كتاب البنت وبيرتها

كتاب البنت وبيرتها

عوّاد ناصر
قفزت البنت السياج، الفاصل بين بيتينا المزعومين، لتجلس علي سريري الذي كان لصق السياج. فاجأتني ثلاث مرّات: الأولي عندما قفزت السياج مثل ولد سيئ التربية، والثانية عندما جلست علي سريري والثالثة لأنها تحمل بيمناها قنينة بيرة “فريدة” وفي يسراها رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ، قالت إنها استعارتها من صديقتها التي تقطن الكاظمية.
كانت البنت في سبعة عشرها، وكنت في ثمانية عشري، نقيم، نحن الإثنين، في مدينة الثورة «داخل» قطاع 46.
بنت يركبها جنيّ أو تركب جنيّاً ما أتاح لها أن تقفز السياج وبيديها تلكما القنبلتان المتفجرتان: قنينة بيرة «فريدة» ورواية لنجيب محفوظ.
أربكتني، حقاً، فهي، كلها، وما معها مدعاة لارتباك. جنية بشعر أسود مضطرب يوحي بمشاغل صاحبته الأكثر أهمية من تمشيطه. زيقها بلا أزرار يكشف عنوانين فرعيين لصدر فتيّ أبيض لوّحته شمس عراقية باهظة علي قدر المسافة التي يتيحها زيق بلا أزرار.. زيق تقطعت به السبل.
كنت التقيتها مرّة رفقة إحدي قريباتي – كانت خيّاطة – وسألتني عن كتاب بين يديّ فأجبتها بأيجاز من أدرك أنها لا تفقه شيئاَ بأمر الكتب، فأجبتها: قصة.
قالت: أنا أحب القصص. أتعيرني إياها؟ قلت: بشرط: أن تخبريني ما إذا كنت قرأت قصة من قبل. ردّت: نعم، قرأت «البؤساء».
سألتها لأتأكد: من هو مؤلف «البؤساء»؟ ردّت وهي تتلعثم حرجاً: نسيته. لكنني بكيت أكثر من مرة وأنا أقرأ تلك “القصة” ولا دليل إثبات لدي غير دموعي.
لم أجرؤ علي أسئلة أخري بشأن “قصة” البؤساء لأنني لم أكن قرأتها بعد!
تفوّقها هذا جعلني أصغر منها ثقافة، رغم أنني أكبر منها قراءة.
أعرتها “القصة” التي كانت بين يدي، وقتها، وهي رواية “الأم” لمكسيم غوركي.
ناولتني قنينة البيرة وهي تهمس: خذ لك مصّة!
أخذت مصّة وأعدت القنينة إليها ولم أسألها السؤال الفضولي: كيف تعلمت تناول البيرة؟ لأنها أدخلتني في فضولات عدة تخص تربيتها “السيئة” وولدنتها وحملها لرواية نجيب محفوظ.
شربت من قنينتها بما يترك لمعاناً مبلولاً علي شفتين مبكرتين بينما بدت عيناها أوسع، قليلاً، من عيني فتاة تحب القصص.
قالت: عندما رأيتك أول مرة عند قريبتك الخياطة وأنت تقلب ذاك الكتاب قلت في نفسي: ربّما سنصبح صديقين.. نادرون جدّاً هم الشبان الذين يقرأون الكتب.
قلت: الأكثر ندرة هنّ البنات، في مثل عمرك، يقفزن سياج الجيران ويحملن العقل والروح معاً.
قالت وقد أخذت شفتها السفلي تسيل قليلاً: لم أفهم.
شرحت لها: الكتاب هو العقل وقنينة البيرة هي الروح.. يسمونها “المشروبات الروحية”.
عقبّت: أول مرة أسمع بـ “المشروبات الروحية”.. بدأت أتعلم “كلمات” جديدة. أنت مثل الكتاب.. يعلم القارئ “كلمات” جديدة.
أحسست بغرور ما ولو كان للنرجسية لون لبان كزرقة السماء.
انهينا القنينة، معاً، ونحن نثرثر بينما مسحت بسبابتي شفتها السفلي التي كانت تسيل، فتأوهت: آه!
تساءلت: ماذا؟
ردّت: توجعني!
سألتها: ما هي؟
لا أدري. ليست شفتي بل ما تحتها.. اللذة توجع أو الوجع يلذ. لا أدري، شيء ما أوجعني وأنت تمسح بسبابتك شفتي.
قلت متآمراً: كلما أوجعني شيء تبوسه أمي ليخف الوجع!
ضحكت حتي تحركت خصلات كثيرة فوق جبينها.
قربت شفتي من شفتيها فأبعدتهما عن شفتيّ.. لتستدرك: قلت لك: توجعني!
ثم سألتني: عندك بيرة؟
قمت لآتي بقنينة كنت وضعتها تحت “الحِبّ” تبترد بناقوطه.
علّقتْ: الآن اجتمعت الروحانيات والعقليات وأشياء أخري “توجع”.
بعد أسبوع أعادت لي رواية غوركي “ناقدةً”: ما أحببتها، لا تشبهنا.. رواية نجيب محفوظ تشبهنا جدّاً.

/2/2012 Issue 4116 – Date 7- Azzaman International Newspape

جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4116 – التاريخ 7/2/2012

AZP09

























مشاركة