كرم نعمة والظاهرة الترامبية

كرم نعمة والظاهرة الترامبية

صياد ماهر في غابة الإعلام

زيد الحلي

كم هي سريعة السنين ، تمضي بعنف مثل مياه شلال متمرد ، عرفتُ زميلي الكاتب والصحفي كرم نعمة في تسعينيات القرن المنصرم ، شاباً جميل المحيا ، سريع البديهة في التقاط الظواهر ، يتناول موضوعاته بأسلوب السهل الممتنع .. كان احد وجوه صحيفة ” الجمهورية ” البغدادية ، التي اطلق عليها دوما كنز الصحافة العراقية ..

كرم نعمة ، الشاب ” الجمهوري ” الوسيم”  امضى ربع قرن ونيف ، من الزمن خارج العراق ، جلها في لندن ولازال ، لكن الصحافة  بقت معشوقته ، لم يتخلى عنها ، ولم تتخل عنه ، وبقى قلمه الجميل ، يكتب بتلك الانسيابية التي عُرف بها ..لم ينقطع تواصلنا ، لاسيما بعد 2003 وحتى اللحظة ابدا ، وكأن سنوات  غربته ، مجرد ومضه زمنية لم نعترف بها ..

عمله اليومي في الصحافة ( الزمان الدولية سابقاً ، والعرب اللندنية حالياً ) وما بينها من محطات اعلامية ، بتواصل عجيب .. واسجل له اعجابي الشديد بمتابعته للشأن العراقي ، وبالخصوص المجال الثقافي بكل تفرعاته،  والفني بصنوفه المعروفة ، ودائما اجد في الصفحات التي يشرف عليها مادة واكثر عن العراق ، وللأمانة ، اذكر ان كرماً حينما يكون بينا اتصالاً هاتفيا ، فأنه يقضي وقتاً طويلا في الاستفسار عن اصدقاءه في وسطنا الصحفي ..

سلاح غير مرخص

قبل ايام قليلة صدر له كتاب جديد في فحواه ، حمل عنوان ( سلاح غير مرخص … دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية ) عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت ، ضم فصولاً احتوت انطباعات مفعمة بالحس الصحفي المتابع ، عن الرئيس الامريكي السابق “دونالد ترامب” ، بأسلوب صحفي بديع وراق ، من حيث العبارة والمدلول ..

وقد ارسله لي  متفضلاً بنسخة رقمية على حسابي في وسائل التواصل الاجتماعي ، ولكون نظري لا يساعد  على قراءة  تلك النسخة ، ولمحبتي لقلم الصديق كرم  ، قمت بتحولها الى ورق ، ثم بدأت قراءة الكتاب حتى انتهيت منه امس .. ما احلى تلك القراءة التي ساحت بيّ في فضاء ” الرئيس ” ترامب ” وهو فضاء عجيب ، لاسيما علاقة الاعلام به ، وعلاقته بالإعلام .. وهي علاقة لم يشهد لها تاريخ رؤساء امريكا مثيلاً !

انتزاع التفاصيل المختبئة

 في مقدمته ، قال المؤلف : “على مدار أربع سنوات ، مثّلَ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، درسا إعلاميا في غاية الأهمية، سواء في علاقته مع وسائل الإعلام، أو في كل ما يصدر عنه من تعليقات وتغريدات على مواقع التواصل. لأنه ببساطة يفهم السياسة بأنها التعريف الأمثل للإعلام. لقد وصف الصحافة ب «البذرة الشيطانية الفاسدة » وكان يعامل كل الأخبار التي لا تتوافق مع سياسته على أنها زيف مكشوف. كان لا يتردد في إهانة وطرد الصحافيين من مؤتمراته. مع ذلك كان يجد ملايين المتلهفين كل صباح لمتابعة تغريداته على تويتر. مثّلَ ترامب على مدار فترته الرئاسية قوة إعلامية قد تفوق قوته السياسية، بغض النظر عن توجهها، وكان يستهدف في تغريداته التنكيل وإقصاء الآخر بكلمات تنطلق من سلاح غير مرخص. الأمر الذي دفع كبرى مواقع التواصل إلى إغلاق حساباته في وقت متأخر من دورته الرئاسية. ومثل ترامب فيكل ذلك درسا مفتوحا وشيقا لوسائل الإعلام “

وفعلاً ، وجدتُ في الكتاب ، كل ما اشارت اليه المقدمة ، وصدق من  قال إن الاعلامي المتمكن من أدواته الصحفية، هو القادر على انتزاع التفاصيل المختبئة والنبش في الحواشي، دون الأخذ بظاهر الموضوع، يعرف المختبئ في الزوايا ، لذلك قدم الزميل كرم ” شيئا مفيدا لمدونة ترامب الطويلة، والتي لا يبدو أنها على وشك الانتهاء وأن غادر البيت الأبيض” ! لاحظت ان الكتاب ، كُتب بلغة شفيفة ، رقراقه  بعيدة عن مقامات بديع الزمان الهمذاني، وابتعد المؤلف عن حشر التشبيهات العتيقة تفاصحا وتنطعا ، فاللغة عنده هي الأداة لا الهدف .. وكم تمنيت ان يدرك بعض كتابنا تلك الحقيقة ، بأن تكون لغتهم سهلة مطواعة ، وشخصيا ، أنا مع إثراء اللغة دون تعقيد ، ومع مقولة “خطأ شائع خير من صواب مهجور”

ربطة عنق صموئيل بكيت!

وباللغة الجميلة  التي اشرتُ اليها ، قبل لحظات نجد ان كرم نعمة يكتب في احد فصول الكتاب : ” لقد كان صموئيل بكيت يترك ربطة عنقه بلا شد، كذلك ألبير كامو، مثلما فعل آرثر ميلر في تعبير عن زواجه الفاشل من مارلين مونرو. لكن ترامب في هذه الصورة لا يتشبه بأي من هؤلاء المدهشين في صناعة الأحلام المعبرة، وهو يترك ربطة عنقه حرة على كتفيه، لأنه أصلا يرى في نفسه ممثلا للنخب العالية وليس لتلك الهموم الأدبية المستعارة التي يمثلها ميلر وبيكيت وكامو وسواهم. لذلك بدا مثل مقامر عائد من خسارته، وأشبه بـ “رجل أعمال مسجون تم إطلاق سراحه بكفالة ولم يتذكر ربطة عنقه المسترخية على صدره كي يعيد شدها”!

وفي مقالة حملت عنوان  “تشريح صورة خارج تلفزيون الواقع” قدم  المؤلف صورة معبرة لترامب بعد ليلة حملة انتخابية قبل أسابيع من هزيمته أمام بايدن، التقطتها عدسة المصور باتريك سيمانسكي من وكالة أسوشيتد برس لترامب بدا وكأنه خارج تلفزيون الواقع السياسي الذي عرف به.

إنه في هذه الصورة ليس ترامب المعتاد، فترامب لن يكون ترامب من دون الجماهير الغفيرة المحيطة به في الصالات والملاعب، حتى وإن كان في غرفة نومه يرسل التغريدات النارية! لنا أن نتخيل أكثر من مئة مليون متابع له، هؤلاء جماهير يحسن بهم ترامب ويتشوق لمخاطبتهم.

صورة ترامب في وكالة أسوشيتد برس مدعاة للتحليل أكثر من أي تصريح سياسي له لحد الآن، فهذه الصورة لا تظهر ذلك الرئيس الساحر ببدلته الثمينة وربطة عنقه الحمراء كعلامة عن الثراء. بل مجرد لاعب بيسبول مهزوم عاد في وقت متأخر بعد تظاهرة انتخابية مخيبة للآمال قاطعها الجمهور، والبعض منهم تعمد اقتناء تذاكر الحضور ولم يذهب لتطبيق سياسة المقاعد الفارغة وإفشال حملة ترامب الانتخابية. “فشل لاحقا في الفوز بالانتخابات الرئاسية”.

كما تُظهر الصورة أن الرئيس الأمريكي لديه عدو يتجمهر أكثر فأكثر، لا يمكنه هزيمته بالتخبط، وهو ينزل من المروحية الرئاسية بربطة عنق محلولة على كتفيه، وماسكا بقوة قبعة لاعب منهك.

المكر الشيطاني لترامب

وحول المكر الشيطاني لترامب في معركة السلطة مع الصحافة ، اوضح الزميل كرم ، في كتابه الشيق عدة نقاط جديرة بالانتباه ، نجتزأ منها  : “من المحزن أن يستطيع الرئيس الأمريكي منع عدد من أهم وسائل الإعلام في العالم، من حضور مؤتمراته الصحافية، لكن ألا يجدر بنا أن نحزن عندما نجد أن صحافتنا العربية مازالت تطلق بوجه الرؤساء أسئلة تكتب لها مسبقا، مثل فقاعات الصابون.

قد تبدو صيغة العلاقة بين السلطة والصحافة واضحة بقدر كاف، إلا أنها في حقيقة الأمر ملتبسة، فبمجرد أن تكون الصحافة مهادنة هذا يعني أنها خضعت لإملاءات السلطة، لكن السلطة لن ترحم الصحافة وستشن عليها معركة قاتلة عندما تجدها تهدد بشكل حقيقي وجودها.

الحكومة والسياسيون لا يدفعون أكثر من ضريبة الكلام، فيما الصحافة مهتمة بمنع الفساد والتغول وحرية تبادل المعلومات.

حتى يبدو تفضيل النظم الديمقراطية الكبرى لصحافة من دون حكومة على حكومة من دون صحافة، حكمة أفلاطونية، لم تتحقق في يوم ما منذ أن كتبت الصحافة مدونتها الأولى في التاريخ.

العداء كامن بين الصحافة والحكومة ولن تصل هذه العلاقة إلى المثالية مع كل الحماية التي توفرها المؤسسات الديمقراطية للصحافة.

غرور الحكومة ومصالحها واندفاع الصحافة وتهورها أحيانا، ليست أجواء طيبة لعلاقة مثالية.

لم تكن الصحافة بحاجة إلى “مكر شيطاني” يديره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفق تعبير الكاتب سيمون كيلنر، لنكتشف مسعى الحكومة لتقـــويضها”.

ثم يزيد موضحاً : “هذا ما افترضه كلام راسل بيكر المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز، بعدم وجود صحافيين اليوم يغطّون البيت الأبيض كما كان الأمر سابقا، بل يوجد صحافيون يغطيهم البيت الأبيض، في إشارة مثيرة إلى علاقة المصالح وفكرة البقاء ما بين الحكومة والصحافة.

اليوم ثمة انتباه مفزع وتضخيم لتلك العلاقة ما بين الصحافة والحكومة، وكأن أعيد إحياؤها من جديد “من قال إنها ماتت؟”.

الفكرة التي يريد ترامب ترسيخها في ذهن الجمهور عن الصحافة بوصفها مكرا شيطانيا، أربكت الصحافة وجعلتها تعيد التفكير في مصالحها قبل خطابها.

هذا ما يذهب إليه الكاتب سيمون كيلنر فـ”المكر الشيطاني” الذي يخطط له ترامب يسعى إلى تقويض الصحافة.

يعترف سيمون بأن خطة ترامب الماكرة لتقويض الصحافة من خلال تهجمه على الصحافيين واستعماله عبارة الأخبار المزيفة، ووصفه الصحافة بأنها عدو الشعب، نجحت في تصوير الصحافة بأنها وسيلة في يدي السلطة القائمة تخدم مصلحتها بينما هو يتحداها لخدمة مصلحة الأمريكيين العاديين.

لنتذكر ونحن نتابع معركة “المكر الشيطاني” التي يُسقيها الرئيس الأمريكي وفريق عمله بقوة مالية وإعلامية موازية، أن صحافتنا العربية عاجزة عن الدفاع عن مصداقيتها المهدورة بيد السلطات ورؤوس الأموال وأخيرا مصالح رجال الدين!”

تلفزيون الواقع وشهرة الرئيس

وبذات جمال اللغة وسحرها ، يكتب في فصل آخر ” إنه قوة إعلامية بلا شك بغض النظر عن طبيعة خطابه المزدري للآخر والقاذف للشتائم، حتى لو زعمت كبرى وسائل الإعلام بغير ذلك، فإنها لا يمكن أن تبقى متفرجة على اللعبة المشوقة والمتواصلة للمرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري في الانتخابات الأمريكية دونالد ترامب.

وسائل الإعلام الكبرى تشارك ترامب لعبته بطريقة أو بأخرى، سواء برفض ونقد انتهاكاته للقيم الأمريكية، أو بتقديمه كنوع من الحل للأمة الأمريكية.

شهرة ترامب في مواقع التواصل الاجتماعي وتلفزيون الواقع وثروته الشخصية، تجعلانه بحد ذاته قوة إعلامية، لذلك لم يجد رفض موقع بازفيد الأمريكي هذا الأسبوع عرض إعلانات من الدعاية الانتخابية له، بسبب أضرارها، التي شبّهها مدير الموقع بأضرار السجائر، لم يجد تأثيرا أكثر من تأثير تصريح الأمير الوليد بن طلال الذي اعتبر ترامب عاراً على الولايات المتحدة، مع أنه يمتلك نفس قوة ثروته “

آمل ان يجد القارئ العراقي في مكتباتنا هذا الكتاب البديع في رؤاه واستقراءاته ، ليخفف قليلا من موجة الحر التي ضربت الادمغة قبل الاجسام .

مشاركة