قطرات من جلنار

قطرات من جلنار

هل يأكل الحبُّ عشَّاقه أم تلتهم النَّار تُفَّاحَة حُبِّهم ؟

لماذا يظلّ العُشَّاق حائرين في كتم هوى حُبِّهم ؟

يتساءلون : من ترى دسَّ لهم السمَّ في فراق حُبِّهم ؟

هل ما حدث بنا سينمائيّاً في عالم افتراضي أم حدث حقّاً ؟

في 2005/1/6  زواج ورْقاء في عِشٍ مغمور بالسعادة التي ترفلُ بالمحبة كفاتنةٍ جميلة شعَّتْ بنور جمالها كالقمر المُنير الذي يضيء علىْ دروُبْ الظلام . كحبيبةٍ تغفو بينَ شريان أوردتي . بسمتها كبسمة النجمة فيْ مَجَرَّتِها . وجهها كبزوغ شمْسٍ تشرقُ في الكون . صوتها كصوت ماءٍ عذب حَطَّهُ السيِل. عطرها كعطر الياسمين الذي ينداحُ قداحاً .

طيبها كقُبَّرةٍ في بُستانٍ يانعٍ ماتع .

هي كشجرة الكرز تطرح ثمرها كي يُقتطَف منها .

مرَّت الأيام بـ (( فصولها الأربعة )) ، حتى أقترب موعد ولادة ورقاء إذ دقَّت الساعة العاشرة صباحاً من يوم الأثنين في 2006/1/30

ذهبوا بها إلى مستشفى الولادة في الرمادي وكان يصطحبها ……

وكان هذا اليوم تماماً محددِّا من لدن الدكتورة ……. ؛ لتأخر الولادة لدى ورقاء وكان آخر يوم أمَّا أنْ تلد طبيعياً أوْ تُجرى لها عملية ..

في بداية الأمر سارت الأمور على ما هي عليه حيث دخلت ورقاء إلى صالة الولادة بعد أنْ شاءت الأقدار أن تُجرى لها ولادة طبيعية ..

أرتكبت الدكتورة ….. المتخصصة بأجراء الولادة الخطأ الجَلَل بحقن ورقاء حقنة في العضلة ؛ كي تساعدها على تيسير الولادة ولكن سرعان ما تَغَيَّرْت الأمور ؛ فقد كانت معادلة الحق في حقن ورقاء بعضلتها عملية خاطئة بل كان من المستوجب أن يعطى لها المُغَذِّي على شكل تقطير، وتُجرى لها عملية وليست ولادة طبيعية ..

تأخرت الولادة بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ وكانت الساعة الواحدة ظهراً

وصراخُ ورقاء من أعماقِ قلبها يشقُّ المرارة وتهتزُّ منهُ الجدران ..

بدأ الدعاء أن يقضي اللهُ أمرنا ، ويَفرَّج نوائب كربتنا ،

ويشفي غُلَّتنا ممن وشى بنا ، ويجمعنا بمن يهواهُ قلبنا أنَّهُ سميعٌ بصير .. في السَّاعة الثالثة عصراً زغاريد الفرح تنتابنا بقلوبٍ حمراء مبتهجة .. ولدت ورقاء حوُرْيَّةٍ جميلة ، ملكةٍ صغيرة ، أيقونةٍ مرهفة ..

أخرجوا ورقاء من صالة الولادة حتى أفاقت من وسن غيبوبتها حمدت الله وأجهشت بالبكاء ، وكانت متفقة مع زوجها إذا ولدت مولودة فيكون أسمها ملاك ؛ ولكن لسان حالها كان يقول إنها تُنازع بأنين موتٍ بطيء ..

كانت تنزف نزفاً غير معقول وعندما تحدَّث زوجها مع الطبيبات المختصات بهذا الشأن رددن جميعهن أنَّهُ أمر طبيعي لأنها ولدت وهي الآن بصحة جيدة ؛ ولكن كان نزف الدَّم غير معقول ..

بعد ذلك أخرجوها من المستشفى متوجهين صوب التأميم

حتى وصلوا الى البيت وأرادوا إخراجها من السيَّارة ؛ ولكن ظاهر الأمر لم يستطيعوا إنزالها بسبب النزف الذي أخذها ..

في هذه اللحظات الصعبة الضائعة تَبَدَّلْت الأحلام طلولا

هذه حبيبتي كان يفيضُ حُزنها ألماً ، ونزف الدَّم صار يلبسها ..

أرادوا رجوعها إلى المستشفى وَحَظْرُ التَّجَوُّلِ دبَّ فِيْ الْمَدِينةِ ، والساعة قاربت المغرب ، والجسر قد أغلقهُ أشباح الموت – الأحتلال الأمريكي – ..

ثُمَّ ذهبوا بها إلى أقرب قابلة مأذونة ؛ فكان الرد إنها لا تستطيع أن تعمل شيئاً ؛ لأن الخطأ في إعطاء الحقنة قد سَبَّبَ بإنفجار وَتَمَزَّق بيت الرَّحَم ، وحاولوا عند قابلة مأذونة أخرى ؛ فكان الجواب نفسه ..

ثُمَّ عادوا بها إلى الجسر والصراخ بدأ عند وصولهم سيطرة الجسر ؛ كي يفتحوا لهم الطريق ؛ ولكن لا حياة لمن تنادي .. وأخرجن من كان معها …… و ….. خمورهن أخذن يلوحنَّ بهن باعتبارها رايات بيضاء ولكن من غير جدوى  علامات إستفهام بائسة تغدو مع الوقت علامات تعجَّب ..

أقول في معرض حديثي هذا أين الإنسانيَّة والسَكِينَة التي بثقها الله عند ملائكة الرحمة وأقصد في ذلك الأطباء المتخصصين ..

نعم الموتُ حق : (( كلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [26] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )) . * – 1

ولكن كان بإسْتَطاعتهم رفع بيت الرَّحَم والأمر كله لله ، لذلك علموا وعملوا على إخراجها من المستشفى ؛ كي يتخلَّصُوْا من جرمهم المشؤوم ..

أزمنة اللَّيالي السُّود الْمُقَسمَّة على أزمنة الخراب تقاسَمَتْ أفراحي ؛ لتطفأ فانوس عُمري وشمعة أحلامي ..

يا للنوائبِ كم صارت تجرحنا وتجرجرنا تيهاً صوب أسى الآهات ، وعذاب الأيام ..

كساني الحزن ثوب ردائهِ ، وقد غدا اللَّيل في مدينتنا مذبوحاً بنجمتهِ .. كل الدروب التي كنتُ أغازلها ليلاً صارت أثوابها يلبسن فحيح الأفاع ..

حين نجيء إلى هذه الدنيا ، وحين نغادرها على سمفونية لا (( مفتاح صول )) … ولا (( قفلة موسيقية )) تدور صوب الفرح بل تنتهي كشلاّلٍ هادرٍ يُلقى بك إلى المصبّ ..

ويبدو أن أحلام مستغانمي كانت على صواب لما قالت :

( لا تكترث للنغمات التي تتساقط من صوفليج حياتك ،

فما هيّ إلاَّ نوتات … )

بُرْهَةً مِنَ الَّزَّمَنِ حدثت الفجيعة بدمعة وغدت تئنُّ وتحتسي كأساً مليئاً بأمنياتٍ عريانة ..

ثُمَّ تَمْتَمَ زوجها من الحزن قائلاً لِيْ :

” أَبُوْح لك بأمر لم أفصح به لأحد والله كان ينتابني شعُوْر غريب في ليلة يوم الأحد قبل ذهابنا إلى المستشفى وكأنني أحسست أنَّ السَّماءَ أُطبقت على الأرض وحتماً سنتفارق ؛ فذرفت مقلتيّ الدموع بدون توقف وبدون سبب وورقاء كانت تمسح بيديها النقيَّة البيضاء وتسألني عنْ السبب ولكن ليست لديّ ايِّ إجابة ” .

وقد أسدلت العتَمة أستارها وأنشبت المَنِيَّةُ أظفارها ، وحان الآن موعد عشاء الموت .. في السَّاعة الثامنة ليلاً صرخت سمفونية الموت عند نهاية الشَّفَقِ المطلِّ في عتمة اللَّيل على جسر التأميم في مدينة الرمادي التي كان يسودها الظلم والطغيان من قبل الأحتلال الأمريكي آنذاك ..

حتى فاضت روحها الزكيَّة إلى الله

: (( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ? وَحَسُنَ أُولَ?ئِكَ رَفِيقًا ))

عزاؤنا شبيه بموسيقى بيتهوفن الخامسة التي كانت شبيهة ببركانٍ هائج ؛ فهي موسيقى غاضبة تشير إلى الحُرِيَّة للشعب المُحتل تحت أقدام النازية التي تَحَوَّلَت إلى نار حامية ..

وغدا الألم وحده واقعاً يشهد ليلنا ..

أقولُ لكِ ، وأنا أمضي إلى حتفي طائعاً إنَّ فجر ورقاء الصغيرة وضحكتها هي الموسيقا الجديدة لهذا العالم .. هذه المقالة تُخفي وتتخفى ، لكنها تفصح في الوقت نفسه عن ثلاثة عشر عاماً ممسوسة بجنون البدايات ودموية النهايات .. هي عبارة عن تسجيل صادق لوقائع مأساوية فزعة عاشها ” العراق ” الجريح خلال حقبة ظلامية تسودها ويلات وفواجع على أبناء الشعب من قبل الأحتلال الأمريكي وما تركه من شروخ وجروح في النفس العراقية والفكر العراقي الذي تَحَوَّلَ إلى حزن مقيم ، وشجًى دائم .. وهذا قليل من كثير ممَّا عاناه الناس من تصرفات الدكتاتورية البشعة آنذاك ، ومن عاش ووعى سوف يعرف تلك اللحظة التي عاشها أبناء الشعب العراقي من ذاكرة تحولَّت شهقاتها على مذبح الأنهيار ..

والفاجعةُ الواحدة تسحب وراءها سلسلة من الفواجع الأخرى ..

محمد شاكر محمود عليوي – بغداد

مشاركة