قل للزمان إرجع يا زمان
العلاقات الاجتماعية والحميمية بين الاقارب والجيران اخذت بالتآكل ولاسباب عديدة، اولها الحروب المستمرة وهجمات البرابرة التي تكالبت على وادي الرافدين بالاضافة الى المشاكل السياسية والتي انعكست بشكل مباشر على الحياة الامنية والاقتصادية للفرد العراقي بالاضافة الى التطورات التقنية والاجتماعية والتي غيرت كثيرا من العادات الاجتماعية والتقاليد التي اعتدنا عليها كالتزاور بين الاقارب والجيران واقامة العلاقات بالمودة والاحترام المتبادل والآخاء بين الجميع من دون اي فرق بين طائفة واخرى او قومية واخرى حتى كانت العلاقة قوية بين الاديان المختلفة في العراق، حيث كانت المحلة العراقية بصورة عامة تجمع كل الطوائف والاديان والقوميات على المحبة المتبادلة والتزاور بينهم بمناسبة او غير مناسبة، فحين اخرج الآن في محلتنا وارى الابواب موصدة لا احد يعرف الآخر والتخوف من الآخر اقول مع نفسي اين ليالي زمان وايام زمان حينها تذكرت عندما كنت صغيرة او بالاحرى صبية كيف كانت نساء المحلة يتجمعن بعد العشاء عند جارتنا الخياطة ويتناولن الاحاديث والقصص والنكات الظريفة من دون ان اعرف او اسمع ان فلانة او فلان من هذه الطائفة او تلك الديانة او القومية بالاضافة الى يوم الخميس اليوم المميز في نهاية كل اسبوع فتتجمع نسوة الجيران في بيت احدهن وتأتي كل واحدة منهن بطبختها المميزة وتبدأ ليالي السهر والضحك الذي لا ينقطع من دون شكوى من اي شيء عائلي لبساطة العائلة آنذاك اما الرجال (اي رجال المحلة) فيذهبون الى المقاهي، اما بالنسبة لنا نحن اولاد المحلة اناثا وذكورا نلعب سوية وبعفوية وببراءة فطرية توارثناها من اهلنا ليلا حتى الساعة العاشرة مساءا واجمل ما بهذه العلاقات هي الثقة المتبادلة بين الجيران وكيف ابن الجار يخاف على ابنة جاره فهذا التماسك في العلاقات القوية جعلهم كالاهل او اكثر، اما في الافراح والاعياد وليالي رمضان فطقوسها اجمل ما يكون فتبادل الجيران للأكلات والحلويات والسهر في البيوتات حول ابريق الشاي والكعك وشعور الجميع انهم من عائلة واحدة، اما حصة الفقير في هذه العلاقات الاجتماعية كحصة اهل البيت، اتذكر جيدا عندما ارى والدتي قبل ان تضع الطعام في الصحون كيف تضع اولا حصة ام حميد جارتنا وهي ارملة فقيرة من الطعام لاحمله لها وتوصيني ان ادعوها بأن تأتي وتسهر معنا كي لا تحس بالعزلة عن ابناء المحلة واهلها فالكل يذهب ومعه الطعام لزيارتها ويتفقدها من دون ان يحسسوها انها من طبقة اخرى او انها ارملة وحيدة. اما بالنسبة الى شهر رمضان المبارك شهر الطاعة والغفران والمحبة فالمحلة العراقية تنتظر بفارغ الصبر وبلهفة قدوم هذا الشهر فمن خلاله تتم تهيئة مستلزماته واستعداد العائلة وكل ابناء المحلة لاستقباله بالعبادة والطقوس الجميلة من اكلات رمضانية وعصائر وغيرها، ففي هذا الشهر المبارك يحلو لابناء المحلة والاهل والاقارب والاصدقاء الاجتماع سوية وتناول الفطور والسحور وما يتطلبه من اكلات شعبية باتت من سماته مثل التمر واللبن وعصير الزبيب والنومي بصرة وغيرها من الاكلات الرمضانية والحلويات وتبادلها بين ابناء المحلة وغيرها الكثير من العادات الرمضانية والشعبية المتوارثة ومنها لعبة المحيبس اللعبة الشعبية التي تجمع كل ابناء المحلة العراقية ومن كل الطوائف والاديان والقوميات هذه العادات والتقاليد كانت العامل المشترك واللغة المشتركة بين جميع فئات المجتمع العراقي لكن مع كل الاسف بدأت هذه العادات والتقاليد الاجتماعية والحميمية الجميلة بالتآكل بعد دخول العراق بحرب طاحنة مع ايران بسبب سياسة حمقاء ولعبة قذرة من قبل بعض دول العالم والاقليم (دول الجوار) وبدأت بتسفير الالاف من العراقيين بحجة التبعية الايرانية وهذا اول جزء اقتطع من مجتمعنا وبدأ انشغال الناس بلعبة الحرب وكانت بداية التدهور الاجتماعي والاقتصادي وبداية الهجرة خارج العراق والنزوح داخله وتشتت المحلة العراقية وديمغرافيتها تحت مسميات عديدة حيث نزح ابن البصرة الى محافظات الوسطوابن بغداد والمحافظات الاخرى هاجر الى بلدان عربية واوربية خوفا من حرائق الحروب وما تنتجه من افرازات ليست بالحسبان ايضا جاء ابن الريف وتربع في المدينة بسبب حصوله على دار من الدولة تكريما لاستشهاد ابنه الذي مات من اجل لا شيء وتم ترييف المدن بالكامل ولاسيما العاصمة بغداد ففقدت المحلة العراقية توازنها وطابعها الاجتماعي الجميل ما ادى الى فقدان توازنها وضاع الجار والصديق وذكريات العادات شيئا فشيئا وبعدها دخلنا في حصار دام ثلاثة عشر عاما اكل ما اكل منا ودمر ما بقي من الدولة ومؤسساتها ودمرت المنظومة الخلقية بسبب الجوع والخراب الذي ادى الى تدمير المنظومة العلمية وهجرة الكثير من الكفاءات الى خارج البلد وهذه كلها افرازات الحروب التي وفرت ارضاً خصبة لما جاء بعد 2003 والسقوط المدوي والمخطط له منذ عقود وعقود مع كل الاسف ولا اريد ان ادخل كثيرا في السياسة ولو ان كل شيء في حياتنا اصبح سياسة، وارجع الى عادتنا وتقاليدنا التي تدهورت لاسيما بعد 2003 والتحول الجديد في هذه العلاقات الجديدة بين ابناء المحلة حيث تراجت هذه التقاليد وانقطع التزاور وانعدمت الثقة بين الناس بسبب التغيير الديمغرافي الذي حصل في المحلة حتى العادات الرمضانية تغيرت كثيرا عن السابق مع التطور التقني والتكنولوجي الذي دخل بيوتنا واصبح الكثير من الناس مشغولين بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية وما اكثرها والانترنت وباقي مواقع التواصل الاجتماعي بدلا من الذهاب الى المقاهي وزيارة الجار والصديق والفقير حتى العوائل والاقارب ضعفت الصلة بينهم ولا يجتمعون كالسابق كما كانوا على الفطور واخذ ابناء المحلة يوصدون الابواب قبل آذان المغرب بالف قفل وسلسلة لتصبح منازل الحي او المحلة منطقة اشباح او موتى لاسباب امنية ومجتمعية عدة ادت الى تدهور العلاقات الاجتماعية وتفككها وبالتالي النيل من تاريخنا وحضارتنا وجعل هذا البلد متمزقا على نفسه بهويات فرعية وحروب اهلية باردة بعد ان كان متماسكا ومتعاونا فيما بينه بكل طوائفه واعراقه واديانه وقومياته وهذا كله سببه هو حكامنا الذين اصبحوا دمى بيد الاجنبي ولعبة سهلة يلعبون بها مثلما يحلو لهم لتنفيذ مخططهم القذر.
فهل يرجع هذا الزمن الجميل يوما ما؟!
ماجدة البابلي – بغداد