لا تأت متأخراً
شكر حاجم الصالحي
تأخذك نصوصه الباذخة في مجموعته الصادرة مؤخراً عن اتحاد أدباء العراق الى حيث مضامير التجارب اليومية التي اكتوى بنارها , أبناء الوطن في مختلف عهودهم التي أثقلت كواهلهم بالاحزان والفقدانات والمراثي الموجعة , وأزعم ان نصوص الشاعر جلال حسن هذه هي ايقونة مشتركة لجميع من مسّه الضرّ واتعبته السنوات العجاف , وهكذا هو الشعر الحقيقي أبداً مرأة لتصوير الكبوات والخسارات والانتصارات النادرة , فليس الشعر كما أرى عبارة عن غياب مفتعل وتجارب لم تقع , بل هو ــ الشعر ــ نبض الحياة ودينامية استمرارها , وقد تميزت نصوص ــ لا تأت متأخراً ــ بالصدق والوضوح واللغة الدالة على دربة المنتج وحرصه على انتاج ما يمكث في الذاكرة من نصوص تقتفي أثر الجراحات العميقة في وجدان العراقي الذي شاكسه الزمن ليجعل منه مهاداً لفجائعه وخيباته , وتكاد تكون ــ لا تأت متأخراً ــ متميزة بمضامينها , معبرة عن هواجس مبدعها الانسان ــ المبتلي بالهزائم وانهار الدم , ولايمكن ـ لي ـ على أقل تقدير المفاضلة بين نصوص المجموعة الـ (( 28 )) نصاً , فمععظمها ان لم أقل جميعها تستقي موضوعاتها من تنور التجربة العراقية على امتداد سنواتها الحافلة بالموت والارامل والتضحيات والحروب , لكن هناك نصوص تميزت على قريناتها بالحرارة والحميمية وأخص بالذكر منها : أصابع على وتر الكمان / ص 16 , شئ ما يخصني / ص 30 , ألم بلا ضمير / 69 , عابرون / ص 72 , ولا يعني ان بقية نصوص ــ لا تأت متأخراً ــ ليست بذات اهمية النصوص آنفة الذكر , ولكن ذائقتي الأنطباعية رأت ما رأته فكانت الخلاصة هذه القراءة التي أخترت فيها نصيّن كنماذج تفيض شعراً وصدقاً وحميمية واول هذه النصوص : شئ ما يخصني , الذي يقول الشاعر في مقطعه الأول :.. بعد زمنٍ سنغمض العينين / أنتِ في مقبرة أوربية مليئة بالورد / وأنا في مقبرة تسمى دار السلام / يا ربّ … حتى مقابرنا متباعدة !/ ربما الفرق في حنوٍّ حفّاري القبور / لكن نحن الأشد قسوة في رمل تلك المقبرة / المسماة دار السلام / في هذا المقطع الذي يتناول فيه الشاعر جلال حسن أزمة البعد بين حيين قدرت الظروف الضاغطة ان يكونا في بلدين مختلفين , ولهذا فهو يشكو الحال الذي فرضته قسوة الغربة وقيم المجتمع المتباينة وصار ما صار من نهاية فاجعة بينهما حتى في (( الممات )) فهي سترقد في ــ مقبرة أوربية ــ وهو في مقبرة تسمى ــ دار السلام ــ والفرق كبيرين البيئتين , فهناك الورود وهنا الرمال , وهناك الارض الخضراء وهنا الارض الموحشة الغبراء , ويجسد جلال حَسن ذروة الألم في قوله :.. سنرقد آلاف السنين / ونمكث في قارتين منفصلتين / نعاني من وجع الفراقِ ,/ ومن وحشة الطير / لاننا لم نشبع من بعضنا / ولم نرتوِ / صحيح , كنت اكتب قصائد حبّ لكِ / لكن اعجابك كان تحيات عابرة / لم تغرِ حتى لصوص المقابر والشعر / ص 31 , أما النموذج الآخر من النصوص التي أراها متميزة بصدقها و واقعيتها نص ــ ألم بلا ضمير ــ ص 69 الذي ينثال فيه الشعر بحرارة وشجن :
الجســدُ يأكل الجســد
الســـرطان نعىٌ مبكر
{{{
لم تكن حربك لكي تنتصر
كنت جندياً بلا أعــــــــداء
لقوا لك ألـــــف عـــــــدوٍ
وقالوا دافع عن نفسك , لوطن مهدد
فأصابتك شظية مدفع هاون بالرأس
على أثرها قعـــــــدت جـــريــحاً .
بهذه الروحية العراقية المحترقة أودع جلال حسن رؤيته في نص متميز عاش اغلب فصوله عراقيو الثمانينات , وكان لهم في كل بيت أرامل واطفالاً ينتظرون قدوم الأباء من جهات الموت والدمار… وأخيراً وهذه وجهة نظر شخصية أرى فيها ومن خلالها ان جلال حسن أنتج لنا ــ لا تأتِ متأحراً ــ بمهارة ودربة ولغة معبرة عن هواجس الانسان العراقي في زمن الموت المجاني ………….