مروان ياسين الدليمي
يعد كتاب زبيغنيو بريجنسكي، المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر، واحدًا من أبرز الأعمال الفكرية التي تناولت السياسة الخارجية الأمريكية ودورها في تشكيل النظام العالمي خلال أواخر القرن العشرين. صدر الكتاب عام 1997، في فترة كانت فيها الولايات المتحدة تتمتع بمكانة القوة العظمى الوحيدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنه جاء أيضًا في سياق اتهامات بأن السياسة الأمريكية تفتقر إلى رؤية استراتيجية واضحة، وتعتمد على ردود فعل تكتيكية أكثر منها خطط طويلة الأمد. من خلال هذا العمل، قدم بريجنسكي رؤية جيوستراتيجية شاملة تركز على أهمية منطقة أوراسيا كمحور للسيطرة العالمية، ورسم خريطة طريق للحفاظ على الهيمنة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.
السياق التاريخي والفكري للكتاب
يأتي الكتاب في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقف فريد كالقوة العالمية الوحيدة ذات النفوذ العسكري والاقتصادي غير المسبوق. لكن بريجنسكي، بصفته عالمًا سياسيًا متمرسًا ومفكرًا استراتيجيًا، رأى أن هذه الهيمنة ليست مضمونة إلى الأبد، بل تتطلب استراتيجية دقيقة للحفاظ عليها. استند في رؤيته إلى أفكار سابقة في الجيوبوليتيك، مثل نظرية «قلب الأرض” (Heartland) للسير هالفورد ماكيندر، التي ترى أن السيطرة على أوراسيا هي مفتاح الهيمنة العالمية. لكنه أضاف إلى ذلك بعدًا حديثًا يتماشى مع واقع العولمة والتحولات السياسية في نهاية القرن العشرين.
أوراسيا: رقعة الشطرنج الرئيسية
جوهر الكتاب يكمن في فكرة أن أوراسيا، التي تمتد من غرب أوروبا إلى شرق آسيا، هي «رقعة الشطرنج الكبرى» التي تُدار عليها اللعبة الجيوستراتيجية العالمية. يرى بريجنسكي أن من يسيطر على هذه المنطقة يمتلك القاعدة الأساسية للسيادة العالمية، نظرًا لما تتمتع به من موارد طبيعية، كثافة سكانية، وأهمية جغرافية تربط بين القارات. في هذا السياق، يحذر من أن أي قوة منافسة تسيطر على أوراسيا قد تشكل تهديدًا وجوديًا للهيمنة الأمريكية.
يؤكد بريجنسكي أن الولايات المتحدة، بوصفها القوة العظمى الوحيدة، يجب أن تلعب دور «اللاعب الرئيسي» على هذه الرقعة. لكنه يشدد على أن الحفاظ على هذا الدور يتطلب استراتيجية بعيدة المدى تتجاوز ردود الفعل الآنية. يقترح أن تتبنى أمريكا سياسة «الإدارة الجيوستراتيجية» التي تهدف إلى منع ظهور قوة منافسة في أوراسيا، سواء كانت روسيا أو الصين أو تحالفًا بينهما. ولتحقيق ذلك، يدعو إلى تعزيز التحالفات مع الدول الغربية، خاصة أوروبا، وضمان استقرار الدول الحدودية في أوراسيا، مثل أوكرانيا وتركيا ودول آسيا الوسطى.
أوكرانيا: مفتاح السيطرة على روسيا
من أبرز الطروحات في الكتاب هو التركيز على أهمية أوكرانيا كعنصر حاسم في الاستراتيجية الأمريكية لاحتواء روسيا. يرى بريجنسكي أن أوكرانيا المستقلة والموالية للغرب تُضعف بشكل كبير قدرة روسيا على استعادة مكانتها كإمبراطورية أوراسية. يقول صراحة: «بدون أوكرانيا، لن تصبح روسيا إمبراطورية أوروبية». هذا التحليل يعكس رؤيته بأن روسيا، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تظل لاعبًا محتملاً يمتلك القدرة على تحدي الهيمنة الأمريكية إذا استعادت نفوذها في الفضاء ما بعد السوفييتي.
الصين وآسيا الوسطى: تحديات مستقبلية
لا يقتصر تحليل بريجنسكي على روسيا فحسب، بل يمتد إلى الصين كقوة صاعدة تشكل تحديًا طويل الأمد للولايات المتحدة. يرى أن نمو الصين الاقتصادي والعسكري قد يؤدي إلى تحولها إلى لاعب مهيمن في شرق آسيا، مما يتطلب من أمريكا استراتيجية لاحتوائها أو موازنتها من خلال تعزيز التحالفات مع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند. كما يولي أهمية كبيرة لمنطقة آسيا الوسطى، التي يصفها بـ»الثروة الجيوستراتيجية» بسبب مواردها النفطية والغازية، ويدعو إلى منع أي قوة (روسيا أو الصين) من السيطرة الكاملة عليها.
نقد التكتيكية الأمريكية
ينتقد بريجنسكي في كتابه النهج التكتيكي الذي كانت تعتمده السياسة الأمريكية في التسعينيات، حيث يرى أن التعامل مع الأحداث العالمية بصورة آنية دون رؤية استراتيجية شاملة قد يُضعف مكانة أمريكا على المدى الطويل. يشير إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى «رؤية كبرى» تهدف إلى تشكيل نظام عالمي يتماشى مع مصالحها، مع الحفاظ على التوازن بين القوة العسكرية والدبلوماسية الناعمة.
التحذير من التراجع الداخلي
على الرغم من تركيزه على الاستراتيجية الخارجية، يحذر بريجنسكي من أن استمرار الهيمنة الأمريكية يعتمد أيضًا على الاستقرار الداخلي. يرى أن أي تراجع في التوافق الاجتماعي أو الاستقرار الديمقراطي داخل الولايات المتحدة قد يقوض قدرتها على لعب دور القوة العظمى. هذا البعد يعكس وعي بريجنسكي بأن القوة الخارجية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتماسك الداخلي.
الانتقادات الموجهة للكتاب
رغم تأثيره الكبير، لم يخلُ الكتاب من الانتقادات. فقد رأى البعض أن رؤية بريجنسكي تعكس نزعة إمبريالية مفرطة، تهدف إلى فرض هيمنة أمريكية دائمة دون مراعاة مصالح الدول الأخرى. كما اتهمه آخرون بالمبالغة في تقدير قدرة الولايات المتحدة على التحكم في ديناميكيات أوراسيا المعقدة، خاصة مع صعود قوى مثل الصين والهند.
خارطة طريق
يُعد كتاب «رقعة الشطرنج الكبرى» بمثابة خارطة طريق جيوستراتيجية قدمها بريجنسكي للحفاظ على الهيمنة الأمريكية في عالم ما بعد الحرب الباردة. من خلال تركيزه على أوراسيا كمركز للصراع العالمي، وتأكيده على أهمية منع ظهور قوى منافسة، سواء كانت روسيا أو الصين، وضع بريجنسكي إطارًا فكريًا لا يزال يُناقش حتى اليوم في أروقة السياسة الدولية. ورغم أن بعض طروحاته قد تبدو متجاوزة في ظل التحولات العالمية الحديثة، مثل صعود الصين وتراجع النفوذ الأمريكي النسبي، فإن الكتاب يظل مرجعًا أساسيًا لفهم كيفية تفكير صانعي السياسة الأمريكية في لحظة تاريخية حاسمة.