كلمة وليس نعياً
احمد عبدالمجيد
عادل الجوجري.. صديقي سلام عليك
قبل ايام قليلة لازمني طيفه.. حاولت الاتصال بأرقام الهواتف التي لدي فلم تسعفني .. اتصلت بأرقام اخرى.. بدا لي ان تغييرا تقنيا استدعى شركات الهواتف النقالة في مصر الى استبدال الارقام او اضافة كود جديد اليها.. حاولت ملاحقة ارقام الهواتف الاعلانية على بعض الفضائيات المصرية لاكتشف سر تعذر حصول المتصلين من بغداد على هواتف اصدقائهم او معارفهم في مصر، فلم افلح. اعياني الامر فاستسلمت كما سبق لي ان استسلمت في مرة سابقة. كان الامل ان استمع عبر الاثير الى صوت صديقي الصحفي عادل الجوجري. كانت صدمة غير متوقعة واجهتني وانا اقرأ خبرا لوفاة صحفي مصري على الهواء مباشرة في برنامج حواري لقناة فضائية.
وبرغم ان الخبر بدا مضللا حاول الطعن بموقف الجوجري الا انني افهم دواعي موته المفاجئ. فهو من قلة من الصحفيين العقائديين الذين يتبنون فكرا قوميا مستوحى من التجربة الناصرية. كان مخلصا الى هذا التيار منغمسا فيه ولم تستدرجه اغراءات حكومة مبارك وقبلها السادات للتخلي عن مبادئه ومعتقداته. وانا اعرف ان الجوجري كان ضحية لحملة الاعتقالات التي شملت اليساريين وانصار عبد الناصر في عهد السادات وكان بعيدا عن الاضواء التي وفرها الاندماج مع حزب مبارك من بعد حادث المنصة الشهير. عيش كريم ظل عادل الجوجري صديقا لشعبه مكافحا من اجل قيم رأى فيها خلاصا له وعبورا معه الى الحرية والعيش الكريم. يتسم الجوجري بالحيوية والنشاط الاستثنائيين. ويوم تعرفت عليه للمرة الاولى، منتصف الثمانينات، عبر كتاباته في مجلة التضامن اللندنية وجدته مجسدا حماسة الصحفي الشاب الذي تستهويه المهنة ويأخذه شغفها بعيدا الى مجاهيلها ومعاركها. ومع ذلك فان قدراته الاستثنائية وثقته العالية بنفسه لم تعق انطلاقته نحو تبني مشاريع فردية تولاها في بحر صاخب ومناخ محفوف بالمخاطر. واتذكر اول لقائي به في القاهرة في نيسان 1988، كان غريبا علي ان اكتشف صديقا حميما عن بعد لم يسبق لي ان التقيته الا عبر ورق المجلة وايقاع الكلمات. كان مراسل المجلة في مكتب القاهرة الى جانب عدد من زملائه بينهم مدير المكتب الذي يشغل منصب مساعد رئيس تحرير جريدة الاهرام. كان الجوجري اكثرهم حضورا وانتاجا واقربهم الى رئيس التحرير الصحفي اللبناني فؤاد مطر. امضيت في زيارتي الاولى الى مصر نحو اسبوعين مع عادل الجوجري. كان لا ينقطع عن مصاحبتي وجولاتي في احياء القاهرة القديمة. وقد دأب على زيارتي يوميا في فندق شبرد واصطحبني في حافلات السرفيس الى سيدنا الحسين وخان الخليلي والغورية والعتبة. ولشدة ولعه بالمهنة فوجئت به يوما وقد واعد المخرج المصري رأفت الميهي الذي كان مخرجا طليعيا محسوبا على تيار اليسار المصري. وحرص الجوجري على اجراء مقابلة معه نشرها بعد ايام في مجلة التضامن . هكذا كان الجوجري لا يعرف الراحة ولا يعوقه موعد مع ضيف زائر لبلاده عن اداء التزاماته الصحفية. لقد اضطررت الى انتظاره اكثر من ساعة لهذا الغرض ثم عندما انهى المقابلة قدمني اليه مشيدا بي كصحفي عراقي. منذ تلك الاعوام حرص الجوجري على اعطاء نفسه استقلالية ملحوظة سواء في اختياره الموضوعات او في عمله داخل منظومة التضامن ومكتبها. وقد اكتفشت انه نأى بنفسه عن بعض الخلافات الداخلية والشحن الملحوظ مع مركز المجلة في لندن. كان حريصا على اداء واجباته الصحفية حسب لكي يغدو صديقا للجميع، محبا لقرائه. انقطعت عن الجوجري وانقطعت اخباره عني بعد غلق التضامن منتصف العام 1990 ودخول ازمة الكويت نقطة اللا عودة، ومضت عشر سنوات لكي تتاح لي فرصة زيارة مصر ثانية عملا بالقول المأثور ما شرب امرؤ ماء النيل الا وزار مصر ثانية . كان ذلك في العام 1998 وقد وضعت في جدول زيارتي الاتصال بالجوجري. كان سعيدا جدا وملحاحا على اصطحابي الى منزله مع زميل يرافقني من مجلس نقابة الصحفيين. والمنزل عبارة عن شقة سكنية بعمارة في ضاحية من ضواحي القاهرة. منزل بسيط ضيّق شعبي، غالبا، وقد هيأت لنا السيدة زوجته عشاء ينم عن كرمها وعن ذوقها لاسيما وهي تقدم لنا الفراخ وتلح علينا في تناولها. كرباء العمارة ومن مفاجآت هذه الزيارة اننا وجدنا الكهرباء مقطوعة في العمارة برمتها واطلقنا ضحكة مجلجلة قائلين لقد نقلنا عدوى انقطاع الكهرباء اليكم ، فيما اكد لنا عادل انها المرة الاولى التي يحدث فيها مثل هذا الانقطاع منذ سنوات. ومن الصواب، اذن، القول ان ازمة الكهرباء ليست حديثة عهد في العراق وان محاولة نسيان ماضيها هو الذي يفاقم وضعها الراهن. واتمنى على الناس ان يكونوا منصفين ولا ينسوا حقيقة ان واقع الكهرباء السيئ بدأ في العراق في عقد السبعينات تحديدا، ومصداق كلامي ان جريدة الثورة الناطقة باسم حزب البعث شنت حملة على الشركات الروسية. وكتبت سلسلة مقالات افتتاحية بهذا الشأن حملت فيها الشركات اثار تلك الازمة وبما يشم من محتوى الافتتاحيات ان الاتحاد السوفياتي ــ السابق ــ عاجز عن مساعدة العراق في بناء محطات جديدة او تأهيل القديمة، وهو امر مفهوم يترجم توجهات داخل الحزب كانت تطرح فكرة مد اليد الى الغرب بدلا من التشبث بالمعسكر الاشتراكي المنهك وبتقنياته المتخلفة. لقد وجدت الجوجري في زيارتي الثانية اكثر تكاملا وامتلاء واعتمادا على مشروعه الخاص. كان قد اسس مركزا للدراسات وشرع باصدار مجلة الغد العربي التي تترجم رؤاه الناصرية. وفهمت من كلامه او عبر بعض ما ذكره انه يعتمد في علاقاته الشخصية بالليبيين في تمويل هذا المشروع. واذا كنا نحاكم الامور بمنطقها في حينها وليس بمنطق اليوم فان الجوجري مثل كثيرين من اليساريين العرب لجأوا الى هذا الخيار لمواجهة الانحسار القومي في بلدانهم وكان النظام الليبي سعيدا باحتوائهم وهم لا يجدون غضاضة في هذا العون من منطلق شعورهم بانهم يؤدون رسالة ولم يكونوا مرتزقة كا يحلو لخصومهم وصفهم. ما رأيته من كرم ضيافة وخلق رفيع ومن تقدم في الوضع العام في مصر بعد عشر سنين من زيارتي الاولى وجدته في شخص الجوجري. كانت القاهرة يومها، كما رأيتها، ورشة بناء واعمار، فقد شيدت الجسور لفك الاختناقات المرورية واتسعت الاحياء الجديدة وبدت معالم النظافة ومظاهر التطور واضحة جدا. غير ان ما رأيته ماثلا في الزيارتين هو صخب القاهرة وازدحام شوارعها ونمو عشوائياتها. وبرغم ذلك فاني افتقدت كليا المستجدين قرب مسجد سيدنا الحسين وفي الشوارع العامة. وافهم من ذلك ان نموا اقتصاديا وتنمويا يقف في الغالب وراء اختفاء ظواهر الكَدية و الاحتيال وما اكثر ما كانت صناعة السينما المصرية تعكسها في الافلام والمسلسلات. في العام 2000 زرت مصر للمرة الثالثة ولم تتح لي فرصة لقاء صديقي عادل الجوجري. كانت الزيارة سريعة وكان عادل في رحلة الى خارج البلاد ولكن تقصيت اخباره من بعض الزملاء وشعرت بالارتياح لان شيئا من صورته لم تتغير لا في شهادات الزملاء ولا في نفسي التواقة لرؤيته. انه واحد من اولئك الذين ترى في وجوههم ريف مصر .. صدقها .. روعتها.. جمال اخلاق مواطنيها واحترامهم للآخرين. ربما يصعب اكتشاف شعب لديه كم كبير من المفردات الدالة على احترام الآخر كشعب مصر، فهو لا يناديك الا يا بيه يا افندم يا استاذ وهو الوحيد الذي يجل مبدعيه ومتفوقيه فيخاطبهم بـ يا باش مهندس ويا دكتور بينما هم مازالوا على مقاعد الدراسة او قبلوا للتو في الجامعة. وانقطعت سنوات طويلة دون ان اتابع احوال الجوجري.. كان طيفه يأتيني احيانا وكنت اتذكر بعض مواقفه ومآثره الصحفية ولكن تفاقمت مع توالي السنين صعوبة الاتصال به او الحصول على رقم هاتفه. واتذكر انني في العام 2004 كلفت زميلا صحفيا غادر للاقامة في مصر بمساعدتي في الحصول على رقم هاتف الجوجري. ولعن الله المشاغل وضغط الحياة التي تنسينا التواصل مع الاعزاء فاذا بنا نصطدم باخبار تخصهم ولكن غير متوقعة لنا. رحيل صحفي بالامس كنت اتصفح الانترنت فاذا بنبأ رحيل الجوجري يصدمني مرتين. الاولى موته في وقت كنت اراه ماثلا متحديا هذه الفكرة الأزلية القاهرة لجبروت البشر، والثانية لأن الجوجري سقط مغشيا عليه في ميدان الاعلام ذلك القدر الذي اختاره لنفسه بعد تخرجه من كلية الاعلام بجامعة القاهرة عام 1979. كان في مناظرة داخل ستوديو احدى الفضائيات وكان الحوار ساخنا مرا ضاغطا بحيث جعله صيدا سهلا لجلطة دماغية تنهي نصف قرن من حياته امضاها مكافحا بقلمه مجاهدا بصوته محبا بتصرفاته وسلوكه. عرفته منذ 25 عاما، او يزيد، صحفيا مهنيا لا يجامل ولا يهادن ولكنه غير متحامل او حاسد او جاحد. ايها الصديق.. ايها الجوجري كنت على موعد مرجأ معك.. كنت متوثبا وقد اصررت هذه المرة على البحث عنك.. بين الاهرامات او في الميادين والمنابر والمنارات والمناطق الشعبية… قررت ان اصرخ بأعلى صوتي يا صديق القلم والكلم انا بالانتظار بعد طول عقود، ولم اكن احتمل قراءة نعيك على جدران نقابة الصحفيين او صفحات الجرائد كما توهم معي زميلنا المشترك اللبناني ابراهيم البرجاوي يوم رأيته قبل عام في بيروت عند منعطف شارع الحمرا صارخا بوجهي ولك يا احمد هل انت عائش؟ لقد كتبت عنك نعيا بعد ان حسبت انك مت تحت القصف الامريكي . لقد سبقتني وسبقت الباقين من زملائك، لكن الموت لا يبقي أحدا. فتلك سنته وتلك ارادة الواحد الذي لا يقهر. فسلام عليك صديقي عادل الجوجري. وما هو برثاء او نعي بل كلمة يملي علي الواجب قولها وانت بعيد بعيد.
/7/2012 Issue 4255 – Date 19 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4255 التاريخ 19»7»2012
AZP07