كلام على الماشي إنشودة كربلاء
حسن النوّاب
مطلع التسعينيات حينما اصبح الوطن يرزح تحت مقصلة الحصار الذي انتشر في معظم البيوت العراقية، وانتعش شبح الجوع والحرمان في تفاصيل حياة الناس وحتى في احلامهم المفجوعة من بطش السلطة في ذلك الوقت، كان على الضفة الأخرى من هذا المشهد المأساوي مجموعة من الأدباء والفنانين في كربلاء يجتمعون كل خميس حين يجن الليل قرب ضفاف بحيرة الرزازة، وهناك ينزفون دموعهم واوجاعهم واسرارهم بعيدا عن المخبرين وعسس مراكز الأمن والشرطة، ويغنون بصوت جريح اغنيات عراقية تقطر لوعة وأسى، كان من بينها انشودة كربلاء التي كتب كلماتها الشاعر محمد عبد فيحان ولحنها الفنان اياد زيني، وكانت تلك الإنشودة تشبه المنشور السري لإنها تتحدث عن ثوار الإنتفاضة وعن الخراب الذي هيمن على معالم كربلاء التراثية والدينية والحضارية، وحين نردد كلمات تلك الإنشودة نشعر بالزهو وان التحدي مازال يانعا في القلوب ومتوهجا بالأمل، بينما موج بحيرة الرزازة وسماوات الله تسمعنا ونحن نردد الماء والهواء والحب كربلاء ، حتى نصل الى المقطع الأكثر خطورة فيها حين يتعالى هتافنا في دجى الليل شممت تربها من منبع الرسول، عرفت هاهنا جالت بها الخيول، عساي ما أقول ياقرة البتول، وكلها فصول من دم الثائرين، مدينة الحسين ، حتى اصبحت هذه الإنشودة تتردد في كل بيت كربلائي، وقد تبرع الأخ تركي المطيري وهو احد الميسورين من اهالي كربلاء بإنتاج هذه الإنشودة على حسابه الخاص ولكن بالكتمان، وكنت شاهدا على مراحل ولادتها حين ذهبت معهم الى بغداد والتقينا مع الفنان المبدع علي خصاف في الصالحية واتفقنا معه على كتابة نوتة الإنشودة وتوزيعها بعد ان اخذنا الى بيته الصغير في مدينة الثورة واستمع اليها لأول مرة من شريط كاسيت، وتحمس لها برغم معرفته بخطورة ما يفعل، ثم عدنا بعد اسبوع الى بغداد مرة اخرى لتسجيل الإنشودة في ستوديو علي الصالح الكائن بشارع فلسطين، وحين ادرك مدير الإستوديو خطورة الإنشودة اغلق الأبواب خشية من زائر ثقيل يداهمنا فجأة، لكن المفارقة ان الأخ تركي المطيري الذي دفع الدنانير العزيزة في ذلك الوقت على انتاج الإنشودة، حمل شريطها الى بيته واحتفظ بها على امل ارسالها الى خارج العراق، وربما يشعر البعض ان ثمة مغالاة بسرد هذه الواقعة فأقول ان كاتب كلمات الإنشودة الشاعر محمد عبد فيحان كان محكوما بالسجن المؤبد ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة وفصل من الوظيفة لموقفه الرافض للحرب وفي قلب المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون عام 1987 عندما قذف صورة الطاغية بحذائه الكربلائي وكان حينها مديرا للأخبار والبرامج السياسية، ليس هذا فحسب بل شتم ضابط امن المؤسسة انذاك بوجهه وأمام الملأ لأنه تجاوز بالإساءة الوقحة على مدينته الحبيبة كربلاء وأهلها الطيبين، وكانت الحرب العراقية الايرانية في اوج احتدامها قبل ان تتوقف بعام واحد وقد خرج بعفو عام قبل سنوات، وكان هذا المؤشر الخطير وحده يضعنا امام منصة الإعدام اذا ما اكتشف رجال الأمن حقيقة هذه الإنشودة الكربلائية، تذكرت هذه الواقعة لأن شاعرها الذي اصبح يحمل شهادة الدكتوراه في الفن المسرحي بالوقت الحاضر فوجىء بحذف اسمه من مؤسسة السجناء السياسيين بذريعة انه كتب قصيدة للطاغية بعد خروجه من السجن، ولأني كنت شاهدا على تلك الأيام المريرة، اذكر ان فيحان اصطحبني ذات نهار معه الى المذيع شمعون متي الذي كان يتمتع بعلاقات وطيدة مع رجال السلطة وطلب منه التوسط بغية اعادته الى الوظيفة، لكن ذلك لم يتحقق مالم يثبت بالبراهين ولائه للقائد؟ وهكذا اضطر الى كتابة قصيدة مديح بغية الحصول على وظيفة يمكن من خلالها سد رمق عائلته ويبعد انظار المخبرين عنه، هذه هي حقيقة الشاعر الذي كتب انشودة كربلاء والتي مازالت ترددها السنة الناس في كل حفلة زفاف كربلائي، مثلما غامرت وطلبت من الفنان اياد زيني ان ينشدها في حفل زفافي منتصف التسعينيات، وكان بين الحاضرين صديقي الشاعر حميد سعيد الذي تجشم عناء السفر من بغداد وسجل موقفا نبيلا لا يمكن ان يزاح من ذاكرتي، وتلك هي حكاية انشودة كربلاء التي اصبح شاعرها بنظر الحكومة الجديدة لايستحق اي شيء، بينما معظم الذين جاءوا من وراء الحدود أصبحوا هم الوطنيون وراحو يتمتعون بالإمتيازات والمناصب والأموال والنساء، وأصبح الآخرون ابناء الخائبات الذين عجنوا طحين الوجبة الأسود مع تراب الأرض العراقية وغمسوه بالوجع والأنين والمأساة ليشبعوا منه بطون عوائلهم الفارغة، وتكبدوا الأقصاء والتهميش والإعتقال، اصبحوا من ازلام النظام السابق ياللمفارقة المضحكة التي شاب لها القلب بعد ان شاب الرأس وعشب الأرض.
/7/2012 Issue 4240 – Date 2 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4240 التاريخ 2»7»2012
AZP20
HSNO