قيس مجيد علي يسلّم على بغداد

قيس مجيد علي يسلّم على بغداد

القصيدة تعتلي النهر الخالد

يوسف عبود جويعد

يقول الشاعر قيس مجيد علي وهو يقدم لمجموعته الشعرية (سلامٌ على بغداد ) وهي تحمل التسلسل السادس عشر من ضمن سلسلة اصداراته الشعرية والادبية ( هذه المجموعةُ ذاتُ الإحدى والعشرين قصيدةٌ عموديةٌ، هي إمتدادٌ للشعر العربيَ الأصيل بروحهِ وكبريائهِ..وعنفوانهِ وقوتهِ، تؤكّد بأنه ما يزالُ شامخاً بقامتهِ الجبَارةِ متحدياً كلُ الأجناسِ الشعريةِ التي تحاولُ أنْ تنالَ منهُ بحجّةِ الحداثةِ. وحسبُك المتلقي الذي يهتزُ لأية صورة من صورهِ التي تردُ في أي بيت من أبياته ) ، وهو عندما يذهب هذا المذهب ،فأنهُ يؤكد حقيقة راسخة على مر العصور والازمنة ، أن أساس الشعر ، ونهضته وبدايته وانطلاقته ، وجذوره الاصيلة هو الشعر العمودي ، والذي أسس لحركة شعرية ، تطورت مع تطور الزمن ، وحاجة الشاعر الى التجديد والحداثة والتغيير ، والبحث عن منافذ اخرى تعطيه حرية اكبر ، ومساحة اوسع لإنطلاقته الشعرية ، الا أنه يستمدها ويأخذ اصولها من الجذور التي هي الشعر العمودي الاصيل ، الذي لايمكن ان يتوقف ، أو ينحرف عن مساره في الحركة الشعرية ، بل أنه في تقدم دائم ، ونمو وتصاعد مستمر ، وهو يواكب الحداثة والتجريب الا أنه لايمكن ان يتخلى عن اصوله التي انطلق منها ، فهو يضم بين ثناياه ، الايقاع ، الوزن، المفردة الشعرية التي يجب ان تكون بنية نصية ترص في مكانها الصحيح في مبنى النص الشعري ، التي يجب ان تحتوي على مزايا تختلف عن المفردة الاعتيادية وتلك المزايا هي ، ارتباطها بالايقاع والوزن والصورة الشعرية والقافية ، ووحدة الموضوع ، وهي عملية تتطلب جهداً فكرياً كبيراً ، وبما ان الشاعر قيس مجيد علي ، احد الشعراء المتمرسين في نظم الشعر منذ زمن بعيد ، فقد واكب خلال مسيرته الشعرية الحافلة ، الجواهري ،السياب ، ونازك الملائكة ، والبياتي ، وعبد الرزاق عبد الواحد ، والشعراء العرب ، نزار قباني ، ومحمود درويش ، والفيتوري، وغيرهم الكثير ، الا أنه ظل ملتزماً بنظم الشعر العمودي ، وينتقل من حقبة زمنية الى اخرى ، معتلياً صهوة هذا الشعر الاصيل ، ممسكاً بلجامه ،منطلقاً في عالمه ، وبحوره ، واوزانه ، وقافيته ،وايقاعه ، وموسيقاه الرصينة، وهكذا تبرز اهمية هذه المجموعة ، التي هي امتداد للشعر العربي الاصيل ، في قصيدة (حديثُ النّفس) نكون مع بنية نصية لمناجات بينه وبين نفسه ، وهو يستعرض بإيقاع هادئ رقيق ، حياته وحياة البلد ، وما يدور حوله ، في وحدة موضوع متماسكة ، وثيمة واضحة ، وخطاب انساني ، وادبي ينساب من بين قوافي القصيدة ، كأنسياب الماء تحت زرع اخضر ، وتضمر انساقاً ثقافية عالية الدلالة ، حاملة صورا للرؤية الشعرية بدلالاتها ورموزها وانزيحاتها ، وسياقها الفني الصحيح .

أمن جراحكَ تدْمى غيرَ معتبرِ

أم من نزيف دم في كل مُصّطبر

أم من عيونهم إذ حشَدوا زمناً

أبناءهم حَطَباً للحربِ..والحُفر

أم من مساراتهم في كلِ خابيةَ

أم من بقايا هوى يبقيك للسحر

أوقد لعزمِكَ درباً أنت تعرفهُ

ما نال من يبتغي أمراً بلا وجر

وبالرغم من استعراض هذا النص الشعري لواقع الحياة المتردي ، الا انه في الوقت نفسه يخاطب المتلقي من اجل سبل اخرى من اجل حياة انظم ، وأهنأ ، اكثر امان وسلام ، ويختتم الشاعر قصيدته ناصحاً بضرورة الخروج من شرنقة الحزن ، والخروج الى كون اوسع ، ترتضيه النفس

الحزن ياسيدي نارٌ ملهبةٌ

لا ترتضي خمداً ما دُمْت في خدَر

فلتسترحْ بحديثِ النفس من عبر قصائد عمودية

وينقلنا الشاعر عبر هذه الرحلة الشعرية ،لقصائده العمودية ، الى حالة اخرى ، هي الوجد ، والهيام ، والحب ، والبحث عن ليلاه في مدن التيه ، في صورة وجدانية مفعمة بالحس المرهف ، الذي ينتمي الى تلك العاطفة الانسانية الخالدة ، تلك هي علاقة المرأة بالرجل ، وهذا الرباط المقدس ، ليصور لنا حياة العاشق عندما يفقد محبوبته ، فيكون هائماً بالوجد والحنين والوله ،الضمأ الذي لا يمكن ان يرويه الا رؤية الحبيبة تسائلني الليالي أين ليلى ؟

يجيب القلب قد أنستْ رحيلا

وما بال الدموع تسيلً نهراً؟

ومن لم يبك إن فقد الخليلا؟

وما أمر اصفرار الوجه هذا؟

وكيف يكون من سلب العقولا ؟

وهكذا نعيش لحظات بين ثنايا هذا النص ، الذي ينقلنا في كل صورة شعرية منه ، الى عمق هذا الاحساس الذي هو جزء من حياتنا ، حيث الحب ، الشوق ، الهيام ، الوجد ، البكاء ، الحنين ، البحث المضني لحبيبة غادرته ورحلت ، ليس له سبيل الا ان ىناجي ليله عن ليلاه المفقودة ، الضائعة في مدن التيه ،هناك حيث المجهول ، وهو تواق لان يراها ، اما قصيدة (سلامٌ على بغداد) التي حملت المجموعة اسمها فهي تناجي معشوقة اخرى ، معشوقة اذا اغتربنا عنها نبكيها حنيناً ، ونبعث استغاثتنا من اجل ان نراها لكنها ليس المحبوبة ، بل انها بغداد المدللة الحبيبية ،

سلامٌ على بغداد مهد طفولتي

سلامٌ على اهلي وصحبي وجيرتي

سلامٌ على الفتيان يرجون عودتي

سلامٌ على النهر الذي ظلَ ماؤه

الى الآن عذباً رغم بعدي وحيرتي

سلامٌ على الشمس الرقيقة تنثني

على وجه اطفال كرام أعزة

ومن عاش الغربة ، وفارق هذه الحبيبة ، التي تتربع في احشاء القلب ،يشعر تماماً بعمق هذا الحنين الى رؤيتها ، فهي معه في حله وترحاله ، وهكذا نرحل مع هذا النص الشعري ، الذي هو حالة شوق كبير الى العودة الى تلك الحبيبة بغداد ،فيختتمها

وما المرءُ إلا أرضه وسماؤه

فإذا مات فيها مات أشرف ميتة

وإن عاش فيها عاش حراً منعَماً

وما أجمل الأثنين عند الحبيبة

وعن الحياة مع الحبيبة والاقتراب منها ، ولذة هذا اللقاء ، يقدم الشاعر قصيدته (لذائذُ حبَ) التي نستكشف من خلالها ، حلاوة اللقاء ولذته

على الرحب قالت ..تعالَ حبيبي

فإني أخصص وقتي اليك

فهل تعرف البعدَ غني انتحارا

وكل إقتراب ..به أفتديك

تعال فعندي لك الآن نهدٌ

يناظر في كل وقت يديك

وعندي شفاهٌ هواها الكثير

فعزت عليهم وصارت لديك

وفي قصيدته ( ياسيّد الشعر) التي خصها الى استاذه شاعر العرب الاكبر (محمد مهدي الجواهريِ) التي تقدم صورة جليلة لاهمية ومكانة ودور هذا الشعر الخالد

سامرت ليلك موجعاً متألماً

ولمست حزنك طيعاً متأقلماً

ونظرت للنجم البعيد تخاله

جسداً يشاطرك الحديث المفعما

وشممت ترب الارض ترب قداسة

وكتمت انفاساً تعج تزحما

وهكذا نمضي قدماً في ثنايا هذا النص الشعري ، وهو يستعرض لنا مناقب كبيرة ،لشاعر كبير هو واحد من ابرز شعراء العرب ، أما قصيدة (طيف ليلى) فأنها عودة الى المعشوقة ، لكنها تتجلى له وتزوره طيف في المنام . فتكون المناجاة اشد وقعاً ، إذ ان طيفها أجج نار الوجد لديه ،فأجتاحه الشوق بكل الحنين من اجل رؤيتها ، وكأن طيفها اشعل ناراً ،بل أججها بعد ان كانت مدفونة تحت الرماد وهي مستعرة ، وهكذا نعيش رحلة محتدمة مع طيف ليلى

زارتكَ ليلى في المنام فأيقظتْ

في مقلتيك جوارح الاعوام

وتنطرت لكَ موعداً متجدداً

متوعداً في قابل الأحلام

فأمنحك لنفسك يقظة مفتوحة

حتى تسد منافذ الإقدام

ويبقى فقد الحبيبة حالة تثير في داخل الشاعر ،حساً شعرياً يحيلنا الى اهمية هذا الفقدان ، وهو يكشف لنا من خلال بنية النص تأثير هذا الفقد في نفسه ، وشعوره المفعم بالوحشة والضياع بدونها ،ويؤكد الشاعر في ختام قصيدته ان هذه الحالة بالرغم من حدوثها لعاشقين كثر ، الا ان وقعها يظل مؤثراً

كم عاشق ألف الهوى متعذباً

ومضى حياته ساكن الآكام

اما قصيدة (اوراق من شجرة الشعر) فأنها تقدم لنا البلاء الذي حاق البلاد ، وما آلت اليه حياتنا بصور شعرية عميقة مؤثرة

تناءت عنكَ يا وطني الرجال

وساح بشهوة فيك القتال

وحل بأرضنا وغدٌ تمادى

وعاث بها فساداً لا يطال

ويبقى أهلك الباقون حيرى

ينازعهم بقاءً وارتحال

اجبني ايها المغدور حقاً

فإني ما يزال بي السؤال

اما في الكون غيركَ من بلاد

تفيض بها النفوط ولا تنال

أن الشاعر قيس مجيد علي ، ومن خلال مجموعته الشعرية (سلامٌ على بغداد) يؤكد حياة وخلود وبقاء الشعر العمودي ، هو الاصل ، وهو النبع الصافي ، والنهر الخالد ، الذي يستمد منه كل الشعراء بجميع انماطها ،روح الشعر واصالته ،

ناصية الزمن

 كما يؤكد ايضاً ان القصيدة العمودية ، تعتلي ناصية كل زمن وتتطور معه وهي مواكبة لحركة الحداثة ، فبالرغم من ان رحلتنا مع هذه المجموعة مع قصيدة الشعر العمودي الا انها قدمت في ثيمها وافكارها وسياقها واوزانها وبحورها وايقاعها ، حالات من صميم حياتنا المعاصرة واستطاعت ان تثير وتعالج جوانب جمة ومهمة من حياتنا ، للوطن ، للانسان ، للحب ، للعلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة ، ويظل الشاعر يحمل في داخله احساساً مرهفاً رقيقاً يفيض شجناً وشاعرية ، وتبقى الخبرة والممارسة ومرور السنين والتجربة الطويلة هم المحك الذي يستطيع من خلاله الشاعر تقديم نصوص شعرية ناضجة ، وهذا ماسوف نكتشفه ونحن نرحل مع تلك القصائد.

مشاركة