لا‮ ‬يمكن قراءة الزمن إلا من خلال الأدب – نصوص – ‬عصام القدسي

روائي يتحدث عن العلاقة بين السرد والسينما    2-2

لا يمكن قراءة الزمن إلا من خلال الأدب – نصوص – عصام القدسي

عباس خلف علي تولد 1955 كربلاء / العراق . خريج معهد الفنون الجميلة / قسم السينما عام 1974. عمل في القسم الوثائقي في تلفزيون بغداد وأخرج عدداً من الأفلام القصيرة . استعيرت خدماته للتدريس في المعهد كمحاضر من عام 1976-1999 . كتب العديد من البحوث والدراسات السينمائية والأدبية ونشرها في عدة صحف عراقية وعربية . اهتم بالمقاربات بين الخطابين الروائي والسينمائي ومدى تجاذبهما أو اختلافهما . يعد الفيلم القصير منافس خطراً للفيلم الروائي الطويل لما يحمله من إشارات سينمائية ملغزة ذات دلالات ومعاني أكثر تأثيرا على ذائقة التلقي . أصدر الأعمال الأدبية التالية : فرصة لإعادة النظر ، مجموعة قصصية 1999 دار الشؤون الثقافية العامة عدسة الرؤيا رواية 2001  دار الشؤون الثقافية العامة مدينة الزعفران – سيرة مدينة – 2002  دار المدى بغداد وأعيدت طبعها 2010 دار الشؤون الثقافية كور بابل رواية تحت الطبع ، نشرت فصول منها في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية.ونشرت كاملة في مجلة الكلمة العدد 32  ايلول 2009 التي يرأس تحريرها الناقد د. صبري حافظ من اعترافات ذاكرة البيدق رواية صدرت عن دار فضاءات 2013 عمان / الأردن . عربة هولاكو رواية قيد الإنجاز . تحت الطبع كتاب – تحولات السرد في الخطاب السينمائي.

{ قيّم تجربتك مع مجلة الرقيم باعتبارك رئيس تحريرها.؟

شكرا أخي أستاذ عصام على هذا السؤال ..نحن نفهم الرقيم بأنه مطبوع ثقافي يهتم بالدراسات والبحوث الفكرية والأدبية والفلسفية والثقافية وهذا المطبوع منفتح على كل الكتاب وفي جل الاختصاصات في عالمنا العربي ونعتقد  بهذه الخطوة قد ساهمت في التنوع الثقافي عبر محاور المجلة التي امتدت إلى احد عشر محورا يتناول مختلف الفنون والآداب ..ومنذ عددنا الأول قلنا إن المجلة لم تطرح على أساس انها  منافسة للمطبوعات الأخرى بل لدينا خطا ستراتيجيا ماضين فيه إلى النهاية يتمثل بالحرص على قيمة الكلمة وثراها المعرفي ويمكن للقارئ النبه والفطن أن يلمس ذلك في محتوياتها كذلك إن ما نطرحه في الرقيم مختلف جذريا عما يروج في الصحافة الأدبية  لأن ما يكتب في الصحافة  باعتقادنا المتواضع لا يتجاوز محيط التنميط والاستهلاك والتكرار و ثمة  نقطتان يمكن ملاحظتهما هما  (الإيجاز) وهذا لا غبار عليه لأنه  يتمثل باشتراطات بعض الصحف والمجلات في تحديد عدد الكلمات المراد توظيفها في الموضوع ولزيادة اكبر عدد ممكن من الكتاب على صفحاتها ، ولكن مايعنينا هو بلاغة هذا الإيجاز الذي  يحتاج إلى مهارة استثنائية  لأبعاد ثلاث هي : الاختزال والتركيز والتكثيف ، بغية تجسيد المعنى المراد توظيفه ..فهل حقق هذا الإبلاغ شيئاً من  هذه الحقيقة  ؟ ثم النقطة الثانية تكمن في ( الأسلوب ) الذي يتعمد أن يكون بمستوى أدواتنا التوصيلية التي نستخدمها في حياتنا اليومية ..فهنا يصبح السؤال الملح ..هل يطمح الأدب أن يتراجع عن مفهومه وسياقاته الفنية والإبداعية أمام  طبيعة وهيمنة اللغة الصحفية  ؟ نحن نعتقد كهيئة تحرير وإن كنا معنيين في (الإجابة) عن طبيعة هذا الموضوع ، ولكن نرى في ذلك نوع من إسقاط فرض غير راغبين الخوض فيه ، لسبب بسيط هو ، أن مثل هذه الإجابات   تجعلنا في موضع  تحديد أفق وليس مقترحاً لأفق ، ولهذا نسعى بكل تأكيد على أن تكون لدينا مرجعيات نقدية فاعلة تأخذ على عاتقها تأشير مواقع الخلل وتشخيصه  ومن ثم تقويضه وإضعافه ، فغياب هذه المرجعية أدى إلى خلط الحابل بالنابل ..الغث والسمين وصعود الشعبية على حد قول الغذامي وتنامي (سقط المتاع ) وانتشار ظاهرة الهشاشة في الكتابة  ليس على مستوى الصحافة بل تجاوز ذلك إلى الفنون الإبداعية كالمجاميع الشعرية  والقصة والرواية ولذا  حرصت هيئة التحرير أن ترسم من خلال أعدادها الماضية  طبيعة الخطاب المعرفي وتجليات أبعاده الإنسانية في التكوين والصيرورة (المضمون والمحتوى)  ومدى قدرته على المساهمة في ميدان التنوير والتحديث في آلية قراءة الظواهر  و المتغيرات العصرية  ..فهل بإمكانها أن تفتح  أفقا للتصور والرؤى ؟   ..وأسئلة أخرى لم تزل تبحث عن إجابة ونحن مثلها في طور المسعى نستقصي سبيلنا في السؤال بزمن صار مكتظا بالمعاني …

وهذا لايخفي عن بال المتتبع من ان الرقيم  كادت توأد  في مهدها بسبب مواجهات جمة أولها عامل التمويل الذي يعد الشريان الحيوي لكثير من المشاريع الفكرية التي بعضها أجهض وتحول إلى مجرد أفكار  لأنها تتعارض شكلا ومضمونا معه وإذا انقادت لهذا العامل  إنها حتما ستكون  أسيرة لغلوائه وأهوائه فأصبحنا  في ظرف لا نحسد عليه بين الحقيقة والوهم  و كلاهما يضعنا أمام مراهنات جديدة  إن أردنا خوض المغامرة ..المغامرة التي نحتاجها كضرورة قصوى وليس تلك التي تسوغ لنفسها ما ليس فيها  ، في زمن أصبح فيه التعامل مع الأشياء على وفق قصور الرؤيا ويُنظر لها من زاوية الربح والخسارة ولذا كانت تعني لنا المغامرة وسيلة التحفيز على التواصل وتجاوز إشكالية ما يحصل .

  لقد عاهدنا أنفسنا كهيئة تحرير منذ أن شرعنا في الافتتاحية للعدد الأول  على أن يكون  هدفنا قائما على فهم ثنائية  فعالية الكتابة وفعالية القراءة كحضور يتعلق بإستراتيجية الخطاب للمجلة   وإننا ماضون خطوة خطوة  في مسيرة الألف ميل الشاقة والمتعبة هذا من جهة ، ولم نسع أن يكون  مطبوع الرقيم  منافسا كما ذكرنا ولا متحديا لطبيعة المطبوعات الثقافية من جهة أخرى  …أن هذا الإصرار هو المنهج الذي  نتبعه بحرص شديد من اجل  أن يكون  لنا دور متواضع في عملية تفعيل آليات السبل المعرفية ومستلزماتها الأدائية ..

{ برأيك ما الغرض من فن السرد.؟

– هو فن التراسل :

وفي هذا التراسل تتسع رؤيا النفري  أيضا إزاء العبارة التي ضاق بها الواقع لمحدودية دلالتها لتلتقي مع إشارة الحلاج الذي لفت انتباهنا إلى( من لم يقف على إشارتنا …)  وهكذا تبقى الصورة قائمة أو راشحة لخيالاتنا وهي تدور في فلك المعاني  وتخوض في نسيجها أحلام ورؤى متعددة لتجسد لنا استعارات أبهى من الحقيقة التي ولدت منها .

{ كيف السبيل لاحتلال الأديب مكانته اللائقة في مجتمعنا .؟

– وقبل نتحدث عن السبل الكفيلة بارتقاء الأديب مكانته المناسبة لابد لنا ان نتطرق لواقع الأدب …فمن المفترض  ان يكون هناك وعي تام بدور الأديب الاشراقي  ومكانته الفكرية وان الزمن لا يمكن قراءة مراحله إلا من خلال الأدب وهذه حقيقة ثابتة على مر التاريخ ..الأدب صورة مشرقة للبلدان والشعوب ، ولذا نلاحظ تزين اغلب الشوارع والحدائق والساحات العامة بتماثيل لهؤلاء الأفذاذ الذين كانوا مشاعل النور في بلدانهم  وإن بلد مثل العراق لا يمكن لأحد ان يتغافل  عن دوره الإنساني التي تجمع كل دول العالم بأنه الرئة النابضة لحضارة العالم القديم وإذا به يهمل كل شرائحه الطليعية في ميادين الأدب والفكر والفن وهذه هي  الطامة الكبرى..ومن اجل النهوض بهذا الجانب على الدولة المدنية أن تعيد حساباتها بشكل حضاري وانساني وان تتكفل  بالدعم المادي والسكن اللائق والرعاية الصحية وأن تهتم بالانجاز الأدبي ودوره الخلاق بإعادة برامج ترويج الكتاب محليا وعربيا واقليميا  وأن تبادر الجامعات العراقية بعد ان توسعت وانتشرت على مساحة البلد ان تتولى شهريا بالاحتفاء بالكتاب العراقي الأكثر تداولا خلال شهر حتى لو كان ذلك على مستوى الجامعة او المدينة  وبذلك نكون قد حققنا خطوة أولى في الطريق الصحيح للارتقاء بواقع الأديب والأدب بصورة عامة .

{ كيف ترى اداء وزارة الثقافة وماهي مقترحاته لتصحيح مسارها.؟

 – بالأحرى لم يكن لدينا نظام مؤسساتي لكي نقرأ حركته ومساره وتوجهه وإنما هناك إقطاعيات منتشرة بأسماء وعناوين شتى تعصف بهذه الوزارة منذ 2003  وحتى الآن  وبالتالي  انعكست هذه المظاهر السلبية  بشكل فوضوي على أداء ومهمات طبيعة عمل الوزارة  وخلق فجوات واسعة بينها وبين الثقافة ، لم نجد وزارة بالمعنى الحقيقي تمارس دورها الحضاري والتنويري ..بل بقيت وزارة هامشية عاطلة ومشلولة وغائبة عن الوعي الثقافي وما يحتاج إليه من برامج  وخطط  أساسية في البناء والتطوير والتحديث .. أكتفت بارتمائها في أحضان القرار السياسي وتلبية أهدافه ومراميه والترويج لهذه الفئة أو تلك ، أما العناوين داخل الوزارة باتت معروفة بأن أغلب من يشغلونها ليس لهم صلة من قريب أو بعيد بالشأن الثقافي …تتمثل في أشخاص لا هّم  لهم  سوى اللهاث وراء المنافع الشخصية والاستحواذ على  المكاسب والتمتع بالسفر المجاني وحضور المؤتمرات ولهذا لم تستطع الوزارة وهي المعنية بإرث وحضارة بلد أنتج أول حرف في العالم سنة 3500 ق .م من أن تفتح  مسارح ودور السينما في بغداد  وتعيد إليها نظارتها المفقودة أو تقيم مهرجانا وطنيا فتنيا وإبداعيا يليق باسم بغداد ووصل الحد إلى درجة إنها أدارت ظهرها عن المطبوع العراقي ولم يعد يهمها حضوره في المحافل الدولية والإقليمية لمعرض الكتاب ، ناهيك عن دورها الهزيل في ما يسمى  بقصور الثقافة في المحافظات الذي بات عبئا على الثقافة فيها ..أما أذا أردنا  الخروج من هذا المأزق والارتقاء بعمل مستوى وزارة الثقافة وجعلها  فاعلة ومؤثرة في محيطها العربي والدولي يجب أن تكون من ضمن الوزارات  السيادية في البلد وإبعادها عن المحاصصة والولاءات العرقية والطائفية والحزبية  وتشكيل برلمان ثقافي واسع يشمل كل الطيف الثقافي  ومكوناته الإبداعية  يتولى بنفسه عملية اختيار الوزير وإدارة مهام الوزارة وشؤونها المختلفة . .

فهل من الممكن أن يتحقق ذلك ؟

{ من من الروائيين العراقيين تراهم يرتقون إلى مصاف الكتاب العالميين.؟

– الروائي العراقي لا يختلف عن غيره  إزاء مواجهة الأحداث  في تركيب مادته الخام  أمام كم هائل عاشته بغداد على سبيل المثال كمدينة ليست رئيسية أو عاصمة أو حاضرة خلافة  فقط بل لأنها محتوى لمضمون أوسع وأشمل نستطيع أن نسميه قطب الرحى لكل قضايا العراق تاريخيا واجتماعيا وسياسيا ، ولذا لم يكن عفويا استغلال هذه النتيجة إزاء القيمة المطلقة لخصوصية المدينة التي تحمل بين طياتها أسئلة كثيرة  في تحولاتها ومتغيراتها التي لم تنكسر أمام العقبات الكبرى التي تراوحت مابين  غزو مدمر وسقوط حتمي في أن تعيش  كالعنقاء .

يقول صمويل بيكيت  كتب جويس عن مدينة مطاردة في الواقع ومقصية عن الحديث عنها جهارا والمخبرون السريون يبحثون في الحقائب عمن يحمل أثرا عنها لم تخف عنه طموحه في كتابة نصوص ( مواطنو دبلن ) ليكون رمزا وهوية لها ،  بعد أن  فقدت دبلن كل شيء .

فهذا يعني أننا أمام قيمتين لا يمكن لهما الانفصال عن بعضهما  هما الذاكرة والمدينة بحيث تصبح عملية التلاحم بينهما ذات وشائج مترابطة ومتماسكة لا يمكن الإفلات منها بسهولة ، المدينة تفوق التصور وممكنات التحديد ، إنها عالم من التحولات الطبوبوغرافية  والأنطلوجية لم يضح التاريخ فيها المادة الوحيدة  ولذا نجد السارد بصورة عامة والعراقي على وجه التحديد في تعامله مع المدينة  متشعبا وغير منكفئ على زاوية ثابتة ، أشاراته تتوزع في دلالاتها على  مختلف الاتجاهات ، التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية ، ولكن يبقى السؤال قائما وملحا بعض الشيء وهو  ، كيف يستعيد النص  قراءة خيوط الواقع ، تقول الكاتبة  نورية الرومي  إن مفهوم الواقع ليس الواقع كوثيقة إنما هو واقع فني يحول الحدث التاريخي أو التجربة الحقيقية إلى تجربة فنية ويؤكد ذلك المستشرق الانكليزي روجر آلن من أن الوثيقة يفترض أن تتحول إلى مرويات ذات أبعاد رؤيوية وإلا تعود إلى مادتها الأصلية ..نبع الحكاية وصلتها التاريخية ، ومن ذلك نستشف أن المدينة كمكان جغرافي له سماته ومميزاته وعلائقه الأخرى المتمثلة بالتاريخ والحوادث  ، الذاكرة إذن تراسل مطلق مع  هذا الفضاء ويضيف باشلار صلة التفاعل الحسي والوجداني الذي يعزز من أواصر الألفة والحميمية ، فهذان العنصران يعتبرهما فلادمير بروب في موفولوجيا الحكاية أساسية في التوليد والتخليق لبناء العمل الفني ، هذه المقولات إذا أردنا أن نطبقها ونماثلها على صيغة التقارب  مع الأعمال الروائية العراقية وبالخصوص تلك التي استثمرت مدينة بغداد كمحور مركزي تتمفصل حوله ممكنات الحكاية فإننا سنجد مستويات متعددة في البوح السردي وذكرها د. نجم عبدالله كاظم في كتابه – التجربة الروائية في نصف قرن –  على شكل مراحل ويقصد البداية التي تشكل فيها الفن الروائي في العراق وإن كنا بالفعل لم ندرس البداية الحقيقية والجادة للكتابة الروائية في العراق باستثناء بعض الكتابات على حد علمي التي  قام بها د. عبدالأله أحمد ود. شجاع العاني ود. محسن الموسوي ود. صبري مسلم  والناقد فاضل ثامر والكاتب عبدالقادر أمين ومحاولات د . باقر جواد الزجاجي وغيرهم التي أسهمت في أثراء هذا الجانب الذي يفتقر إلى دراسات معمقة كالتي  نلمسها في اغلب القراءات المصرية مثلا في تناولهم لهذا الموضوع ، عموما ، لا نريد أن نخوض في مسار هذا التاريخ بقدر تعلقه بموضوعنا ..فأن هذه المراحل التي نشأت مع محمود احمد السيد (في سبيل الزواج ،ومصير الضعفاء) و   التي وصفهما د . عبدالأله احمد وإن كانتا بسيطتين  في معيارهما الفني إلا إنهما يعدان  مؤشرين في دخول هذا العالم الذي لم يكن مسبوقا في العراق وعليه توالت بعد ذلك  الكتابات الأخرى ليوسف متي وعبدالحق فاضل ووأنور شاؤل وذنون ايوب وشالوم درويش وجعفر الخليلي ومن قبلهم  عطا أمين  رائد بما آصُطلحَ عليه بقصص الرؤيا وغيرهم ، كانت المدينة حافزا لتجليات الأبعاد الثلاث النفسية والاجتماعية والسياسية في الكتابات السردية ورغم أنها في الأغلب تبدو متاثرة بواقع المدينة الفسيح والكبير إلا أن ردود فعل القص لا يتجه ضمنا لهذا المنحى وإنما يتخذ من المكان وعاء ليس إلا ….للوقوف على مثل هذه الحالة نرى أن أغلب الكتابات تتنقل بين أمكنة بغداد وأحيائها وأزقتها وشوارعها وسلاطينها وحكامها وطبيعة الناس فيها وكأنها مرآة عاكسة لما يجري أو أنها تستعير أفكار بعض النصوص  سواء كانت مترجمة أو عربية وتعيد صياغتها من جديد أو أنها تستلهم من تراث السرد في الملحمة والمقامة والسيرة الشعبية أو من أدب ألف ليلة وليلة شكلا للتجانس أو فرصة للتعبير عن الحكايات التي تأتي غالبا تقريرية ومباشرة ، بينما المرحلة الثانية  كانت أكثر التصاقا وتماسكا في طرح المضمون ، بحيث لم تكن أجواء بغداد ساكنة أو مستقرة وثابتة في طبيعة السرد ، بل أنها لجأت إلى الخصائص والوظائف في معالجاتها السردية  ومنها استطاعت أن تشكل ما يمكن تسميته بالواقعية الأنتقادية ، التي لا تخفي البواعث الأيدلوجية أن تكون محفزا لهذا التوجه كما هو واضح في نشيد الأرض لعبدالملك نوري  التي قال عنها عبدالرحمن طهمازي نشيد الأرض نقد الضعف الذي تسببه الظروف غير الأصلية. إن أشخاصها غير راضين عن حياتهم، غير مسرورين  يعرفون المسافة الحساسة بين رغباتهم وتحققها الفاشل. لا يمكن النقاش عن مصائرهم التي لا تقبل الاستئناف فهي مخططة اجتماعيًّا ونفسيًّا ويلزمهم الحل من خارجهم: طفل ينذر طفولته للرجولة، ريفي تثيره المدينة وتصطاده، رجل يحكم المبغى حياته الجنسية من دون تلطيف، نادلة مقهى متهيبة من أنوثتها، مدمن خمرة يجمع أسباب إدمانه بولع، رجل متعطل، اجتماعيًّا، يحفر ثغرات جديدة في  عطالته.، ضحايا ضعفاء يقيس بهم النظام قوته.ونزار عباس في – مياه جديدة – بعد ما يلتصق بالمدينة كل صفات التفاهة والرتابة كما يقول عنها رزاق ابراهيم حسن في كتابه المدينة في القصة العراقية  يجد البطل أن المدينة ستولد جديدة بالسيول السمراء الحاقدة …أما المرحلة التالية فكانت متميزة في التعبير عن المتناقضات عبر بناء فني متجدد مخترقا النمطية  السردية المكررة  بنسق تتسع فيه الرؤيا والتحليل والتكثيف والتجريب وتعد النخلة والجيران واحدة من الأعمال المهمة في هذا التحول من حيث التقنية وسماتها الفنية الناضجة في استلهام أمكنة الصراع أي تحويل الأجواء العامة التي تتمتع بالخصوبة كمادة خام إلى معنى حقيقي للتعبير بدلا من التسطيح والمباشرة في تناول السارد إلى الموضوع ،  حيث نجد البؤر تنفتح على مجمل المكونات التي يؤثثها النص ،  الزقاق الذي يطل منه صاحب الدراجات أو الخان الذي تجتمع فيه العوائل   والمقهى في تقابلاته الاجتماعية والغرف المكتظة وهي تراقب عن كثب  مخططات مؤجلة  وتتسع  أيضا الأحياء لتشكل كلا منها وحدة خصائص جديدة في التوظيف   ، ولعل الحكم على رواية النخلة والجيران بهذا المنظار لا يلغي السمات الفنية الناضجة لبعض الأعمال الروائية العراقية   التي صدرت في بداية الستينات مثل أعمال فؤاد التكرلي وشاكر خصباك وموفق خضر وغيرهم من رواد هذه الحقبة التي تكاملت فيها أغلب العناصر الفنية القادرة على توليد سياقات متنوعة فنلاحظ على الرغم من اقتراب النص إلى طبيعة الواقع المعاش في اللغة والأسلوب  فان السارد يعرف كيف يتماثل معه   من خلال خلاصه الأيديولوجي والسياسي   و أن يجعل من المادة الحكائية فضاء ثقافيا متنوع الأغراض والوظائف ، هدفها الأساسي  تشكيل حقيقة أخرى موازية في لغزيتها لما يمكن أن يكون تعبيرا عن طبيعة الصراع النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعانيه الفرد ..

 وبذلك نصل إلى نتيجة مفــــــادها أن الأدب العراقي أدب جاد وملتزم وسيرتقي يوما ما المكـــــانة اللائقة عالميا .