهضة للعبودية والتمييز وانضم اليها الكثير من المواطنين الملونين من شعوب وامم اخرى قد هاجروا الى الولايات المتحدة. واليوم بتنا نشهد هذا الامر بشكل اكثر وضوحا وربما يوضح هذا سبب التصويت المتزايد لصالح الديمقراطيين بدلا من الجمهوريين واصبح تولي رئيس ديمقراطي للسلطة وجلوسه يطول في البيت الابيض لدورتين انتخابيتين وفقا للعرف الدستوري وان لم تتكرر فرصة الفوز لنفس الرئيس فربما تكون لحزبه فرصة اخرى . وهذا بسبب ان جمهور الديمقراطيين يشهد اتساعا وقبولا متزايدا من قبل ذوي البشرة السوداء وباقي الملونين الى جانب ان برامجه الانتخابيه اكثر انفتاحا وتعاطيا مع مشكلاتهم, فضلا عن ان التكيلة الحكومية الحالية في الولايات المتحدة في حقبة الرئيس بايدن ووجود كاميلا هاريس نائبة الرئيس.

{ اكاديمي جامعة النهرين

مشاركة