لا ندري أين الرعاة والغنم؟

لا ندري أين الرعاة والغنم؟

معتصم السنوي

بغداد

لم تعد الأسماء تلمع بذواتها لضوء في طبيعتها، ما دام باطنها لا يبعث من الضياء شيئاً، ولا ملصقات لوجوه باهته مكررة على حيطان شوارع منسية من الناس وهم يشاهدون طرقاً عديدة (للتلميع) و(التلوين) في حياتنا المنشورة على الورق؟ وهو في كل أشكاله ضرب من تبادل (المنفعة) تماماً كما يحدث في الأسواق والمصارف؟ المسألة عندهم حسابها بسيط، فليست هي بالعمق الذي ظنه (ديكارت) حين زعم لنفسه أنه موجود ما دام يفكر؟ كلا، لأن الوجود في يومنا مرهون بمقدار ما يتردد في أسماع الناس أسم (الموجود)، أي أن المبدأ اليوم هو هذا: أسمي يتردد ذكره فأنا موجود، وصورتي بالألوان الزاهية تبتسم للناس ساخرة منهم، أذن أنا موجود، رغم الأنوف، وإذا بدأت سيرك من هذا المبدأ البسيط أمامك الطريق، لأن عملية التبادل تصبح واضحة المعالم، فما عليك سوى أن تعطي القائمين على (النشر) شيئاً مما عندك ليبادلوك شيئاً مما عندهم، وإذا تيسر هذا فلماذا تشقي نفسك بمقالة تكتبها، أو تسهر لياليك على كتاب؟ إن (القائمين) على النشر قادرون على ذكر أسمك ونشر صورتك بحساب وبغير حساب، فيتحقق لك الوجود الذي تريد..! هذا هو شيء من فن (التلميع) -ياناس- فهل تصدقون، أن هناك كتّاباً قد أقاموا في دنيا القلم خمسين عاماً، دون يسمع بهذا الفن العجيب في هذا الزمن الغريب، فلا تُخدع الناس بهذا (السراب) لأن الأيام القادمة من شأنها أن تغربل وتغربل مما تركه (الذاهبون)، إلى مزبلة التاريخ، وغرابيلها متدرجة الثقوب، فهي تبدأ بغربال ضيق الثقوب بحيث يبقى للواحد غيابه شيئاً كثيراً في ذاكرة الناس، ولا يضيع إلا القليل، خصوصاً إذا كان الغائب قد ملأ الأبصار والأسماع إبان حياته الصاخبة، لكن الزمن بعد ذلك يمضي مسرع الخطى، وتتبدل في يده (الغرابيل)، بحيث ينتهي إلى غربال ثقوبه واسعة، يسقط منها (الزور) كله و(الخداع) كله..! ولا يبقى في الغربال إلا القليل النافع، وعندئذ ستنظر الناس في غرابيل الذين عنوا في حياتهم بالتلميع لا باللمعان الطبيعي الذي ترسمه ريشة الله على الوجوه، فلا تجد مما ضجوا به في حياتهم شيئاً..! لم تكن حياتنا على هذه الصورة الزائفة إذ كانت الحضارة العربية-الإسلامية في عزها، فلم تكن أسماء (العظماء) بحاجة إلى (تلميع) لأنها لمعت بذواتها، لم يطلب (أبن سينا أو أبو العلاء أو ابن خلدون) من أحد أن يتولى (تلميع) أسمه، لأن قلمه قد جرى بما كان يكفل له أن يلمع بطبيعته، ولماذا تذهب بعيداً في تاريخنا وأمانا رعيل من الأئمة في الثلث الأول من القرن العشرين، لم يدفعوا أثماناً في سبيل (تلميع) أسمائهم بهتاناً وزوراً، لكنهم لمعوا في سمائنا لمعان النجوم. وتفسير هذه (الرغبة الجامحة) في أيامنا الراهنة نحو(التلميع) إلا جزءاً واحداً من موقف شامل تجاه الحياة كلها، فشعار (قادة) هذا الزمن الآن هو هذا (أقل جهد ممكن للحصول على أضخم كسب ممكن)- ولو على حساب تجويع الناس ومعاناتهم..! وعلى أساس هذه القاعدة نفسها، التي يريد بها (البعض) أن يكون عالماً بغير علم وأديباً بغير أدب ومفكراً بغير فكر، إذ يكفيه في (سوق التبادل) التي أشرنا إليها، أن ترسم الخطة المحكمة في توزيع أسمه هنا وهنا وهناك، فمرة تحت جملة قالها، ومرة تحت صورة، وثالثة وهو مسافر أو قادم من سفر، يكفيه هذا ليكون في بنائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي اليوم أي شيء أراده لنفسه علم وأدب وفكر وفن أو أي صفة أخرى، فهي في متناول يده التي أصبحت كالأخطبوط تمتد إلى زوايا المجتمع، وعلى أساس هذه (القاعدة) نفسها طغت موجات الرشوة والأختلاس ونهب أموال الدولة بمثل ما طغت، لأن الدافع إليها جميعاً هو الشعار نفسه، الذي يريد أن يبلغ القمة دون أن يمر بخطوات الصعود..! كل هذا كله في ذهن الناس حين طالبت أكثر من مرة قبل وبعد عام2003 بأن يعاد (تقويم) الأسماء وتطبيق قانون (من أين لك هذا؟) في مجال الثراء بالمال، وينبغي أن يطالب المثقفون بتطبيق قانون مثله في مجال الثقافة، فيسأل كيف صارت الريادة الثقافية لمن يرودها؟ وكذلك على السياسيين الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها من عباقرة السياسة وواضعوا قواعدها في العالم وهو يجهلون أبجديتها..! أجاءتهم عن طريق (التلميع) أم جاءتهم عن طريق اللمع الفطري والتثقف الذاتي..! ولسنا أول من أصيب بمثل هذا الضلال، ولكنه ضلال يعاود (الظهور) في أي شعب إذا ما ظهرت فيه بوادر الضعف في نواحي حياته الأخرى، وهذا يعني بأن الخبث لم يختص في إقليم دون إقليم، والمسألة بعد ذلك درجات، وأنني على ثقة تامة من أن الباقيات دائماً هنّ الصالحات، ومؤمن أشد الإيمان بقدراتنا لو أخلصنا النفوس للعمل، وإذا كانت حياتنا بكل تفاصيلها قد أنهارت كل هذا الإنهيار الذي نراه، فليس ذلك لأن القدرة قد أصابها شلل، بل لأن الشعار (الفاسد) قد ساد وطغى، وأعني به الشعار الذي يدعو إلى (بذل الجهد الأقل للحصول على العائد الأكبر). فمن ذا يغيرنا نحو الأفضل إلا جيل (جديد) يستأنف إخلاص الأقدمين؟ وقد ملأتني حسرة عندما قرأت لأحد المؤلفين الأجانب (وقد كان يمكن أن يكون من ألد أعدائنا) تحليلاً مستفيضاً عن الفكر العربي، فما وسعه إلا أن يشيد بمجهود أسلافنا في عالم الثقافة، وأخذ يذكر لهم المعجزات، ثم عقب على ذلك بحديث عن العرب المعاصرين، لينتهي به الرأي إلى أننا مازلنا على قدرة أسلافنا -لكنها قدرة- في رأيه- قد أفسدتها ضروب من الخيانة العقلية، فمن مظهرية جوفاء كاذبة تفوت علينا المضمون الثقافي الصحيح، إلى (حب التسلط) قبل حبنا للحياة الفكرية في ذاتها، ليتشابه به سلوك بعض المثقفين بأصحاب المناصب الحاكمة، فأراد أن تكون له حاشية من الأتباع ينفخون له في أبواق الصحف والقنوات الفضائية والمجالس الأدبية، نفخاً يعطيه (الصولجان) وهو متكئ على الأرائك مقلداً سلاطين الدولة العثمانية..! وعلينا أن نستذكر دائماً من أن الخيانة الفكرية قد ولدت فينا خيانة، وهذه الثانية ولدت ثالثة، حتى أصبحنا لا ندري في حياتنا كلها أين الرعاة وأين الغنم..؟ وحبذا لمن يهمه الأمر ان يتذكر قول الله تعالى: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ  إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ  وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) (سورة القيامة، الآيات: 20-24).. والعاقبة للمتقين.