قصي الشيخ عسكر كاتب منسي بين دهاليز المنافي

قصي الشيخ عسكر كاتب منسي بين دهاليز المنافي
عقود عراقية بين القصة والرواية
د. زهير ياسين شليبة
قصي الشيخ عسكر أديب عراقي عصامي كان يقيم في الدنمرك، واصلَ دراسته الأكاديمية في دمشق وحصل على شهادة الماجستير في الآداب، وحصل على الدكتوراه في لندن التي يقيم فيها منذ مغادرته الدنمرك كما يبدو لي من خلال الاطلاع على المواقع التي يكتب فيها. هذا المقال مكرس لأعمال الدكتور قصي حتى منتصف التسعينات، ولم يشمل نتاجاته التي قد تكون صدرت بعد هذه الفترة.
مارس الدكتور قصي الشيخ عسكر المعاني، كما عهدته في لقاءاتنا القليلة والقصيرة في كوبنهاجن من الوجد، تجربةَ الشعر والنثر، فأصدر ديوانين، الأول رؤية ، والثاني صيف العطور وكلاهما يعكسان تجربة أدبية جميلة أراد الشاعر أن يبرهن فيهما على قدرته الشعرية ومعرفته بالأوزان العربية القديمة، إذ إن قصائدهما تنتمي إلى القديم، ما عدا بعضها لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة حيث ينتمي إلى التفعيله.
وتعود أشعار رؤية الديوان الصغير المكتوب بخط اليد، إلى فترة السبعينات، إلا أن الشاعر أصدره أثناء إقامته في سوريا في الثمانينات. ولا تختلف هذه التجربة عن غيرها من تجارب الشعراء الأولى من حيث طابعها الرومانتيكي والذاتي والإنساني واهتماماتها بموضوعات مثل الغربة والحب وغيرها من الهموم الإنسانية ولكن كل هذه الصور تُقدَّم للقارئ في لغة تختلف عما هو عليه الحال لدى العديد من الشعراء الشباب، وفي نَفَسٍ غير منقطع عن القديم ومتواصل مع الجديد
إذا سقطت وجدت الدرب
يلفظني
وإن مشيت يشد الخطو منزلق
أبحرتُ في نشوتي من أجل لا هدف
الليل أشرعتي والساحل الأفق
لا الشرق من دفئه في النار
يقذفني
أو يطفئ الحر مني ثلج مغتربي
ما بين جنبي هَمُّ لا يطاوله
إلا اصطباري على الترحال والتعب ص 10
فكما نلاحظ أن هذه اللغة تسعى لتكوين صورة شعرية ليست بعيدة عن تأثيرات القدامى، بل إن الأديب يعمل على تقديم نفسه كشاعر متأثر بالتراث والشعر الكلاسيكي، ويبدو هذا بجلاء في النص الآتي
حيارى حزانى ضياعنا
ندور فلا نمشي ولا نحن نرجع
ونرغب عن نبع ببارق خلب
فيوثقنا للغيب خيط مقطع
تُسائلني كيف السبيل إلى الهدى
عجبت فإني منك يا نفسي أضيع
لحوني نصيب والهدوء عواصف
ووردي أفاع والخميلة بلقع
وخلفي كفلي الرعب ما دمت
ماشيًا
فأنثر خوفي في الظلام وأجمع ص 20
مسحة واقعية
ومن الشعر ينتقل قصي الشيخ عسكر إلى عالم السرد والقصة بالذات، فيصدر مجموعة قصص قصيرة بعنوان المعجزة تناولت الواقع العراقي، والريفي منه بخاصة، وتميزت بالمسحة الواقعية والوصف التصويري. وتبعها بنتاجات قصصية أقرب إلى نوع القصة الطويلة إلا أن المؤلف اعتبرها روايات.
المعبر هي النتاج القصصي الأول للمؤلف، وقد أصدرها عام 1976 إلا أن تاريخها يعود إلى 1982 وتقع في 87 صفحة من الحجم المتوسط.
يُصور الكاتب في هذه القصة الطويلة الواقع العراقي في الستينات، حيث تميزت هذه الفترة بالاضرابات الطلابية والعمالية والحركات الدينية في مدينتي كربلاء والبصرة. تدور أحداث المعبر في كلية الآداب بجامعة البصرة حيث يمارس البطل حسين النجفي، الطالب في كلية الطب، نشاطاته العاطفية والسياسية في خطين متوازيين ومكمِّلين لبعضهما بعضًا، مجسدًا بذلك رغبته في التعبير عن ثورته على القديم.
ولا يمكن للناقد أن ينكر بعض السمات التي يتميز بها البطل الروائي، والتي يمكن أن يلمسها في شخصية حسين بطل قصة المعبر فهو شاب يتميز بالحيوية والديناميكية والتفكير المستمر والمتواصل مع نفسه والآخرين مكوِّنا حلقه وصل بين القارئ والواقع والعصر. وهو إضافة إلى ذلك مقدَّم للقارئ في حالة صراع وقلق دائمين، تؤثر على سلوكه في المجالين العاطفي والسياسي فيحدث تطور في طباعه وشخصيته ينقذ الكاتب من السقوط في آفة التلوين بالأسود والأبيض. وهو عيب كبير وقع فيه بعض الكتاب الواقعيين العرب في بداية حياتهم الإبداعية ولولا عمليات دس الأنف، التي مارسها القاص، وتدخله المباشر في بعض المقاطع، وطغيان الأسلوب التقريري في بعضها الآخر لحصلت هذه القصة الطويلة على مجال أكثر رحابة في عالم السرد ولتميزت بلا شك بنًفَسٍ أقرب إلى السرد الروائي.
روايته التالية سيرة رجل في التحولات الأولى فإن تاريخ كتابتها يعود إلى عام 1986 أثناء إقامته في مدينة، ـايلة الدنمركية، أما تاريخ إصدارها فلم يذكر في الكتاب ولكن المهم هنا هو أن الكاتب حصل على فرصة أكبر للإطلاع على الطرق التجديديه في الكتابة السردية محاولاً أن يقدم عالمًا روائيًا في ست وتسعين صفحة من الحجم الصغير مشحونة بالخيال والصور الذهنية فهنا تكمن صعوبة المهمة التي تفترض الغوص في العوالم البشرية وتصوير الواقع.
تتكون بنية هذه القصة الطويلة من تسعة فصول، يشكل كل واحد منها عمودًا معماريًا يستند عليه السرد القصصي، وتحكي عن رجل في شكل سمكة أصبح أسطورة وشخصية مشهورة تتحدث عنه الصحف والإعلانات، فكيف يمكن أن يتحول الرجل إلى سمكة؟. نقرأ في فصل الهجرة الثانية الصخر والرمل والأشجار تعرف الرجل الذي صار سمكه أكثر من كل الأشياء، ولأن الطبيعة تعامل الحي والجامد بالتساوي، حيث أم الجميع كما تقول الروايات، وهذا يفهمه قبل أن يرى وجهه في الماء، تبدأ الزعانف بالظهور، فتضمر العضلات والسيقان. تتحول الأرجل إلى زعنفة كبيرة، والأنف إلى خياشيم وبمرأى من الصخر والرمل والأشجار، يدلف بهدوء إلى النهر ليتحرر من كل شيء . ص14
ومن هنا تبدأ غربته في العوالم التي يمارس حضوره فيها، فالمدينة لا تطيق الرؤوس، وليس هناك من يتمكن المحافظة على رأسه إلا وفق شروط معينة واختيارات محدودة.
يهدأ الرجل الرسمي قليلاً، يحذر
ــ أمامك ثلاثة اختيارات الهجرة، أو خلع رأسك، أو أن تكون مسؤولاً . ص 55
ونفس الشيء يحدث في حياته مع الكائنات البحرية، حيث تحاول الكبيرة منها ابتلاعه أخذًا بمبدأ السمك الكبير يأكل السمك الصغير، مؤكدًا بذلك مقولة البقاء للأقوى.

سيرة رجل
وإذا أردنا أن نقارن فنيًا بين قصتي المعبر و سيرة رجل في التحولات الأولى ، فإننا نلاحظ أن الأولى أكثر التزامًا بمقومات النوع القصصي مثل المقدمة والتمهيد والبداية والعقدة والنهاية وغيرها من أمر الحبكة، إضافة إلى الحدث والحوارات والتصوير الواقعي ومحاولة سبر الطباع الإنسانية من الداخل. أما سيرة رجل…. فهي قصة خيالية وتجديدية لا تبالي بهذه المقومات، بل إن الكاتب يؤكد ذلك في مقدمته لها حيث يقول للقارئ بإمكانك أن تقرأ هذه الرواية من البداية إلى النهاية، أي قراءة طبيعية، وإذا أعجبك أن تبدأ من المنتصف إلى البدء ثم العودة إلى النهاية، أو من النهاية إلى البداية فافعل ذلك. وأقول لك إبدأ من اي فصل ترغب فليس لدي اعتراض على عملك المقدمة. ص5
والنوع الروائي يتقبل كل أشكال الحداثة، إلا أنه يرفض أن يكون ذلك على حساب الواقع، الذي يُعد أهم مقوماته الفنية التي تميزه عن القصة القصيرة والطويلة، اللتين تعنيان قبل كل شيء بتصوير مشهد منه فحسب وليس كلّه، أو حياة بطل من الأفراد وليس مجموعة من الناس أو المجتمع كله كما تحاول أن تقوم بذلك الروايات.
فقصة سيرة رجل.. تتميز بلغة جميلة استطاع القاص أن يقوم من خلالها بسياحة في عالم الأفكار والفلسفة والخيال والصور التي تذكرنا بلغته الشعرية، لكنه ابتعد كثيرًا عن الواقع متوجهًا نحو الأمور الذهنية، فقدم لنا نتاجًا مكرساً للطباع البشرية غير الواقعية، بينما يدعو إلى التأمل في شكل هزلي ساخر. لعله من المفيد أن نقول إنها تذكرنا بقصة الديناصور لمؤلفها فاضل العزاوي، أما طريقة السرد في فصل عن حياته في المدينة وهامش من سيرة رجل… فإنها تذكرنا ببعض قصص الكاتب العراقي محمد خضير، الذي استخدم الهامش كامتداد للمتن السردي.
يقول القاص في حاشية هذا الفصل غير أن هناك فصلاً قصيرًا يتداخل مع المتن الأصلي يخص سيرته عثر عليه في وقت متأخر. الفصل يرجع إلى مئات السنين بعد وفاته، لذلك لم يعتد به حسب القاعدة التي تستند إلى الروايات المعاصرة له التي سبقت زمنه، عنوان الخبر فصل من حياته في المدينة المخطوطة مجهولة الراوي والناسخ. أولها مفقود وتبدأ من المنتصف . ص 46

هوية العمل الفني
وإذا كانت قصة سيرة رجل… تهتم بالأشكال الجديدة وطرق السرد الحديثة والإشارات والعلامات واختلاط الأصوات، وهي أمور ليست قليلة الأهمية في النوع القصصي، كان يمكن أن تقوم بوظيفة أكبر لو استخدمها القاص في تقديم مضامين أكثر واقعية وأكثر ارتباطًا بالكرونوتوب. قصة المكتب مثلاً سعت إلى تقديم بانوراما واقعية عن المجتمع العراقي في عهد الحكم العارفي، إلا أنها تبقى بحاجة ماسة إلى أدوات القاص وطرقه التجديدية التي استخدمها في سيرة رجل… .
المكتب قصته الطويلة 169 صفحة الثالثة التي أصدرها الكاتب عام 1989 أثناء إقامته في الدنمرك. لقد أشار أكثر من مُنظر في نظرية الأدب والرواية كنوع مستقل بشكل خاص، إلى أهمية حجم النتاج السردي في تحديد انتمائه إلى النوع الروائي أو عدمه، لأن الأعمال الروائية القديمة كانت تلتزم بجميع مقوماته الفنية ولهذا كانت أحجامها كبيرة، ويكفي أن نذكر بائعة الخبز أو الحرب والسلام و الأخوة كارامازوف وغيرها.
إلا أن النقاد المعاصرين تركوا مثل هذه الضوابط والمعايير عند نظرتهم إلى هوية العمل القصصي وانتمائه الفني. ولكن مع ذلك يبقى العمل الروائي في حقيقة الأمر متميزًا بحجمه عن الأنواع النثرية الأخرى و سطوته على كل صغيرة وكبيرة في المجتمع وفي أغوار النفوس البشرية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر روايتي النخلة والجيران لغائب طعمه فرمان و الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، باعتبارهما من روائع الأعمال الروائية اللتين قدمتا بانوراما واسعة عن الواقع العراقي. ولا يعني الانتماء الى جنس القصة الطويلة إنتقاصا لهذا النتاج أو ذاك بل بالعكس في بعض الاحيان حيث يكون بالذات هذا الشكل ملائما للمحتوى السردي. وقد تكون كتابة القصة الطويله أعقد بكثير في بهض الاحيان من كتابة الرواية لتعدد الامكانيات في النوع الاخير وتحددها في الأول.
تنتمي المكتب إلى النتاجات السردية الواقعية ولكنها لا تختلف كثيرًا من الناحية الفنية عن مجموعة القصص الطويلة العراقية التي صدرت في الستينات مثل قالت الأيام لغالب عبدالرزاق، و الكوب المزيف لخالد محمد علي 1964 ، و شمخي لعبد الودود العيسى 1953 وغيرها من تلك التي صدرت قبل رواية النخلة والجيران ، فأغلب هذه النتاجات لم تحقق طموحات مؤلفيها في تأليف روايات.
وإذا كان من إيجابيات المكتب هو انفتاحها على التيارات السياسية في المجتمع العراقي، إلا أنه لا بد لنا من الإشارة إلى المباشرة التي اتسمت بها بعض مقاطع هذه القصة. لنقرأ بعض النصوص المتسمة بإسلوب الكتابات الاجتماعية
وَلدٌ وحيد لم يكن أمرًا عابرًا، لا سيما وقد رزقت به والدته بعد نذور وبركات ودعاء وزيارة لمراقد الأئمة. عادة يكون الولد الوحيد مدللاً بين أخواته. يحملنه أينما ذهبن، تتناقله الأيدي والأحضان. كن فرحات به، فالفتيات يتجردن من غيرة يحس بها الأولاد تجاه بعضهم بعضًا ادركت الأم رغبته من تصرفه، فعهدت به إلى أخته خديجة قبل وفاتها، وكانت وصيتها له.أن تصبح أمه حتى يتم الثانوية، هكذا بدأت حياته في بيت أخته. ولكيلا يشعر بحرج لم يتدخل الزوج في محاسبته إذا ما تصرف أي تصرف مرفوض.. . ص7
تتكون المكتب من قسمين يشكلان عمودي المعمار القصصي، ويبدأ القسم الأول بنهاية القصة، حيث يأخذ القاص بيد القارئ ليتعرف من خلال الذكريات إلى شخصية البطل كريم ولقائه بزميله في الدراسة صالح الذي يجذبه إلى تنظيم سياسي وطلابي عن طريق إغرائه بالحصول على منحة دراسية إلى أوروبا الشرقية على حساب اتحاد الطلبة التابع للشيوعيين. ولا بد من الإشارة هنا إلى افتقار شخصية صالح الشاب السياسي إلى النمذجة وابتعادها عن طباع الملتزمين السياسيين المعروفة في أوساط المجتمع العراقي. لنقرأ في القصة الحوار الذي يتناول الصفقه بين كريم وصالح مقابل دخول الأول إلى اتحاد الطلبة
ــ لم تخبرني اقتراحك؟
ــ تستطيع أن تستفيد من بعثات اتحاد الطلبة.
كان يعرف مقدمًا بعض الأخطار إذا يقدم على خطوته، صور الإرهاب بعد رمضان أعطت العبرة لكثير من المتعاطفين، وأحرقت مثلما تقول النساء الأخضر واليابس. لكن عهد عارف بتنازلاته الديمقراطية، وليونته تجاه المعارضة دفعه كما دفع الكثيرين لنسيان إرهاب رمضان، ثم لماذا يفكر وهو يغادر ما يجمعه من المال، وما ينفق عليه من تكاليف البعثه كاف لأن يرى أوروبا بكاملها
ــ ليس هناك ما يمنع
ــ تذهب معي إلى الدار. نتغدى معًا ونكتب المطلوب . ص 19 المكتب
وتتسم شخصية صالح بالابتعاد عن الواقعية إذا نظرنا إليها من زاوية سياسية بحته دون النظر إلى عمره، إذ إن الكاتب قد يبرر ذلك بكون البطل ما زال مراهقًا، ومع ذلك تبقى توجيهاته السياسية وأوامره بعيدة عن واقع السياسيين الذين ينتمي إليهم.
قال صالح وهو يدير لنفسه قدحًا
ــ استعرت سيارة خالي، لا تنسى أنه تقدمي، أعتقد أنها لفتت نظرك عند الباب، سأعلمك قيادة السيارة، فالمفروض بالعضو أن يعرف مجالات المراوغة والاختفاء فضلت هذه السيارة لأن مبدل السرعة جنب كرسي الجلوس . ص29
في رحاب الأمكنة
وعلى الرغم من أن بطل القصة كريم مرتبط بتنظيم طلابي يساري، إلا أنه يلتقي في المكتب الذي يعمل فيه بالحاج جابر وعمران والأوساط الدينية، كي يستخدمه الكاتب في تصوير الوضع الاجتماعي العراقي.
قال كريم لا ينكر أن عبد الكريم تعاطف مع الشيعة، فقد رأيت له صورة يجثو على ركبتيه أمام السيد محسن الحكيم. قال الحاج كنا على ضلال، نصفق لأي من يصعد كرسي الحكم، لولا أن علماء الدين نبهونا إلى خطئنا، صمت الثلاثة كأن لحظة خشوع خيمت على المكتب، وانساق الحاج في حديثه الهادئ البطىء الذي بدا غريبًا وسيعود غريبًا، العهد عهد ضلال. الإيمان نور في النفس، ستصفو الأمور بإذن الله ويخرج المهدي المنتظر حاملاً سيف جده، فيأخذ بالثأر. ص14
وعلى الرغم من أن المبدع قصي الشيخ عسكر حاول أن يقدم وجهات نظر سياسية مختلفة في المكتب إلا أن السرد يتحرك ضمن نبرة سياسية دينية وهذا أهم ما يميزها عن أغلب القصص العراقية.
ويبدو أنه يلخص وجهات نظر شخصياته القصصية في مقطع لا يخلو من تاثره بالوضع السياسي الحالي والمعارضة الدينية ليعبر عن الشعور بالغبن والمظلومية لأبناء الجنوب
الناس حين يتعاطفون مع الشيوعيين يخلقون بذرة في نفوس الشباب، خديجة المؤمنة لا تعرف حاكما وطنيًا إلا الزعيم، وتتألم لعذاب الشيوعيين حين تتذكر دفاعهم عنه. هكذا تبدو لها الأمور. سلمان العلي ينتقم من الدولة بتخفيف حجم الضرائب عن مراجعيه في الدائرة، ولا يذكر الشيوعيين بسوء. طلاب المدارس يتعاطفون أهل الجنوب جرفتهم معاناتهم من إضافة و بين الشيعة والشيوعية والشعوبية لقد تضافرت كل الينابيع وألقت مياهها في فم عطشان لترويه وتخنقه . ص96
إذا كانت الأحاديث السياسية وطريقة رصدها تذكرنا بروايات عراقية أخرى كثيرة، فإن الانتقالات والتحرك في أماكن بغداد المختلفة أيضاً مارست حضورها في النتاجات الواقعية.
سمع أصوات دراجات نارية، امتدت رقاب المحتشدين إلى شارع الرشيد…. زغردت إحدى النساء العجائز على الرصيف الآخر. استعد الجنود قرب وزارة الدفاع… كاد يرجع إلى بين الحاجة، لكنه أبصر فتاة الحارة تتهادى بعبائتها جهة المظله… لنقصد التحرير… تركها تنتظره في شارع الجمهورية، قرب منعطف واسع يشرف على جدارية جواد سليم… . ص101
أخيرًا لا بد لنا من الإشارة إلى أن الانتقال في رحاب الأمكنة والتمعن في وصفه جنبًا إلى جنب مع العالم الداخلي للبطل يمكن أن يساعد القاص على تحقيق نقله نوعية في نتاجه القصصي بحيث يتحول إلى عمل روائي حقيقي. فالنتاج الروائي يتميز عن القصة الطويلة بنوعية البطل النموذجي، وديناميكية في المكان والزمان والمجتمع، وكل هذا يساعد الكاتب على تقديم بانوراما واسعة وحقيقية عن الواقع والناس في الشوارع والساحات والورشات والمكاتب، وطبقات مختلفة من اللغات ضمن نبرات متنوعة يمكن أن تصل إلى مستوى تعدد الأصوات البوليفوني التي تعد من أهم سمات الرواية.
AZP09