كيكو ساكاي‮ ‬عاشقة التاريخ العراقي – نصوص – محمود عبد الواحد محمود القيسي

أضواء على الإستعراب الياباني:  -1-

كيكو ساكاي عاشقة التاريخ العراقي – نصوص – محمود عبد الواحد محمود القيسي

مثل تاريخ العراق المعاصر وسياسته حقلا مهما في المؤسسات الاكاديمية العالمية:الغربية والامريكية.مع ذلك، شاب العديد من دراسات المستشرقين عدم موضوعية ورؤية استعمارية تحاول ان ترسم صورة العراق وفقا لرؤية الذائقة الغربية. فقد ركزت غالبية هذه الدراسات على “عدم أصالة مفهوم الدولة العراقية ” ،وإن “الأمة العراقية ” مصطنعة من قبل الساسة البريطانيين ضمن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى ” .

وهكذا اتسم الكثير مما قدمته المؤسسات الأكاديمية الغربية عن تاريخ العرب والعراق الحديث والمعاصر برؤية بعيدا نوعا ما عن الواقع العربي والعراقي. هذا لا يعني التعميم على جميع الدراسات الغربية عن العراق والعالم العربي ،فهناك اختلافات في الرؤى والتحليل والتفسير بين المدارس الغربية المتعددة،وعلى نحو خاص البريطانية والفرنسية والألمانية والأمريكية. فقدم بعضها دراسات جادة أصبحت مصادر مهمة في تاريخ العرب والعراق الحديث والمعاصر.

وتمثل الاكاديميا اليابانية المتخصصة في الدراسات العربية والشرق أوسطية عموما والعراقية على نحو خاص رؤية أخرى اختلفت في مخرجاتها عن الرؤيتين الغربية ، ولاسيما ما يتعلق بمحاولة اليابانيين على مدى عدة عقود الحصول على المعلومات عن الشرق الأوسط بأنفسهم دون الاعتماد على الرؤية الغربية التي أثرت على الجيل الأول من المستعربين اليابانيين الذي بدأ منذ أواخر عهد ميجي(1868-1912) واستمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان لأحداث الشرق الأوسط والعالم العربي منذ عقد الخمسينات من القرن العشرين والتغييرات البنيوية التي شهدتها مجتمعاته دراماتيكيا وبلغت ذروتها عشية” الصدمة النفطية ” عام 1973دور بارز في تغيير الرؤية اليابانية للشرق الأوسط وتشكل منظور ياباني جديد اقترب بقوة من واقع العالم العربي وأدى الى ظهور مستعربين جدد برؤى مغايرة أثرت الدراسات العربية الإسلامية والشرق أوسطية. ولعل كتابات يوزو ايتاكاكي وسانئيكي ناكاؤوكا وأكيرا غوتو قد شكلت اتجاها جديدا في الدراسات اليابانية عن الشرق الأوسط والعالم العربي وأدت الى ظهور مؤسسات داعمة ومؤثرة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي عن العالم العربي والشرق الأوسط. مثل هؤلاء وزملاؤهم جيلا ثانيا مفعماً بالحيوية والنشاط لفهم واقع العالم العربي عن قرب بعيدا عن المركزية الغربية طاغية التأثير في الكتابات اليابانية التي مثلها الجيل الأول.

وتأتي البروفسورة كيكو ساكاي Keiko Sakai ، أستاذة التاريخ السياسي الحديث للشرق الأوسط في (جامعة تشيبا )Chiba University التي انتقلت إليها منذ عام 2012، بعد ان عملت مدة استاذة للدراسات الشرق أوسطية في (جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية) منذ عام 2005، وخبيرة بالشؤون العراقية في المؤسسات السياسية والفكرية اليابانية ،على قمة المؤسسة الاكاديمية اليابانية المتخصصة في الدراسات العراقية المعاصرة بما قدمته من انجازات مهمة حضيت بتكريم المؤسسات البحثية اليابانية عدة مرات. فقد مثلت البروفسورة ساكاي الجيل الثالث من المستعربين اليابانيين الذين اعتمدوا معايير جديدة في دراساتهم عن الشرق الأوسط والعالم العربي اختلفت عن أنماط الجيل الأول ذا الرؤية الكولونيالية ، والجيل الثاني الذي كان يساريا في توجهاته إلا أنه شق طريقا جديدا في الدراسات العربية والشرق أوسطية برؤية يابانية اعتمدت المنهج الغربي وروح الثقافة اليابانية في التعامل مع النصوص البوذية والكونفوشيوسية. وقد تعاطف رواد هذا الجيل الثاني من أمثال البروفسور يوزو ايتاكاكي وسانئيكي ناكاؤوكا مع العرب وقضاياهم التحررية. وقد مثل الجيل الثالث الذي انتمت اليه البروفسورة ساكاي استمرارا للجيل الثاني  بتعاطفه مع القضايا العربية وتعلم اللغة العربية وعاش بين العرب مما جعل رؤيتهم مستقلة عن الرؤى الاستشراقية ، الى جانب اعتمادهم منهجا صارما يزاوج بين المنهج الغربي وروح الثقافة اليابانية.

ولدت البروفسور كيكو ساكاي في اليابان في عام 1959،وتخرجت من (جامعة طوكيو) في (كلية الآداب الحرة College of liberal Arts) في عام 1982، والتحقت (بمعهد الأقتصاديات الناميةThe Institute of Developing Economies) (IDE) في العام ذاته ، واختصت بالشؤون العراقية ،ويعد هذا المعهد من أهم المؤسسات البحثية اليابانية المهتمة بالمجتمعات النامية. وتشير البروفسورة الى قصة طريفة ترتبط باتجاهها لدراسة العراق،فعندما اقترح عليها أحد الأساتذة اليابانيين التخصص بالعراق تفاجأت من هذا الطلب الذي لم تكن قد خططت له سلفا ولم تفكر فيه، إلا أنها وافقت مباشرة لعدم وجود متخصصين بالشأن العراقي ،فكان تخصصها بالعراق ليس مخططا إلا أن الحاجة الأكاديمية هي التي أدت الى تشجيعها لهذا التخصص الجديد. وكانت أول متخصصة يابانية تتخصص بالشأن العراقي،ولم يسبقها في ذلك إلا كتابات متناثرة لباحثين يابانيين من جيل الرواد هما ايتاكاكي وناكاؤوكا اللذان تناولا ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958في عدة مقالات باليابانية.

 التحقت البروفسورة ساكي باحثة ملحقة بالسفارة اليابانية في العراق (1986-1989) وأفادتها هذه التجربة للتعرف عن قرب على المجتمع العراقي وتطوره التاريخي والفكري ، وتعلمت اللغة العربية في بغداد ، وأجادت اللهجة العراقية. إلى جانب انغماسها في فهم التقاليد والعادات العراقية ، إلى الحد الذي حاولت فيه أن تفهم مزاج وطبيعة الشخصية العراقية وأنجزت كتابا باليابانية عن المطبخ العراقي . ومن الطريف الإشارة هنا أن البروفسورة ساكاي ، وكجزء من تجربتها العراقية ، تعرف الكثير عن الحياة الاجتماعية والعادات العراقية بكل جوانبها. أكملت البروفسورة ساكاي دراساتها العليا في (جامعة درم University of Durham ) في (مركز دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية) ، في بريطانيا عام 1995. وكانت رسالتها عن (الأحزاب السياسية والشبكات الاجتماعية في العراق 1908 -1920 )،فشكلت هذه الدراسة    الأكاديمية أساسا قوياً للباحثة لفهم طبيعة المجتمع العراقي ومكوناته الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ، وتأثيرها في التمثيل السياسي في العهدين الملكي و الجمهوري . قدمت في هذه الرسالة منظورا جديدا عن ثورة العشرين عادة اياها “البداية الجنينية للوطنية العراقية”. وقد ظل منظور ثورة العشرين مؤثرا في دراساتها اللاحقة التي شملت الواقع المعاصر للعراق ، لامتلاكها قاعدة تاريخية راسخة وجعلتها هذه التجربة مع ثورة العشرين على معرفة واسعة بالنسيج والعشائر العراقية . زارت العراق خلال مدة دراستها مرة أخرى أواخر الثمانينات وبنت هذه الدراسة على إستيعاب المصادر العراقية والوثائق الاصيلة والمعايشة الميدانية للمجتمع العراقي وبناء علاقات اجتماعية واسعة مع النخب الفكرية العراقية ، لازال بعضها مستمراً حتى الوقت الحاضر . فقد كانت تقترب خلال وجودها في العراق من مختلف فئات المجتمع العراقي وتتابع المصادر والوثائق العراقية الأصيلة.

 وفي تموز عام 2003 ،قامت البروفسورة ساكاي بزيارة أخرى إلى العراق لفهم طبيعة التطورات التي شهدها بعد الإحتلال الأمريكي،فأسهم كل ذلك في زيادة معرفتها عن هذا البلد الذي عشقت تاريخه وانغمست في أحداثه، وبحثت في إمكانيات مساعدة الشباب العراقي الجديد في الحصول على فرص للدراسة في الجامعات اليابانية . وكانت قد كونت لها مجتمعا عراقيا مصغرا في اليابان من خلال الطلاب العراقيين الدارسين في الجامعات اليابانية وتواصلها مع العراقيين في العراق وخارجه ،الى جانب تنظيمها المؤتمرات الخاصة بالشأن العراقي في داخل اليابان وخارجها.

ومن المواقع الأخرى التي شغلتها في (معهد الأقتصاديات النامية) عضوية (الفريق البحثي لمشروع قسم الشرق الأوسط General Research Department’s Middle East project Team) ،ويعد هذا المعهد من أهم المؤسسات الاقتصادية اليابانية المتخصصة بالمجتمعات النامية ،وبضمنها بطبيعة الحال مجتمعات الشرق الأوسط،وعملت(زميلا باحثا زائرا) في (الجامعة الأمريكية في القاهرة 1995-1997)، وزميلا باحثا في قسم الدراسات المتخصصة. وأصبحت (مديرة لمجموعة دراسات العلاقات الدولية والصراع) في (مركز دراسات المعرفة العامة)   التابع( لمعهد الأقتصاديات النامية)،في عام 2005. أصبحت أستاذة قي (جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية) ،منذ عام 2005، وأشرفت على على عدد من المشاريع البحثية الخاصة بالشرق الأوسط عموماً والعراق على نحو خاص ، إلى جانب تدريسها لتاريخ الشرق الأوسط والتاريخ العراقي المعاصر لطلبة الدراسات الأولية والعليا ، من الطلاب اليابانيين والأجانب . وتجيد اللغات اليابانية ، وهي لغتها الأم ، إلى جانب الإنكليزية والعربية . وقد خرجت في هذه الجامعة العريقة العديد من طلبة الدراسات العليا العراقيين وأشرفت ودعمت مشاريع بحثية خاصة بالاساتذة العراقيين بعد أن وفرت لهم زمالات بحثية بدعم ياباني. وتعد تجربة البروفسورة ساكاي في (جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية) مثمرة لها ولطلبتها ولعدد من الأساتذة العراقيين والعرب .

فهذه الجامعة التي تحتوي أقساما للغات الشرقية والدراسات الشرق أوسطية، ضمت طلبة من العراق وسوريا ومصر وتونس والسعودية ودول الخليج العربي ودول عربية أخرى، الى جانب تركيا وإيران وأفغانستان ودول أخرى. وكانت البروفسورة ساكاي تدَرس في “قسم دراسات الصراع والسلام” ،إذ يقوم الطلاب بدراسة حالات من بلدانهم تخص الهويات والاندماج والأقليات ،الى جانب دراسات الديمقراطية وقضايا أخرى تخص السياسة المعاصرة.

وكانت البروفسورة ساكاي منغمسة في إدارة العديد من المشاريع البحثية في هذه الجامعة وتعقد سنويا مؤتمرات تخص الدراسات الشرق أوسطية في اليابان وخارجها.