قطر الندى ونور الهدى

قصة قصيرة من أحداث 1983      (1)

قطر الندى ونور الهدى

كانت عائلة الطيار العسكري عبدالرزاق تنعم بالامن والاستقرار وتعيش رغيد العيش بما وفر لهم الوالد من حياة مترفة ملتزمة.. والجميع سعيدا راضيا بحياته.. فالأم وهي في العقد الثالث من العمر من عائلة ريفية ملتزمة بعاداتها وتقاليدها.. وهي ابنة خاله.. وكانت  لهما بنتان جميلتان هما قطر الندى ونور الهدي وكانتا في المرحلة الدراسية الاولى ومن الاوائل في صفوفهن وكانت الام حريصة على دراستهما  اولاً باول.. والتزام هذه العائلة باجاء غريضة الصلاة.. وكثيرا ما كانت هذه الام تقوم بارشادهما بما هو اللائق والغير اللائق. وما هو الحلال وما هو الحرام وما هو المقبول وما هو المرفوض.

وكان الاب سعيداً بكل ذلك.. ولم يبخل على عائلته  بشيء وحريص على  تلبية كافة احتياجاتهم  ومتطلباتهم وخلال نزوله بالاجازات الدورية  ياخذ عائلته  في زيارة  لمعالم بغداد وخارجها حتى يطلعهم على حضارة  وادي الرافدين وكان يشرح  لهن تاريخ الاماكن التي يزورونها.

اما عبد الرزاق فكان برتبة (نقيب) رجلا وطنيا  متلزما يعشق وطنه الى حد العبادة، جادا، صادقا في كافة تعاملاته  و مخلصا وفيا لاهله ولاصدقائه.. وكان شاغله الوحيد كسب رضا عائلته صغيرهم وكبيرهم فكان محبوبا مهضوما من الجميع.. وكذلك كان في وحدته وبين زملاءه محبوبا لما عرفوا فيه من رجولة  وقوة شخصية  وطيبة قلب.. اضافة  الى خصلة اخرى كونه سريع البديهية ميالا الى المداعبات ذات النقد اللاذع.. وكان يحب زملاءه ذلك منه.

وعندما يختلي عبدالرزاق بزوجته كان يحدثها بكل تطلعاته واحلامه.. وما خططه لابنتيه العزيزتين في تامين مستقبلهن وحصولهن على المستوى العالي  في العلوم ومن جانب زوجته فكان سعيدا بها راضيا عنها لاقامتها بواجباتها الزوجية  بشكل جيد.. ولقد عرفت كيف تستحوذ على  قلبه ومشاعره وكانت له محبة وعاشقة وترى فيه كل احلامها وكان الله سبحانه وتعالى قد اكرمها به.

وبالمقابل  هو يشعر بان الله قد اكرمه بها وهي المراة الفاضلة التي كان يتمناها اما لاولاده والتي تكون له دائما ذلك الركن الهادئ الذي يركن اليه ليعيش باحضان الدفئ والحب والامان، وكان شقيقه الاكبر عبد الرحمن يزور عائلة اخيه ويطلع على احوالهم واخبارهم ويقدم لهم العون عندما يكون هو في وحدته.. وكانتا قطر الندى ونور الهدى متعلقين بعمهما كثيرا لما كان يسبغ عليهما بالحب والحنان والرعاية اضافة الى انه كلما زارهم حمل معه العديد من الهدايا وما ان تكن الهدايا بين يديهما حتى تنهالا على عمهما بالقبلات وسط صيحاتهما وفرحتهما بهذه الهدايا.

ولاول  مرة  عبد الرزاق خلال نزوله في هذه الاجازة يصر على رؤية  كافة افراد عائلته واحدا واحدا حتى اخاوته المتزوجات والبعيدات عنهم قد زارهن واطمأن عليهن، وكان قلبه مقبوضاً على غير عادته  حتى ان الضحكة قد غابت عنه وكثيرا ما كان يردد مع نفسه (اعوذ بالله من الشيطان الرجيم) . والايام الثلاثة الاخيرة من اجازته  قضاها وسط  عائلته وهو يوصيهم بكل شيء في حالة غيابه عنهم وكانت زوجته تستنكر هذا الحديث منه وترفضه ولا تريد سماعه..

ولقد زرع الخوف في قلب زوجته واشغلها كل ما قاله لها وكثيرا ما كانت تطرد هذه الافكار السود عن مخيلتها ولا تريد ان تكون فيها وتحاول ان تشغل  افكارها باشياء اخرى ولكن حبها لزوجها وخوفها عليه  يجعلها تعيد  الكرة في التفكير بتلك الافكار السود التي تغيب عنها زوجها واب بناتها ومن هو لها كل شيء في هذه الحياة.. ولما كان حبها له يفوق الخيال  كانت متاكدة انه لا حياة لها بدونه.. وبالرغم من تلاطم هذه الافكار في مخيلتها كانت تدعو الله سبحانه  وتعالى ان يلطف بهم.. وكانت تقرأ اية الكرسي مرات ومرات وهي ترفع يدها بالدعاء  بعودة زوجها سالما معافى وكانت تفعل ذلك عند كل انقضاء اجازته والتحاقه بوحدته العسكرية. وذات يوم في صيف العام وبعد  ايام من التحاق عبدالرزاق  بوحدته.. فوجئ شقيقه الاكبر عبدالرحمن بالخبر الذي سمعه  من ان شقيقه قيد الاعتقال وقد تم اعتقاله من وحدته لاسباب لا يعرفها هو.. مع علمه ان اخوه لم ينتم الى حزب معين.. وليس له دخلا بالسياسة الا انه كان يعتز بعراقيته ووطنيته وكثيرا ما كان ينتقد الاوضاع بسخريته اللاذعة وقد حذره  الجميع من ذلك من  ان الجدران لها اذان.

وراح شقيقه عبد الرحمن يكلف اصدقاءه واقاربه ومعارفه للوقوف على مكان اعتقال اخيه  واسباب الاعتقال فما امكنه ذلك.. الا ان احد زملاء عبدالرزاق قص الحكاية على عبدالرحمن وطلب اليه ان يبقي  الامر سرا حتى لا يصيبه مكروه جراء ذلك وقال له: ان عبدالرزاق كان في بهو الضباط  مع ضباط اخرين وكان هناك نقاش حول النظام والحكام وكان عبد الرزاق لديه اراء لا تتفق مع غيره من الضباط.. وينتقد دائما الاوضاع السائدة وعدم المساواة بين الشعب وانتشار المحسوبية والمنسوبية والفساد في دوائر الدولة وبحالة عصبية قد شتم الحاكم الظالم وكان عبد الرزاق مطمئنا من ان رفاقه  لا يمكن ان يشوا به.. الا انه كان خاطئا في تقديره وكان  هناك من يريد الصعود على اكتاف اخوانه  وزملائه فوشى بما سمعه الى المصادر التي لا ترحم وعلى اثر ذلك تعرض للاعتقال.

وتعرض عبد الرزاق للتعذيب وعلى مختلف انواعه حتى تم قلع اظافره ليعترف بانه ينتمي الى تنظيم يعمل ضد نظام الحكم. وهكذا تم الحكم عليه بالاعدام وتم تنفيذ الاعدام بحقه دون ان يتمكن احد من اهله من مواجهته او رؤيته وتم استلامه جثة  هامدة لتقوم العائلة بدفنه مع توصية تقول (لا لأقامة العزاء له).

محمد عباس اللامي – بغداد

مشاركة