سيرة الشاعر الشخصية
كرملش ومنازل أهل بخديدا
شاكر مجيد سيفو
الموصل
“كرملش يمّي ومنازل أهل أبي في بخديدا” ((تمامً، وكان أن بكيت، ظلّ اله صغير من الطين في البند السابع من سِفرٍ خربّه أنكي في أسفل ممر رقيم من رتبة الملوكية الثانية في سفر التكوين وقد استدعى مردوخ مّرة المختار مجيد الطويل كربيع يتناثر في مزارعها ومساحاتها….)) يستهل الشاعر زهير بهنام بردى نصه الموسوم “كرملش يمّي ومنازل أهل أبي في بخديدا.. في بيت أبي منازل كثيرة وأنا ذاهب لأعدّ لكم مكاناً ـ المنشور في جريدة الزمان (15 أيلول ـ 2013) يستهل نصه هذا بهذا المقطع الذي يتحرك من شفتي الأله الصغير الى سفر خربّه أنكي، وهو اله المياه، ويوغل داخل المتن، في رحلة شعرية تتحرك فيها الذات الشاعرة بانفتاح الخزين الذاكراتي على المشهد الحياتي متعالقاً ومتواشجاً ومؤتلفاً بين بنيتي المكان والزمان، المكان الذي يمثل الدال الإرث الحضاري والإنساني، بين الأسيّة المعرفية والحلمية، في سعي الشاعر الى استمطار رؤاه الحلمية واستحضار تاريخ شخصي طويل يحتشد بأسماء أصدقائه، داخل متن شعري يتشظّى الى بنيات تشعير السيرذاتي وينصهر داخل أرومته الشعرية والحياتية أصدقاؤه الحقيقيين مع أصدقاء أخرين يمثلون صور الألوهية والملوكية
، يتشظى الإستهلال الى بنى شعرية تتراكب في مشهديتها الرؤيا الزمنية والمكانية بآتساع الرؤية لأمكنة متعددة ومتعالقة معا ورؤية زمنية تتعاضد بين الماضي والحاضر، ايتداءاً “من كتابة واجبه المدرسي في القماط” ووصولا إلى زمن “جدّه وهو يقرع ناقوس قبّة صغيرة في كنيسة مار أديّ”، تشير حركة النص في أفعاله إلى تسيطر المعاني الظاهرة التي تتناغم مع الرؤيا الشعرية، واستدعاء النسق المعرفي ،والميثيولوجي الغاطس في الذاكرة الشعرية، إذ يحرص الشاعر على خلق التوتر الدلالي في المنظومة اللغوية أو بوساطتها، حيث تتجاوز اللغة المفردة اليومية في السياق، ويبرز هنا الخيال الذي يشتغل على تبئير المستويات اللغوية والدلالية والمورفولوجية حتى نصل إلى دهشة النص ولذته: (ويقرع جدي القس الذي يحتفظ في خزانة خشبية من خشب الصندلوس صليب ذهبٍ مقدس، ناقوس قبّةٍ صغيرة في كنيسة مار أدّي، فتهرب الحمامات في الفجر ليفتحن عيون النهار الذي تأخر أمس في حانةٍ قرب الطريق الشمالي من بستان بعد أن زرن متحفاً شخصياً في مصحة يرقد فيها نرامسين وبجانبه ترقد عائلة الكتابة رامبو، سارتر، لوتريامون، نيتشه وماركس، وأدّي شيرو والمتنبي وهيغل واحيقار ومار أفرام وأدونيس ووايتمان ومائدة توقد زهور الكالبتوس وقناديل أوروك تبعث كرنفالاً ضبابياً ساحراً يصبحه نبيذ وشفاه نساءٍ ثملات الحضن والجدائل صف أشجار خريف تبعثر أوراقها أينما كان ..) ان مشهدية النص تتخذ منظومة من المستويات الدلالية من
بنيات التضاد والمفارقة والإحالات المرجعية إلى الموروث الحكائي والشفاهي والتصوفي والفلسفي واللاهوتي المتمثل في الأنجيل والتوراة، والسؤال الذي يبني قيم التعارض والأسطرة، وتتبنين شعرية المفارقة والتضاد في سيل من الصور الشعرية التي تتوالد في بنيات حكائية سردية سيرية ذاتية، يتعالق في بنياتها الزمان والمكان في سحرية اللغة وإرسالياتها المتتابعة والنبرة الوصفية المدهشة والتي اتسمت بالحرية في خلق التوتر الحسي والذهني والمعرفي الابستيمولوجي في أشتات من الوجود الكوني والمادي، إن الشاعر هنا مهموم ومحموم بفكرة التوصيل، لذا نراه يتعمد كشف التعارض بين خيوط حبكةِ النسيج النصي وفكّ مغاليقه لكشف المعاني الخفية والقول الشعري الذي يتوقد بالحنين والنوستالجي المحّمل بحسّ شاعري ثرّ إذ تتوازى هنا الرؤية مع الرؤيا في استقطاب نقاط الدلالة في توازن ثرّ، بين عنونة النص وعمارة المتن التي شيدّت على أسس لغوية في مسارات من الإستدلال والتدليل والشعرنه وهنا أستعين بقول لـ (جيرار جينيت)، “عن النص الموازي الذي تشتد فيه علاقة العنوان بالنص وتتشابك” (كرملش المعجم شكل قرص مدمج يهذي في غليون جدّ محروق وتجاعيد تشبه لفة فلافل يابسة) يقيم الشاعر عبر خلايا نسيجه الشعري في نصه هذا، علاقات خلية أميبية تأسس في دوائرية بنى وتراكيب شعرية تشتد بين خلية وخلية، بين بنية وأخرى عبر مستوى التناظر والتوازي الذي هو الخصيصة الفائقة الموكوله لها في قصيدة النثر، وبين بنية التضاد على حدّ تعبير ياكبسون، والمثير هنا ما يحمله النسيج الشعري من علاقات شعرية تتشيّد بين خلية وأخرى، ومستوى من القول الشعري وآخر يمنح النص أمتدادات لا نهاية لها، إضافة إلى التراكم الدلالي للفضاء العمودي للنص الذي هو آقصى وأعلى قيمة شعرية لحياة النص: ( … ومن فتحةٍ لماعّة من أطلس الريح، من عنق ماكنة جورج زيا، يقذف خضر وحبيب متي بحّا كرةً تصيب سلّةً تتدلّى من قلعة أربل خسر فيها الملائكة أعناقهم وأضاعوا الدرب الى السفح فرقدوا على قبلة الشمس وأدخلها جبرائيل قاشا الذي استغرق في حبّهِ يهبط كشعاع من حضن جبل إلى سرّية تحمل طاق بغداد تموء من الحزن ونينوى تبكي في المقبرة بسرعة على ما تبقى من بحيرة الحب المتفجر كينبوع من قامته الخرافية المفارقة في رؤية الأشياء والكائنات والأمكنة والشخوص تعكس كلّها صراع الذات والموضوع، الخارج والداخل، الحياة والموت، النور والظلام، الجمال والقبح، يقول الناقد. إي ريتشارد: المفارقة هي في استحضار التنافرات والتناقضات، فالشاعر هنا في نصه هذا يرى سيَلاً من المتناقضات ويكتبها ويبني شعرية نصه على هذه المستويات التي يتحرك بها بكل حرية، حتى يصل الى القول الشعري في سروداته، في منظومة لفظية تتكرر أو تتعدد فيها الأسماء القريبة منه، من شخصه التاريخي والذاكراتي والتي ـ كان يتحتم على الشاعر، تدوين إشارات وهوامش في خاتمة نصّه هذا، وهنا يحضرني نص ” الأرض اليباب ” للشاعر (ت إس إليوت) الذي الذي كان قد سطّر صفحات من هوامش وإشارات وإحالات في خاتمة نصه، كي يستدل القارئ على إمساك كل البؤر الملتبسة التي تشكل أهراماً من الدلالات الخفية وحتى الظاهرة، وبالعودة إلى نص الشاعر زهير بهنام بردى، الذي يتحف القارئ بمنظومة من الأسماء والشخصيات يكاد القارئ أن يتيه دون مفاتيح النص، وهذه ليست مثلبة تسجل ضد النص، لكنها من ضرورات القراءة، فالقارئ هنا، غير مقصود، ومقصود في أن واحد، وتتمثل إشارتنا هنا هذه القيمة المركزية من ثيمات النص المنبثّة على شكل معانم ذروية وشذرات تتعدد في بلوراتها الشعرية المتقدة: (… هي حفيدة أبسو من عباءة القيثارة الفضية مطلية بالأوز والعقاب والغراب والديك والصقر ورائحة الحصاد والذئب والأفعى والغار والطرفاء، ها هي تهبط كالشوكولاتا تموع في حلق أهلها بيت شابي وكتيلة ومرتا وحدادا وشنكول وعبدال واوغسطين وتمو وبحودا وقاشا وحودي ومنصورا ومجودا وأنطون وفلفل وقرمزة وكرنو ومالان وميا ومامو وإيشو وبابكا وبابو وبهدري وجبوري وقرشابا وكبارا وكجي وميمي وكدو وكني ومصلوب ونجار …… الخ )) يتخلق الجهاز اللغوي للشاعر في هذا النص بحكايات غنائية صافية صادمة مدهشة في إرسالياتها الشعرية مكتنزة” بأشعة الشعر فوق البنفسجية،” حكايات أثيرية متماهية بالتلغيز الشفاف بضربات خاطفة تتشعرن “بالغموض السائل” بدفقات شعورية تتراكب في الوجود نفسه، يتحج الشاعر على العالم والقبح فيه ويغني للجمال ويرتّل تراتيله الشعرية من أعماقة، وأسئلته والإشكالوية التي تنهصر في تضاعيف النسيج النصي وتشتد حيث تؤميء أنساقه بالرؤى الخارقة في إفاضاتها وفي مكوّناتها الدلالية والأسطورية المكثفة في هذا التنوع والثراء في اللغة والقول الشعري الذي يتشظى إلى بؤرٍ شعرية بصرية وتصويرية ومعرفية وتشكيلية وسينمائية وحكائية وسيرذاتية بشموليتها المنفتحة على العالم والأشياء والكون والوجود والزمان والمكان ودينامية اليومي المحلّي، الذي يتبدئ به الشاعر بانوراما نصه الشعري من العنونة الرئيسة وحتى السطر الأخير، حيث يتشكل المتن من سرودات تكشف مكونات النص ومتوالياته السيرية والأنوية والجمعية، وتتحقق في بلورة الكيان النصي كلّ هذه الأنساق اللفظية، من رموز وعلامات وإشارات ورُقم وطُغراءات وبصمات وأصوات ويشتد هنا لهيب المرئي المسفوح على لوح اللامرئي في خلق الأنفعال الوجداني والعاطفي الذي يتحرك بقوة وسرعة بين قطبي الداخل والخارج، الداخل المتفجر من الذاكرة الى التخييل الذي يؤسس ويبني العلاقة التبادلية بين الذاكرة والمخيلة، وينطلق التأسيس الرؤيوي هنا من المخيال ليعيد التوازي في لعبة شعرية سردية ضاجّة في اتساع الرؤيا وكثافة اللغة التي تحيل كلّ صورة الى حاشية في الفكر حيث يجنح قليلا الى أدلجة العبارة وتكريس المعنى المترشح عن روح الملفوظة وظاهراتية الأشارة بالعودة الى تسطير الأسماء وبخاصة اسماء العلم والرموز الانسانية الخالدة في الذاكرة البشرية (أنجلس ،ورأس اصلع ” ماركس ” وفهد أضافة الى الأسماء المحلية القريبة من أرومة الشاعر وقرابته: (وكنت أفرح لأنني سأطلّع على كلام أغرمتُ به سرّاً وكنت أطيرُ من الفخر حين أبدأ مسبحة أسماء جوهرة نجم عراق يئن ويدّون في السّر سعيد شابي وبطرس كتيلا وشاكر شابي وسليمان عبد بطلية وأخوة الذي علّمني أن أهتف في فتحة قميصي بآسم انجلس ورأس أصلع قاد الكرة الأرضية الى بركان يغلي في أحضان جاكوج ومنجل وموعد كعدة بين عيون مردوخ وفهد في بيت يجلس بداية حلق شارع موسكو بالضبط فوق شارع المكتبات في كتف نينوى الأيمن) إنّ مرجعيات النص هي من كشوفاته التي يبتدعها باللحظة الشعرية السحرية، التي تنفتح على الموروث الديني وبالتفاعل الخلاق بين الميثولوجيا ومصاهرة القيم الإنسانية، حيث تنفتح على المعارف في تواشج واقعي يضفي عليها سيناريوهات الأمكنة وتاريخ العائلة ورموزه المقدسة، باستحضار الروحي والملحمي وكتابة التعويذة وبثّ شفرات المخطوطات وبخاصة ـ السريانية ـ فالنص المخطوطة هنا نص السيرة الشعرية، يختصر الشاعر كل مهاراته في شجرة شعرية تحمل أنسابه، وأنسابها في جذر واحد: (… كإصحاح كهف ترنّ موسيقاه في رنين صوت المطران المضيء فرج رحّو وهو يودّع قلب الكون ونبض العالم يودّعه وتطوبّه الإصحاحات والمدن والكاتدرائيات ويرنّ في جنازة المأتم الأخير للأب رغيد في ذكرى الجمعة العظيمة في طاهرة الساعة، وبخديدا ومار أدي حلق كرملش ومائدته الفجر الأولى) تتعدد بنيات الأمكنة على آمتداد مساحة النص، فمن المكان التاريخي الحضاري إلى المكان المقدس، ينتقّل الشاعر، إذ يقرأ المكان كوجود وكائن ويحيل بنياته الجوانية الى شعرية تنتج أشياءها ورموزها ويسعى الى التناص مع الأشياء في معادلتها التحولية بنوع من الجمال التطهيري، في سعي منه على استنبات الشعري في روح المكان، على أساس أنّ الشعر في هندسته وفلسفته هو أحدى المعاني العميقة التي تحرص على الإقامة في المكان وملء فراغاته وترتيب فوضاه، فتبرز هنا شعرية الأمكنة، ويتحول النص الى سيرات شخصية يشغل المكان تشكلهّا المحتدم حين تتحول الى رموز وعلامات، تشتغل حسب معيار الشعر ورؤيا الشاعر: (الزعيم يهدر بقامته الهدهد وتهدر أربيل والبصرة وبعقوبة وعنكاوا وألقوش وكرملش ونقرة السلمان وسوق الشيوخ والناصرية والشهداء وتطوف حمامة السلام بالنذور ويرقص بيكاسو بألوانه ويجمع رجال الكومونة كوكبة من طيور) ثمّة تناصات داخلية للرؤى الشعرية تتردد بذباتها الشعرية والميثولوجية، تقع بين بنية المكان والطفولة وأحلامها، ويبدو الشاعر هنا يرى إلى كونية الشعر والتشعير بعدسات متعددة، والشعر بوصفه رؤيا فهو يرسم علاقاته بتأسيسها بين الشعر والوجود ويتحرك الشاعر ضمن هذا القوس، ويتماهى معه ويتحسسّ هذه الثنائيات العميقة: (.. وأصرخ أريد صفي في بوتان الأبتدائية / رغم أني أخاف عيون المعاون العنكاوي، المعلم بويا سولاقا وأركض إلى البساتين وأعرف أنّ أبي بعيد وبيتي قرب القلعة/ أصرخ دّر بي أيّها إلى أربل كي أصفق لتحية العلم وأشهق زفير نينوى وأصعد رتبة الزعيم .. وأبقى أصيح أحبك ياكرملش/ حبيب يونان قبلني قبلة فيها من القهرمان/ والحليب والعسل فسقط منديل أحمر من أصبعه وتوردّ أسمه بعياط وحيده وأبقى أصيح أحبك كرملش ويهتف خلفي حازم وفهمي وجنان وفارس وجبران وسمير وهاني وبيتر وبطرس وبهنام والويس ومتي وخضر والياس وهرمز ورضا وخالد والياس وعزيز وأكرم عبوش والفلاح وساعات الماء الهابطة من ترجّلة … آه يا لبّ الطفل … هي عائلة تنزل من فم السماء وتملأ بيوتاتها بالضوء والعصافير وقيناثات شاعرها الرقيق عزو قاشا ووتر من أوتار طول أبونا سالم القيثاري .. يحمل عكازته فنرش خلفه النشيد والمزامير والنبيذ وشلاما ألخ يامريم ليعطي الرب منذ كل فجر خبزه المبارك…) إنّ الشاعر يتماهى مع رموزه ومخلوقاته في أعلى درجة من درجات الحكي الشفاف الذي يظل البعد الظاهر لحالات الإستقصاء الخلاق للعلاقات البنيوية للنسيج الشعري، وما يتصل بالبعد الخفي أو ظل النص حسب تعبير رولان بارت، لذا نراه يفتح شفراته ويضيئها، ويتكلم لا بل يهذي في أخصب منطقة من مناطق القص الشعري يشعرية سحرية آمتدت الى سنين طوال مم حياة الشاعر.