كريم العراقي .. إنطباعات شخصية – علي خيون

كريم العراقي .. إنطباعات شخصية – علي خيون

شاعرٌ غنائيٌ كبير؛ لكن تلك الكلمة لم تخدعه طوال حياته، فهو يعطي بسخاء وكرم وتواضع، وما يميزه عن سواه، تلقائيته وبساطته حتى آخر يوم في حياته، تلك التي لن تجدها لدى أي شاعرٍ أو كاتبٍ آخر على هذا النحو مع شهرةٍ واسعةٍ قوامها ثناء واطراء من شاعر كبير ـ نزار قباني، ورفقة طويلة مع مطرب ناجح ــ كاظم الساهر، وجمهور عريض من محبي شعره في الوطن العربي كله.

 يخيّل إليّ أحيانًا أن كريم لم يغادر طفولته، وفيها البستان العامر الذي كان يعمل فيه جده فلاحًا على نهر دجلة، ولم ينس المقهى الشعبي في “الشاكرية”، وظل وفيًا لهما يستمد منهما الحيوية والإنطلاق والتواضع.  وحين صرنا أصدقاء دراسة في عقدنا الثاني، كان الخجل أول علامة بارزة نشترك فيها معًا، كأن أربعة عشر عامًا، لم تفلح في فتح مغاليق الحياة وفهم الآخر أمامنا، منغلقين على ذواتٍ مبدعة ، حساسة، نفكر أكثر مما نتكلم.

 كيف حدث أن صار كريم صديقي في مفارقة عجيبة لم تحدث بالصيغة التي حدثت بها لولا تلك الأقدار المجهولة التي تقودنا إلى أشخاص معينين كي نحبهم، ثم كي نشقى بفراقهم.

 سأروي هنا، كيف تجشمت عناء الدراسة في غير منطقة سكني كي أراه، من دون قصد مسبق، بل بمصادفة غريبة، ولا شيء يحز في نفسي سوى أنني لم أسرد تلك الذكريات في أثناء حياته ليفرح بها، كأن الرحيل المؤلم يستفزنا على خلاف الحياة التي تخدعنا دومًا.

 ففي الصف السادس الإبتدائي، في مدرسة الفلّاح الإبتدائية النموذجية ببغداد الجديدة، نجحت إلى الصف الأول المتوسط “الصف السابع”، فتم اختياري مع مجموعة من الطلبة؛ لأكون في متوسطة “السلام” في ساحة الأندلس؛ لأن هناك تجربة جديدة شاءت وزارة التربية يومئذ تطبيقها، قوامها أن تدرّسنا نحن الطلبة، مدّرسات من الآنسات والسيدات، وسرعان ما ألغيت تلك التجربة، لأسباب عديدة، ونُقلت المدرسات وتفرق الطلاب جميعًا، ولابُدّ من اختيار مدرسة، فحصلت على قبول في متوسطة أخرى بعيدة عن بيتنا؛ لأن أحد أقاربي كان يعمل كاتبًا فيها، لكن ميزة سنوات السبعينيات، كانت في وفرة وكثرة وسائط النقل الحكومية “الباصات الحمر”، وسيارات نقل الركاب “الفورد” التي لا تحصى، تصطف في خطوط منتظمة ومعلومة بين المناطق، فتجعل البعيد قريبًا.

 عندما دخلت الصف في المدرسة الجديدة، وجدت مكانًا شاغرًا إلى جانب فتى اسمه ” كريم عودة”، وحين تجاذبنا أطراف الحديث، فهمت منه أنه جاء من الإبتدائية موهوباً، وأنه يكتب الشعر باللهجة البغدادية، وأخبرته بأن لدي مسّودات قصص قصيرة لم أنشر منها شيئاً، واتفقنا أن نخبر أستاذ اللغة العربية بأمرنا، ولكن الخجل منعنا من الحديث عن تجاربنا المتواضعة، ولكن المدرس لاحظ أننا أفضل من سوانا في درس الإنشاء والتعبير.

فن القصة

وذات صباح، رفعت كفي، وسألت مدرس اللغة العربية الأستاذ خالد سلمان الدليمي عن كتاب عنوانه “فن القصة” للدكتور محمد يوسف نجم، كان قد صدر في بيروت، وكان هذا المدرس تربوياً جليلًا، له مجموعة قصص قصيرة مطبوعة عنوانها “الجرحى” صدرت عام 1959،  وبقي صديقًا لي أزوره في ثانوية “الأمين” في حي القادسية ببغداد حتى احالته على التقاعد ثم وفاته عام 2001، رحمه الله وأحسن إليه، فدنا مني مستغرباً، وسألني:

ـــ أتبحث عن كتاب من هذا الوزن؟ أتقرأ للدكتور محمد يوسف نجم؟

فقلت له بثقة:

ـــ لدي محاولات في القصة منذ الإبتدائية، وصديقي كريم يكتب الشعر.

 كان التأكد من شاعرية كريم سهلة، واختباره ميسورًا، فقد قرأ قصيدة جميلة، فأعجب بها الأستاذ جدًا، ووجهه بكتابة قصائد للأطفال، بسبب العمر وقلة التجربة كما قال له، وراح فيما بعد يراجع له محاولاته ويشجعه باهتمام مدرس كفوء، ويطلب إليه أن يقرأ الشعر كثيراً، وصار يقتطع وقتًا من درس المطالعة ليقرأ علينا كريم مقاطع من شعره.

 أما أنا، فتطلب الأمر اختباراً تحريرياً للتأكد من ادعائي، فكتب المدرس عبارة على السبورة، هي: “السماء لا تمطر إلا الخير”، وطلب إليّ أن أكتب قصة قصيرة عنها في حدود الوقت المتبقي من الدرس، ونجحت في الإختبار، واتخذ المدرس قرارًا سريعًا فسلمنا ــ أنا وكريم ــ مسؤولية النشرة الجدارية، ولجنة الخطابة، والمسرح، ومكتبة المدرسة، ولكننا لم ننشر نتاجاتنا في الصحف؛ لأن أستاذنا الجاد المتشدد، كان يوصينا بأن لا نستعجل النشر حتى تستقيم لغتنا ونكتب نصوصاً ناضجة، وأشهد أنه أرهق نفسه لكي تستقيم تلك اللغة، مع رفدنا بكتب مختارة نقرأها ونعيدها إليه .

 في تلك السنوات، فوجئنا بأغنيات الأطفال تبث لكريم “ياشميسة”، “خالة يالخياطة”، ثم “جنة جنة” التي حصلت على شهرة لم يتوقعها أبدًا، وهو غير مصدق لهذا النجاح الباهر المبكر، وبقينا معا،ً مع عدد من الموهبين أتذكر منهم الطالب البصير الشاعر بنوان سكر، والكاتب ملك محمد جودة، طلاباً مميزين نشرف على نشاطات المدرسة بتوجيه أستاذنا الجليل حتى عام تخرجنا في المتوسطة، إذ نُقلت إلى ثانوية قريبة من بيتي، وذهب كريم إلى ثانوية أخرى، وهو العام الذي نشر فيه أول قصيدة للأطفال في مجلة “المزمار” تحت اسم “كريم العراقي”، ثم نشر أول مجموعة شعرية عام 1974.

مرت سنوات، وظل صوت كريم يأتيني من خارج العراق، وأنا فرح بما وصل إليه من شهرة ونجاح، فيقول ضاحكًا في كل مرة:

ـــ كيف عرفت اسم الدكتور محمد يوسف نجم ياعلي وأنت في الصف الأول المتوسط؟ هل تتذكر كيف استغرب مدرسنا سؤالك؟.

 ويغرق في الضحك، مع حنين إلى تلك الأيام الجميلة، لأن ذلك السؤال كان السبب المباشر لأن نحظى برعاية واهتمام ذلك التربوي الكبير، فكانت بداية صحيحة لكلينا على طريق الأدب.

رحل كريم مبكرًا، لكنه سيظل في قلوب محبيه حيًا مابقيت كلماته الجميلة.

مشاركة