قصة من الأدب الكردي

قصة من الأدب الكردي
فـي أي مسجـد تصـلي؟
محسن عبدالرحمن
ترجمة سامي الحاج
اليوم، وبعد مرور كل هذه السنين الطوال، ارى نفسي في موقف سيئ كهذا لأول مرة.
ورغم انني من عائلة مسلمة وكنت في طفولتي ملتزماً كثيراً بطقوس وتعاليم الدين، لكن بعد ان وضعتني القادسية في عشرات المواقف السيئة والمآزق الحرجة وعرضتني لحوادث مخجلة، عشرات المرات نجوت فيها بمعجزة إلهية من موت محقق في هجمات الايرانيين. اكثر من مرة الفيت نفسي اقف ذليلاً عند باب كلب سلوقي ابن كلب، فقط لأنه كان حزبياً. وحده الله يعلم كم اكلنا القصعة مع الكلاب وعدوْنا مع الذئاب ونمنا بين جثث الشباب ومع ذلك كان ولاؤنا دائماً موضع شك فإسم الفأس يبقى فأساً. لو ضحينا من اجلهم، لو وضعنا العقال على رؤوسنا، لو اصبحنا سدنة الكعبة المشرفة، لو دقونا في الهاون نظل كورداً ومن العجم علوجاً
لذلك أقول انتم الذين لم تشاهدوا تلك المصيبة السوداء بأمهات عيونكم السود فانكم لم تروا شيئاً وان شاء الله لن تفعلوا أهون مصيبة كانت عندما تحتاج الى عريف بلا ناموس، مجردٍ من الانسانية والاخلاق، خارج لبرهة من الجحيم بكفالة.
عندما اتذكر تلك الايام التي كان المرء فيها ينسلخ عن انسانيته رويداً رويداً ودون مقاومة أتمنى من كل قلبي وادعو الله ان اتمكن من اعادة تأهيل ذاكرتي ومسح كل سنين ما قبل التحرير منها اتذكر تلك السنوات واتيقن ان الانسان اقوى واقسى من الصخر والفولاذ.
ولكن ليس في اليد حيلة، إذ يجد المرء نفسه على حين غرة في فوضى ليس له فيها ناقة ولا جمل. فمنذ زمن حفظه الله يوم عدت خائب الرجا من امام قلعة نزاركي لم أضع يوماً رأسي للسجود، ولغير قضاء حاجة أو حضور مجلس عزاء لم أدخل يوماً الى المسجد، كان هذا هو قراري القاطع والاخير يوم رؤيتي منظر النسوة والاطفال والعجائز دون صاحب او معيل بين اشواكِ برّيةِ بحركي في سهل أربيل .
كان ذلك اول يوم جمعة اعمل فيه في سوق الماكياج حيث اشتريت دكاناً هناك بعد ان جربت كل انواع الكسب والعمل دون ان افلح في أي منها، من مفوض في الامن الى بيشمركة ومن بيع وشراء السلاح حتى دهانِ البنايات، وآخر عمل لي أصبحت معلماً بعد دورة تأهيل لمدة ثلاثة أشهر، ناهيك عن اعمال وقتية وخفيفة اخرى كالبورصة وبيع البنزين في الشارع…
وبمناسبة الحديث عن عملي الجديد اقول صحيح، آمنت بالله، المرأة حياة وعذاب والمكان الذي تقصده النساء عامر يضج بالخير والبركات، معجون بالدهن والدبس كما يقال، على عكس المكان الذي تهجره فقد خسفه الله وذهب في ستين داهية كقريتي السدوم وعمورية. فليحفظ الله النساء لكي يصرفن ويبددن بكل يسر الاموال التي جمعها الرجال بأية طريقة كانت، بالعمل والكسب والبخل والسرقة والفساد، في السوق.
سبحان الله.. هؤلاء الرجال خشني الطباع العنيدين، كم هم مسخّرون وطيعون أمام النساء؟ صحيح إذ يقال وما من ظالم إلاّ سيبلى بظالم ٍ. لا عجب فهم من سلالة آدم، تلامذة هارون الرشيد رجل الرجال وسيدهم بلا منازع بفضل بيت المال وقِربة الخمرة، الذي كان عندما يرى أمام عينيه أنثى يخرّ سرواله صريعاً.
كان قد مر وقت طويل وصوت خطيب الجمعة المنبعث من مكبرات الصوت الاضخم من آذان فيلة هندية والمعلقة في منارة المسجد وسط السوق وبلغة كوردية جافة مطّعمة بكلمات عربية نسيها حتى اصحابها العرب قد ملأت السوق والمدينة كلها، وكان الخطيب كلما ذكر وصف تعذيب النساء في نار جهنم يكرر قولة أعوذ بالله.
نعمان يبدو ان ما كان يفعله البعثيون لم يجلبوه من خارج البيت؟
قال شهاب وهو يضع سجادة الصلاة مطوية على كتفه ويتجه صوب الجامع، وشهاب هو خريج أبو غريب طبعاً بعد أن أمضى زمناً لا ينسى في أمن دهوك المكان الذي بدلاً من أن يتحول الى متحف لتلك المرحلة الاكثر قتامة في تاريخ المدينة ويغدو شاهداً عليها، فانه، ووفاءاً للخبز والملح الذي كان بينهم وحفاظاً على أخوّة ايام زمان، قام البعض بأخفاء آثار البعثيين فيما قام آخرون، لكي يتموا عملية الاخفاء ويمحوا من ذاكرة الناس ذكرى تلك الايام السوداء، بتحويل المكان الى كلّية… وهو قمة الوفاء
ئينس اسرع واغلق دكانك وإلا فاننا لن نجد موطئ قدم حتى في الساقية وسط الزقاق.
كان نعمان يقول ذلك وهو منهمك بتغطية معروضات دكانه… الحمد لله اغلاق الدكاكين لدينا نحن العلوج اصبح مثل الذي كنا نسمعه في حكايات محمد المهدي، والنعاج التي تسرح مع الذئاب سوية، وشام شريف.
ماذا؟
أقول لك أسرع.
لا ادري كيف ولماذا أقتفيت أثر خطواته وسرنا نحو المسجد، فأنا لم أكن مطيعاً لين العريكة هكذا ابداً. في الحقيقة لم أعرف كيف أجيبه، ربما لأنني كنت حديث العهد في هذه السوق، وكل بهلوانات سوق الكماليات، عدا رمزي خريج كلية شريعة الكوفة، كانوا يصلّون.
كان المسجد يغص بصفوف المصلين المتلاصقة اكتافهم، وحتى وصلَنا الدورُ في طابور الوضوء لم نعثر على مكان في باحة المسجد للصلاة، حتى الازقة المحيطة بالمسجد توقفت حركة المارة فيها بسبب افتراش المصلين الارض. اخيراً افسح لنا فوزي مكاناً على كرتونته. وما عداي كانت أكف المصلين ترتفع نحو الاعلى والخطيب ينهي تضرعه بعظمتك يا رب العالمين انصر المسلمين على الكفار وأجعل أموالهم غنيمة للمسلمين.
في طريق العودة سألته
هل فهمت شيئاً من خطبة الامام؟
لا، ولماذا أفهم، ما الجديد الذي سيقوله؟
ولماذا جئنا إذن؟
يبدو انك فهمت شيئاً؟
لو فهمت منه شيئاً لماذا سألتك؟
حرامٌ إن كنت انا أو نعمان أو الكثير من هؤلاء المصلين قد فهمنا شيئاً أو عرفنا موضوع الخطبة. ولكن ليتني قلت له لن آتي الى صلاة الجمعة لأنه في اليوم التالي وقبل صلاة الظهر قال لي
ئينو هيا نذهب للصلاة.
وفي الحقيقة كنت في اشد الحاجة للذهاب الى المرحاض إذ كانت مثانتي قد امتلأت. تعرفون ان حكومتنا تعطي رخصة لبناء عمارات من سبعة طوابق لكنها لا تلزم اصحابها بتخصيص اماكن لوقوف السيارات والتواليت، لذلك فقد توجهنا الى المسجد سوية، ولكني لاحظت تصرفاً غريباً من نعمان عندما دخلنا الى المصلى وخلعنا احذيتنا، إذ وضع فردتي حذائه في مكانين مختلفين ومتباعدين على الرفوف. عند الخروج سألته عن ذلك فقال
عندما تعود الى البيت حافياً ذات مرة ستعرف السبب
في طريق العودة صادفنا احد اصدقاء نعمان. لم يكتفيا بالتحية والسلام وحالِ القرية والشقيق في المانيا والآخر الذي وصل تواً الى بريطانيا والشقيقة في السويد وإنما جرهم الحديث الى مشكلة الكهرباء وتمليك الدور المتجاوزة على مقربة منا التقت كومتا نساء واحتلت ما تبقى من الرصيف، رحن يتبادلن العناق والقبل واحاديث النسوان، عرفت من الحقائب ان احدى الكومتين تروم شراء لوازم الخطبة. عدة مرات اضطر المارة الى تغيير مسارهم عندما كانوا يقتربون منا.
إذا كان للشارع قوانيناً للمرور فان للرصيف ايضاً قوانينه غير المكتوبة واكثر، ذوق الشخص والشعور بالمسؤولية. واذا كان الشارع مخصصاً للسيارات فان الرصيف، وهو آخر مكان يجري الاهتمام به، مخصص للبشر.
وربما يعود اهمال البلدية لأمر الرصيف الى ان الآلة في الشرق اكثر اهمية من الانسان نفسه اما في الجيش العراقي فقد كانت البغلة اهم من الجندي.
للأسف، لو كان لصلاتنا، انا ونعمان، فضل سبع وعشرين صلاة فإن ما جنيناه من ذنب لما سببناه من اذى للناس كان يعادل مائتين وسبعين ذنباً. هذا عدا النظر الحرام والشتم واللوم الذي كنت أراه في عيون الناس وخاصة النساء وكأنني اسمعهن يقلن لنا يا عديمي الناموس، يا جائعي النظر، أليس لكم أخوات وأمهات؟. لذلك كنت على عجلة من أمري، كانت المرة العاشرة التي اقاطع حديثهما واسحب يد نعمان لكن صاحبه كان لجوجاً ثرثاراً اكثر منه، لزقاً كالدبق. اخيراً، وقبل ان ينقلع ونفسح الطريق للناس، نظر الي ثم قال
نعمان في أي مسجد ستصلّون؟
لا تتعب نفسك، لقد أدينا الصلاة.
اجابه نعمان بعد أن رأى صاحبه يتطلع في قدميّ.
في بادئ الامر ظننت الموضوع مزحة بين صديقين، لأنني كنت قد رأيت مثل هذا التصرف القبيح في فيلم مصري. ما زلت اذكر المشهد عندما كان المصلون يرومون الخروج من مصلى احد مساجد القاهرة عندما صاح اعضاء عصابة متخصصة بالسرقة حنش.. حنش فتدافعت حشود المصلّين من بيت الله وهم يدوسون ويتعثرون ببعضهم، تقطعت جلابيب البعض في فوضى التدافع، كان منظراً لا ينسى. اعتقدت ان الامر مجرد خيال من الكاتب لكنني لم اتصور قط ان يرتكب انسان هذا الفعل المجرد من كل الاخلاقيات. وفيما كان المصلون يتفرقون مذعورين من الحنش المزعوم قام اللصوص بجمع ما أمكنهم من احذية ليبيعوها فيما بعد في سوق البالات.
اعتقدت انه مجرد فيلم ولا اصدق أبداً ان يحدث أمر مثله في كوردستان ودهوك بالخصوص لذلك لم أأخذ حديثهما وتلميحاتهما على محمل الجد.
في النهاية وبعد ان رأيت ان الصلاة لدى جيراني رياء وعادة اكثر مما هي عبادة فقد قررت ان اذهب الى المسجد من الان فصاعداً بمفردي. والحقيقة انني كنت اركز واخشع في صلاتي اكثر وانا وحيد واحاول جاهداً غسل روحي من آثام وخطايا الماضي.
في احد ايام الخميس انشغلت في الدكان وتاخرت في أداء صلاة المغرب جماعة، أخيراً تمكنت من الذهاب الى المسجد الكبير وأديت الصلاة على عجل. وعند الخروج أصابتني الدهشة فجأة تطلعت يميناً ويساراً وأنا أقول مع نفسي ما الذي حل بالحذاء الذي اشتريته قبل اربعة ايام فقط؟ لقد وضعته هنا قبل دقائق وما اديت سوى ثلاث ركعات سريعة بلا سنن قبلها او بعدها، لم يمر وقت طويل حتى أنسى مكانه؟
تلك.. تركها لك.
قالها العجوز الذي كان يعدّ تسبيحاته بمفاصل اصابعه.
رأيت بدل حذائي الجديد ذو القياس 42 مركوباً كبيراً يشبه السطل قياس 44 انتابني شعورُ قرويٍ بسيطٍ يجد نفسه فجأة وسط زحام مدينة كبيرة، مندهش ومذهول وتائه.
البعض يجدد حذاءه القديم في المساجد….
وفهمت من كلام مصلّ آخر ان سرقة الاحذية في المساجد بات امراً عادياً، لذلك فقد تذكرت نعمان مباشرة عندما سأله صاحبه في أي مسجد سوف تصلّون؟
هكذا راحت يدي تمتد الى هاتفي الجوال لا إرادياً وانا اقول مع نفسي نحن نسرق الاحذية من المساجد، نصلح خدماً لأولئك الذين اخترعوا لنا الموبايل
آلو، نعمان؟
…………….
لقد نهبوني .
…………….
تركوني حافياً، في المسجد الكبير، سرق احد المسلمين حذائي
…………….
يا رجل، أقل من خمس دقائق
………….
ماذا أفعل؟
…………..
وبسرعة وبذلك المركوب العتيق انطلقت، استدرت عند سوق الحدادين وانحدرت بتلك الهيئة، كما قال لي نعمان، حتى وصلت باب سوق الفواكه والخضراوات. وقفت هناك ورحت احدق في احذية الناس، أتلفت حولي كالمجانين خشية ان يراني احد المعارف في تلك الحالة المزرية.
بعد أقل من الوقت الذي أمضيته في اداء الصلاة، ومثل زوم الكاميرا، رأيته في قدمَيْ رجل اربعيني، كان يتجه نحوي. وانا الذي نفخت صدرت رحت أكلم نفسي هذا حذائي.. لقد امسكت بالحرامي وبعد تفكير عدتُ للقول ولكن ماذا إن لم يكن حذائي؟ أي عار سيصيبني في مدخل قرية النمل هذه، انا وهذا الرجل سنغدو فرجة ببلاش، الافضل ان أدعه يعبر وأراقبه
اجتازني فنظرت الى الحذاء من الخلف انه حذائي وبحجة وقوع علبة سجائري انحنيت ودققت النظر أقسم انه الحذاء الذي اشتريته في شام شريف بخمسمائة ليرة
من حرقة قلبي راح أنفي ينفث لهباً، من فورة غضبي اندفعت خلفه، أخذتُ برقبته وقبضت بشدة على ياقته ورح أشده. التفتَ الي وقبل أن ينبس ببنت شفة قلت له
إخلع
خيراً يا أخ؟
قلت لك إخلع
هل انت مجنون، أخلع ماذا؟
وجحظت عيناه في محجريهما.
اقول لك إخلع وإلا أقسم بالغوث الكيلاني سأجعلك فرجة.
قاتلك الله، وهل انا امرأتك؟
رد بكل هدوء.
من شدة غضبي كنت قد نسيت ان اذكر اسم الحذاء. والحقيقة أن كلمة إخلع بحد ذاتها بمثابة قتل حذاري أن تقولوها لأحد.
الحذاء يا عديم الضمير، يا عديم الاخلاق، أقول لك إخلع الحذاء وإلا جعلتك حذاءاً…
صوتي الذي حرصت ان لا يرتفع، إرتفع رغماً عني، ارتفع حتى التفتَ الينا من كان موجوداّ في مدخل السوق.
كل هذا من أجل الحذاء؟ يا رجل المكان كان مظلماً ولم أنتبه، يبدو أنني أخطأت. تفضل هذا حذاؤك.
كان الرجل يبدو وكأنه يبدل حذاءه في محل لبيع الاحذية، ولأن الحذاء كان ضيقاً عليه فقد راح يخلع فردتيه بكل هدوء واناة دون اضطراب أو وجل.
لم تميز بين قياس 42 و44؟ كيف لبسته إذن كفاني ذهاباً الى المسجد ايضاً، سأدعه لأمثالك.
قلعة نزاركي ومنطقة بَـحركي من المفردات التي اصبحت جزءاً من حملة الانفال التي قامت بها قوات العراقية في عهد صدام حسين ووجدت لها مكاناً يذكر في تأريخ المنطقة. في الاولى تقع في مدينة دهوك تم تجميع العوائل المحتجزة من القرى المؤنفلة قبل أن يصار الى نقل الرجال ودفنهم في صحارى جنوب العراق، وقد أعدم الكثير من الرجال في القلعة بقتلهم بالبلوكات، والى الثانية تقع في ضاحية اربيل تم نقل ما تبقى من النساء والاطفال وكانت في وقتها مجرد برية جرداء ليس فيها غير الاشواك وما يهيم على ظهرها من حيوانات.

/6/2012 Issue 4236 – Date 27 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4236 التاريخ 27»6»2012
AZP09