كلّما إستجدّ جديد.. إستبشرنا قرب العيد – لويس إقليمس
كيفما يمكن أن نسوّغ أو نتيقن من حقيقة انبثاق حكومة السيد مصطفى الكاظمي من رحم العملية السياسية الحالية بمنظومتها المتسمة بالفساد حدّ التخمة، إلاّ أنّ علامات واضحة لتغيرات واقعية على المشهدالسياسي لا يمكن تجاوزها أوفي الأقلّ التقليل من شأنها. وأيًا كانت هذه المتغيرات، مهنية فعلية جريئة في موقفها أو محابية مجارية متقية في إصدارها، فهي تستحق وقفة قد تمنح شيئًا من المصداقية لشخصية لا تقلّ جدلية عن سياسيّي المنظومة الحاكمة من حيث الحكم العام على الساحة من موقع رسميّ. فحزمة الاجراءات الجريئة التي يقتحم بها مصطفى الكاظمي محميات أحزاب السلطة، الاسلامية منها على وجه التحديد والتشخيص، تنمّ عن مستجدّات وشيكة الحصول في ذهنية المواطن العراقي وعلى الأرض، سيّما وأنّ غالبية الشعب المقهور ينتظر ساعة الصفر لإجهاض زمن هذه المنظومة السياسية الفاشلة وأعمدتها المستنفعة المتكسبة من التغيير الدراماتيكي منذ احتلال البلاد. ولعلّ من الأولويات التي يتطلع إليها عموم الشعب، إلاّ رؤوس الفساد وأدواتُهم وتفرّعات هؤلاء في جميع مفاصل الحياة، تقريرُه فرضَ هيبة الدولة وتأمين سيادتها عبر الاستعانة بأدوات وطنية مدنية وعسكرية متحزمة بتاريخ الجندية العراقية وشبه بعيدة عن شبهات اللعب بالنار الطائفية والمذهبية والعرقية.
ولعلَّ من أولويات هذه الإجراءات الجريئة التي صرّح بها الكاظمي شخصيًا فيما لو سار بها وفق منهج وطني مبرمج وبصدق النية والإرادة، قدرتُه على حصر السلاح بيد الدولة والقضاء على أدوات الدولة العميقة الشائعة، بالمهادنة حينًا والضرب الصادم حينًا آخر وفقًا لمقتضيات الواقع والظرف وصولاً لتحقيق الاستقرار والأمان للشعب وصيانة لبناه التحتية وتشجيعًا للاستثمار بفضل الاستقرار المتحقق المأمول من وراء العمليات النوعية الهادفة لتنقية البيدر الوطني من الزؤان والأشواك التي تعيق عودة الحياة الوطنية الطبيعية إلى حالها المتعارف عليها. وثانيها الذي لا يقلّ أهمية في استراتيجتها، تقرير فرض سيادة الدولة وأجهزتها على المنافذ الحدودية التي تدرّ عسلاً ولبنًا لمافيات أحزاب السلطة من شمال البلاد لجنوبها ومن شرقها لغربها، بضمنها منافذ شمال البلاد (كردستان العراق)، وفق إقطاعيات تتقاسمها هذه الأحزاب فيما بينها منذ 2003. وهذه المغانم بحسب الخبراء والمراقبين قد تشكل وارادات تدرّ مبالغ طائلة لا تقلّ عن 8-10 مليار دولارًا سنويًا يمكن إضافتُها إلى ميزانية الدولة العراقية. ناهيك عمّا يمكن أن تشكله نظيراتُها من واردات الكمارك والضرائب التي يمكن تحقيقها من ضريبة الدخل التي تفرض على الشركات والأفراد فيما لو تم تطبيق قوانينها على الجميع من دون محاباة ولا فساد ولا تشاركية في هذا الأخير. ومن الأولويات الجريئة أيضًا، التعهد بالوصول إلى قتلة المتظاهرين الخالدين من الذين طالبوا بوطن يحميهم ويحنو عليهم وعلى عوائلهم ويعينهم على كسب القوت اليومي وتحقيق الرفاهة التي يستحقها المواطن العراقي الذي لا يقلّ إرادة وعزةً وكرامة وحقوقًا أساسية مثل سائر شعوب المنطقة والعالم. وفي القائمة أيضًا، التوصل إلى قانون منصف للانتخابات المبكرة التي طالبت بها ساحات العزة والكرامة في بغداد وسائر محافظات البلاد، والتي مازلنا نأمل دومًا اصطفاف ما تبقى من محافظات الشمال والوسط مع ساحات الخلود الوطنية لتعطي ثمارًا أكثر غزارة وشمولية لعموم مناطق البلاد المبتلاة بفساد الساسة ومن دون استثناءات. فهذا القانون مازال بصيغته الحالية غير مقبول شعبيًا من قبل ساحات التظاهر وعموم المثقفين والقانونيين الوطنيين بسبب صياغته وفق مصالح الطبقة الحاكمة التي تجيز لها بنوده استخدام السلطة والمال السياسي والسلاح للحدّ من وصول المستقلين المؤمنين بحب الوطن ومصالح الشعب للفوز بمقاعد في مناطق أحكمت أحزابُ السلطة هيمنتها على عقول وأفكار البسطاء وعلى جيوش الفضائيين وأصحاب مزايا الجهاد المتنوع الأشكال والولاءات.
منجزات جزئية
وحين تحقيق هذه المنجزات الجريئة وغيرها ممّا يأمل الطيبون من العراقيين، بالحقيقة الواقعة وليس بالتدليس والكذب والغش والتسويف، حينها سيجوز بل يحق للشعب العراقي المؤمن بوحدة ترابه وجمال سمائه وحلاوة مياهه أن يحتفل بحقّ بعودة الوطن إلى حضن طبيعته الإنسانية وحظيرته العربية والإقليمية والدولية. وسوف يرى جميع الغيارى من الوطنيين الصادقين في هذه الهيبة وهذه السيادة المستعادتين بالهمة والغير والإرادة الوطنية علامة مضيئة على استعادة شيء من حضارته وقيمته الدولية وأخذه الدور الذي يستحقه بين الأمم والشعوب والدول على أساس الندّية والتشاركية وليس التطفلية والتبعية والولائية. وهذا لو حصل في قادم الأيام، فلن يكون على أساس الترفع والتعالي على الغير، بل ضمن مشتركات السياسة الصحيحة التي تتناغم مع حركة الشعوب المسالمة التي تعرف التمييز بين الخير والشر، بين الدين والسياسة، بين المقدّس والمدنّس، بين الصالح والفاسد، بين الحاكم العادل والوليّ المستبدّ. فهذه جميعًا، هي التي ترسم الخطوط العريضة والصحيحة لمسيرة الأمم والشعوب المنضبطة التي تعرف احترام نفسها واحترام غيرها على هذه الأسس الآدمية التي رسمتها شرعة حقوق الإنسان التي لا تخرج عن تعاليم الأديان السماوية الثلاث وغيرها من أديان طيبة أخرى وجدت في أرض الله الواسعة.
هل الجديدُ قادم والعيدُ مستبشر؟
قد يقول قائل، إنّ وقت احتفال العراقيين بعيد النصر الوطني الكبير قادم ووشيك بفضل صمود أبطال الثورة التشرينية وقدرتها على اختراق هزالة المنظومة السياسية وهزّها لكيان “اللادولة” أو شبه الدولة القائم، وإن يكن قد تأخر كثيرًا. فالانتفاضة الوطنية الحقيقية التي انطلقت في تشرين أول 2019 ماتزال جذوتها لم تخفت وإن تكن قد سكنت برهة بسبب الخشية من آثار الجائحة التي ماتزال تمثل تحديًا وطنيًا غير قابل الإهمال. فهناك دومًا جهات محبِطة ومحرّضة تسعى بكل قدراتها لاستغلال صحوة المتظاهرين المطالبين بالوطن الغائب وأخرى راكبة للموجة وغيرها ناقمة على المطالبين بإنصاف الخالدين من شهداء الانتفاضة. ولكن مهما كان من هذه الأخيرة في استغلال الأدوات المحبطة في التأثير على بساطة تفكير عامة الناس، فإنّ صحوة الأبطال وتنسيقياتهم، إلى جانب يقينهم المصدِّق المتجدد بصحة ما يجري وما يُحاك لهم من خلف الكواليس لأغراض التغطية على سرقات الطبقة الحاكمة من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وبالرغم من النجاح الجزئيّ لهذه الطبقة الفاسدة بطمس الحالة الوطنية الطبيعية التي كان يتسم بها غالبية الشعب العراقي والتي فقد جزءً كبيرًا منها طيلة السنوات السبع عشرة المنصرمة، إلاّ أنّ الأمل مازال حليفها بتحقيق عيد النصر الوشيك. في الحقيقة، إزاء ما حصل ويحصل طيلة الأسابيع القليلة الأخيرة من أحداث ساخنة وحوادث وعمليات وصفت بالصادمة والجريئة، سلبًا أم إيجابًا، فإنّ الكثيرين ممّا تبقى من المنتمين الصادقين للوطن والمتجذرين في أرضه وحضارته، أبدوا استياءهم الشديد من مغبة التفريط بمصالح الوطن العليا لصالح جهات دخيلة من خارج الأسوار. وهذه في حقيقتها جهاتٌ لم تحجم أو تتوانى في نفث سمومها التاريخية بكل الوسائل والأشكال، ومنها بحجة الانتماء المذهبي والطائفي التي أججت أفعال النكوص في المبادئ في أوساط الشعب الخانع وأوصلت فئات وجماعات فيه إلى الدركات السفلى، بل شكلت طيفًا واسعًا لا يؤمن بغير التبعية والولائية ومنها الاستعداد لبيع الوطن بالمزاد بأي ثمن وفي أية مناسبة وفرصة. لكن ما لم يدركه المتربعون على السلطة لعدم تعلمهم دروس الحياة من نماذج حكم سياسية شرق-أوسطية جرّبت العمل بغطاء الدين والمذهب، أنّ كلّ استغلال ودغدغة من هذا القبيل لم تعد تنفع في زمن ولّت فيه السطوة الدينية والمذهبية وصحت غالبية طبقات الشعب من الفعل السيّء الذي قدمته هذه النماذج التي تجاوزها التاريخ. فلو نفعت هذه في زمن الجهل والجاهلية وظلامية القرون الوسطى حيث الحكم الالهي بيد الحاكم المستبدّ الذي يفرض سطوته ظلاًّ للقدير الأعلى في الأرض باعتباره المقدّس الذي لا يُعلى عليه، إلاّ أن زمن هذا المفهوم لم يعد مقبولاً شكلاً وتفصيلاً. فالمقدس المنظور والمقبول لا يمكنه تجاوز قدرة الله الخالق وليس أحدًا سواه. أمّا مَن يسعى لإعادة فرض هيبة المقدّس البشري خارجًا عن قدسية الوطن بعد الإله الحقيقي الذي تعرفه خلائقُه الهادية الجميلة المفعمة بمحبته غير المتناهية للبشر جميعًا بلا استثناء، فهو واهم ويعيش الظلام، ويا ويله من ظلام الدنيا والآخرة. لذا ليس من الصحيح إقحام المسائل الدينية وما يوازيها من عبادات وتقويات وتخريفات وتحريفات وتوهيمات في تداعيات السياسة وكواليسها المظلمة التي تستغلها للتغطية على أهداف غير أخلاقية لا تنفع المجتمع والبلد والمنطقة والعالم. وفي اعتقادي أنّ كلّ مَن رفع شعار “الإسلام هو الحل” قد اضطر للتراجع عنه والبحث عن أسباب أخرى تبرّر السعي وراء الهدف الإنساني المشروع الذي يمكن أن يوصل بالبشرية إلى ميناء السلام المنشود والتحاور والتفاهم والتضامن على أسس إنسانية وليس غيرها. فغطاء الدين كشف عورة المدّعين والدعاة، مهما كانت مشاربُهم وأغراضُهم. وإنْ لم يحن الوقتُ بعدُ لسقوط ما تبقى من هذه الأصنام الحاكمية، إلاّ أنّ وعي الشعوب سيقودها لإسقاطها عاجلاً أم آجلاً، وحينها ستنال حقها العادل وتستحق نصيبها من وسائل الغش والخيانة والظلم التي مارستها عبر تغيير جلدها وفق الظروف والأزمان واستغلالها لغيرها في فرصتها في الحكم بدعم من خارج الأسوار، أيًا كان غرضُه وهدفُه ووسيلتُه.
عسى هلالُ العيد الوشيك يبشرنا خيرًا بدلَ شرٍّ اعتدنا عليه، ونعمةً بدل نقمة أصابتنا في الصميم، وأملاً ورجاءً بغدٍ أفضل ويومٍ أسعد ومستقبلٍ أوفر حظًّا وأيس مجرى.