نبض القلم
كل ما عليها ينطق .. – طالب سعدون
ظل في الذهن عالقا منذ أن بدأنا نقرأ بوعي تعريف المناطقة للانسان ، بأنه (حيوان ناطق) ..
وعرفنا أن (الحيوانية) (صفة بيولوجية) لا تقتصر على مخلوق واحد ينصرف اليه الذهن وحده ، بل تشمل كل من فيه حياة ، وهي ليست شتيمة أو قدحا أو نيلا من آدمية الانسان ، كما يفهم أو يتوهم بعض الناس .. ولكنها تكون بهذا الوصف ومذمومة متى ما تصرف الانسان خارج إنسانيته ..
أما النطق فهو لا يكفي وحده لاثبات إنسانية الانسان . .
فالقرد ينطق كلمات ، والببغاء تقلد فتنطق ، والديك يصيح ، والعصفور يزقزق ، والاسد يزأر والحصان يصهل والحمار ينهق والكلب ينبح ..
والطبيعة وما عليها تتكلم أيضا ، كل بلغته الخاصة ، تعبر عن وضعها وتكون مفهومة ، فتراها تتغير احوالها و الوانها حسب الفصول الاربعة ، وهي لغة تنطق وتعبر (أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا.. من الحسن حتى كاد أن يتكلما) ..
والاحجار وإن وصفت بالجماد لكنها تحكي قصة المكان والزمان .. وقس عليها كل ما في الكون من البحار والانهار في غضبها وفيضانها وجفافها ، وهي (لغات) تعبر عن الحال ..وتُعد إنذارات للانسان لكي يعالج وضعها لتقوم بمهمتها في خدمته على ما يرام ..
هذه المخلوقات كلها لها أصوات ، تنطق ، وتعبر ، لكن الفرق يكمن في تفوق الانسان بالاحساس والشعور والدور والمهمة ، وبها فُضل عليها ، وسُخرت لخدمته ..
كم هي جميلة الطيور في أصواتها وتفاعلها مع الأخر ، وتبعث الراحة والسعادة في نفس من يستمع اليها ، ويمكن أن تكون علاجا يساعد الانسان في التعافي من أمراض نفسية .. من التوتر والقلق وفي استعادة الانتباه والتركيز .
وقد جرب عالم الطيور البريطاني (ستيفن موس) ذلك على نفسه ، فهو عندما يستمع لصوت تغريد الطيور في بداية الربيع يشعر بالراحة والرضا ..
إذاً …
لا يكفي النطق وحدة ليكون علامة دالة على الانسان ، إن لم يكن معه قلب سليم يشعر وعقل كبير يفكر ، ويد تعمل للخير وليس للتخريب والاعتداء .
هل يمكن لحيوان أن يكون أكثر (فصاحة) من إنسان ؟..
صحيح أنه محال عليه ان يتحول الى انسان ، لكن يمكن أن يتحول الانسان الى أدنى درجة واشد شراسة وعدوانية من ذلك الحيوان ..
ولكن متى ؟.. عندما يتحول الى شيطان لا ينطق بالحق ، وإن كان بهيئة حيوان ناطق ، أو يمارس العـــنف مع اخيه الانـــسان ويتلذذ بعذابه وآلامه وقتله . ..
وكم من كلب كان أكثر وفاء ومودة لصاحبه الانسان من أخيه الانسان ..
وهناك دراسة حديثة أكدت ذلك فقد أثبتت أن الكلب له القدرة على إستقراء مشاعر وإنفعالات الانسان ..
فمن أكثر عطاء هذا الكلب الوديع أم ذلك الانسان القاسي عندما يقتل أخيه الانسان أو يسرقه او يغمطه حقه أو يأكل لحمه ميتا..؟
رحمة بالكلب .. لا تظلموه ..
وكيف لنا أن نستعير في الذم صفة لم تكن في هذا الصديق الوفي فنقول على الشخص السيء ، ومن لا يعجبنا تصرفه نقول عنه (أنه كلب) أو نضرب به المثل على الحاكم المستبد الظالم الذي يستخدم سياسة التجويع والتذليل والتخويف للتطويع والتبعية والاستغلال (جوع كلبك يتبعك) ..
لكن الوفاء (الكلبي) له شرط وهو أن يقابله مالكه بما يناسبه من عطاء ، وبخلافه يكون قد أبخسه حقه وقد ينقلب عليه ، فقالوا (ربما أكل الكلب مؤدبه إن لم ينل منه ما يشبعه) …. ولهذا المثل قصة معروفة في الجاهلية وخلاصتها أن ملكا من حمير كان يسلب أهل مملكته مالهم وحقهم فأحالهم الى فقراء وجياع ، وقد نصحته زوجته أن يرحمهم خشية أن ينقلبوا عليه في يوم ما ويلاقي منهم ما لا يسره ، فقال لها (جوع كلبك يتبعك) وذهبت مثلا ، وبعد أن ضاق أهل المملكة ذعرا بالملك انقلبوا عليه فقد إتفقوا مع أخيه على قتله مقابل أن يصبح ملكا عليهم .. وصادف أن مر رجل من القوم عليه ، وهو بهذه الحال البائسة فتذكر مقولته (جوع كلك يتبعك) فقال (ربما أكل الكلب مؤدبه إن لم ينل منه ما يشبعه ) وذهبت مثلا أيضا ..
والعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم ..
الانسانية هي المشترك الجامع ، والمعيار الحقيقي لصلاح الانسان أو فساده ، وفي المفاضلة ايضا ، بين الدول والبشر..
الانسانية تقوم على مشتركات تجمع البشر ولا تفرق ، وترتقي بالانسان ليشعر بالأخر من جنسه وغيره ، وتعتمد مبدأ نبذ العنف والتعايش السلمي وتنشد السعادة والحياة الكريمة للناس جميعا بغض النظر عن القومية أو اللون أو الدين أو الطائفة .. فهم سواسية كاسنان المشط ، وأي انسان في هذا الكون – هو أما أخ للأخر في الدين ، أو نظير له في الخلق ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشارع ينطق أيضا :
في (2019/1/24) كتبت مقالا هنا في (الزمان) بعنوان (الشارع يتكلم) خلاصته أن وضع الشارع يعكس حالة البلاد وكفاءة المسؤول معا ..
الشارع مدرسة مفتوحة يتعلم منها الجميع ، بما فيهم المسؤولون ، والمسؤول الناجح هو من يجعل الشارع مكتبه العام واختصاصه العام أيضا ، فيكون دائم المتابعة والتعلم منه ، يعرف حاجته وتطلعاته ، لكي يظهر بالمستوى المناسب …
الشارع إستطلاع دائم على الهواء للحالة السياسية في أي بلاد في الدنيا ، ودرس تطبيقي في فن القيادة الناجحة ، وكتاب مفتوح مكتوب بكل اللغات عن وضع البلاد ، ليس بحاجة الى مترجم ..
الشارع (فولد اعلامي) طبيعي يشمل البلاد كلها، يجده الزائر أمامه أينما حل فيها ، يعكس حالها بدقة عالية ..
وهيبة الدولة التي تتردد هذه الايام كثيرا على لسان المسؤولين تظهر على طبيعتها بدون رتوش في الشارع ، في المرور والنظافة واحترام الشارع وتطبيق القانون والنظام وفي دقة الالتزام …
كنت قد أشرت الى حالة متميزة تعكس مستوى القيادة ومدى استجابتها لنبض الشارع والتفاعل معه ، والاستفادة من تجارب الاخرين في معالجة الازمات التي يعاني منها .. اعيدها مرة اخرى وهي خلاصة زيارة رئيس وزراء دولة عربية – ليست بأحسن حالا منا في وضعها المادي – لاحدى الدول الاجنبية ، لفتت إنتباهه فيها حالة النظافة التي تعاني منها بلاده ، ولذلك وجه المعنيين في بلاده حال عودته بدراسة تجربة تلك الدولة المضيفة في مجال التخلص من القمامة ، والاستفادة من خبرتها ، ليس في التخلص منها فقط ، وإنما في تدويرها ، وليس تركها في الاحياء والشوارع العامة تكبر وترتفع (لتشكل مرتفعات وجبالا) ، ومعالم جديدة في المدن تلفت الانتباه كما حال بلادنا مع هذه المشكلة الكبيرة ..
هذه هي مسؤولية الدولة والقائمين عليها تبدأ من الشارع .. في رفع القمامة والنظافة والمجاري ، وتتدرج صعودا الى الدبلوماسية ومهمة السيادة والدفاع التي تتطلب تضحيات جسيمة تصل الى حد الاستشهاد …
وسؤال كثيرا ما يطرح .. ماذا نقل لنا المسؤولون والسياسيون والبرلمانيون من مزدوجي الجنسية من تجارب بلدانهم الاخرى والدول التي زاروها .. وما اكثر الزيارات ..؟
– واقع الحال يجيب ..
النظافة صنو النظام ، وسر الجمال ، وعنوان الذوق والتحضر ، تعكس هيبة الشارع ، واحترام الاخرين له ، وعدم الاعتداء على حرمته لكي يحافظ على جماله ، وليس أن يتحول الى سوق مفتوح ، أو مكب لرمي النفايات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المولدات تصرخ لا تنطق
أسلاك (شائكة) شوهت منظر الشوارع .. فلا يعقل أن تمتد أسلاك المولدات في الشوارع بهذه الصورة البدائية الخطيرة ، على مدى كل تلك السنوات ، والاغرب أن تجد مولدات نصبت داخل البيوت أوفي الازقة الضيقة دون ضوابط أو مراعاة لخطورتها واحتمالات الحرائق وجمالية المدينة وراحة المواطن في (جنته) أي بيته ، وكأن قدره أن لا تستنزف هذه المولدات ماله فقط ، وإنما راحته أيضا بهذه الضوضاء والدخان ..
الامر ليس بذلك التعقيد ، ولا يحتاج الى خيال ولا عبقرية .. ويتمثل بانشاء خط أخر للمولدات مع خطوط الكهرباء الوطنية ، ومنع نصبها في البيوت أو أمامها حتى وان كان البيت يعود لصاحب المولدة ، وكذلك في الشوارع الضيقة .
كلام مفيد :
كلام جميل أعجبني .. لا تزرع الشوك في أرض تمر بها ، فربما عدت اليها حافي القدم .