لا مهرب من لوعة القلب – هدير الجبوري
صدفةً قرأت جملة قصيرة، لكنها باغتتني كما لو كانت نداءً بعيداً اخترق صمتي وأعادني إلى نفسي:أين المفر؟ وعيناك أمامي، وفراقك ورائي.. والعمر مستحيل بك، ومستحيل بدونك…
توقفت أمامها، شعرت أنها لم تُكتب عبثاً ، بل كُتبت بصدق في قلبي أيضاً.. فهي لا تصف مجرد حالة عاطفية عابرة، بل تختزل تجربة إنسانية عن الحب المستحيل، وعن اللوعة التي تستوطن الروح حين تدرك أن ما تتوق إليه لن يُدركه الواقع، وأن ما تحلم به سيظل حبيس المخيلة، ومع ذلك لا تستطيع أن تكفّ عن الحلم.الحب المستحيل هو الامتحان الأصعب في حياة القلب. أن ترى أمامك من يختصر لك الوجود كله، وفي الوقت ذاته تكتشف أن المسافة بينك وبينه أبعد من أن تُقطع. أن تحيا بأمل كلمة لم تُقل، أو نظرة لم تُمنح، أو ابتسامة لم تُوجَّه إليك. هنا يتجلّى العذاب الخفي: أن تُحب بصمت، أن تختزن في داخلك بحراً كاملًا من المشاعر دون أن تبوح بقطرة منه، أن تتقن فنّ الإخفاء بينما يتآكل قلبك في الداخل.
كيف يستطيع إنسان أن يخفي كل هذا؟ كيف يضحك وهو يذرف دموعاً لا تُرى؟ كيف يواصل حياته الطبيعية بينما يحمل في صدره غياباً يوشك أن يفتك به؟ إنها قسوة لا يُدركها من لم يجرّبها، قسوة أن تبكي دون أن يعلم أحد، أن تشتاق دون أن يلتفت إليك من تشتاقه، أن تحلم بمحبة بسيطة، بحضور دافئ، لكنك لا تنال سوى صمت الغياب.إن اللوعة ليست مجرد شعور عابر، إنها تجربة وجودية. تضعنا أمام حقيقتنا العارية: أننا مخلوقات هشّة، وأن قلوبنا لا تُدار بالحسابات العقلية وحدها.
اللوعة تجعلنا نعرف أن الحب ليس دائماً خلاصاً، بل قد يكون سجناً داخلياً نغلق أبوابه بإرادتنا، ونتجول فيه وحدنا، ومع ذلك فإن هذا الألم يحمل درساً عميقاً: أن الإنسان قادر على النجاة، حتى من حب لم يُكتب له أن يتحقق.
في الجملة التي بدأت بها يكمن جوهر: أن يكون العمر مستحيلاً بك، ومستحيلاً بدونك. إنها ليست فقط استحالة لقاء الآخر، بل استحالة التوازن في الداخل: لا في القرب حياة، ولا في البعد نجاة. لكن هل يعني هذا أن الطريق مسدود؟ على العكس، إن المعاناة نفسها تفتح لنا باباً آخر، باباً نحو فهم أعمق لذواتنا.فالكتابة مثلًا تتحول هنا إلى خلاص. الكلمات تلتقط وجعنا وتحوّله إلى شكل يمكن احتماله، وحين نكتب اللوعة فإننا لا نمحوها، بل نمنحها حياة ثانية، حياة نستطيع النظر إليها دون أن نغرق فيها. وبهذا، يصبح الحرمان مصدر إبداع، والمستحيل مادة للفكر، والصمت حافزاً للصوت.
أين المفر إذن؟ المفر ليس في اللقاء دائماً، ولا في النسيان القسري، بل في قدرتنا على تحويل الحرمان إلى معنى. أن نعيش مع فراغ لا يُملأ، لكن دون أن نسمح له بابتلاعنا. أن نحمل جرحنا كعلامة لا كقيد، وأن نصنع من غياب الآخر حضوراً فكرياً يمنحنا قوة على الاستمرار.وعيناك ما زالتا أمامي، وفراقك ما زال ورائي، والعمر يبدو مستحيلاً بك ومستحيلاً بدونك.. أدركت معها أن الاستحالة ليست نهاية المطاف، بل بداية لفهم جديد: أن الإنسان قادر على تحويل جراحه إلى وعي، ودموعه إلى كتابة، وحرمانه إلى درس أبدي في الحب والنجاة معاً….