قصة قصيرة لطارق العزاوي

قصة قصيرة

فقد

طارق العزاوي

صحبةً‮ ‬كنّا‮. ‬قد عبثتْ‮ ‬بنا تماماً‮ ‬متاعب رحلة العودة الطويلة التي‮ ‬حاولنا‮ ‬– ما استطعنا‮- ‬ان لا نقطّعها مراحلْ‮.‬

كان القرار‮- ‬قرارُنا‮ – ‬جماعياً‮ ‬هو المسير،‮ ‬المسير وحسب فليس للجميع متسع لتبديد وقتْ‮.‬

غداً‮ ‬دوام رسمي‮ ‬ومتعةُ‮ ‬السياحةِ‮ ‬في‮ ‬ذلك البلد البعيد استنزفت القدرات أو كادت فيما أتت طبيعةُ‮ ‬رحلة العودة البحرية على ما تبقّى لدينا من نشاط حتى ما عادَ‮ ‬بمستطاعِ‮ ‬أحدٍ‮ ‬الحديث الا لماما‮.‬

كانت حزمةٌ‮ ‬واسعة من الطرف والنوادر والمواقف المضحكات منها والمحرجات معاً‮ ‬قد كررت حتى فقد الكثيرُ‮ ‬منها لذاذة النكهةِ‮ ‬وصارت اعادتها تبعثُ‮ ‬السام حداً‮ ‬يفوق ما تثيرهُ‮ ‬من ارتياح‮.‬

قال واحدٌ‮ ‬منّا‮:- ‬لن‮ ‬يكفي‮ ‬اسبوعٌ‮ ‬كاملٌ‮ ‬من النوم لاستعادةِ‮ ‬نشاطنا‮.‬

ردّ‮ ‬عليه صاحبهُ‮:- ‬بل استحمامٌ‮ ‬وليلةٌ‮ ‬بعشاءٍ‮ ‬دسم انهضُ‮ ‬بعدها‮ ‬– بشرط إلاضحاء‮ ‬– مثل حصان‮.‬

اكد السائق قول الثاني‮ ‬واكد الثالث قول الاول‮. ‬أما أنا فقد ظللتُ‮ ‬صامتاً‮ ‬طوال الوقت فما عاد بمقدوري‮ ‬استزادةً‮ ‬في‮ ‬حديث‮.‬

كنت أسندتُ‮ ‬رأسي‮ ‬الى وسادةِ‮ ‬المقعد التي‮ ‬رشّها السائق عطراً‮ ‬كما الاخريات منذُ‮ ‬قليل فيما اهتزازات السيارة على الشارع المكسوّ‮ ‬حديثاً‮ ‬اهتزازات لذيذةٌ‮ ‬تزيدٌ‮ ‬من حلاوتها نسائمُ‮ ‬الهواء المتسللة رويداً‮ ‬خلل الفتحة المثلثة في‮ ‬زجاج نافذة الامام فيما الشمس تزّاور في‮ ‬جوف المركبةِ‮ ‬التي‮ ‬علتها الحقائبُ‮ ‬مكدسةً‮ ‬فوق بعضها ما اثار شفقة الكثير من السائقين على تلك المركبةِ‮ ‬التي‮ ‬غادرت مصنع انتاجها منذ عهدٍ‮ ‬بعيد‮.‬

استأذن السائق للتوقف‮. ‬قال مازحاً‮:- ‬كلانا تعبَ،‮ ‬السيارةُ‮ ‬وأنا‮.‬

انتهز مكاناً‮ …. ‬ظِلَّ‮ ‬نخلةٍ‮ (‬نشوةٍ‮) ‬أخْلَتْهُ‮ ‬سيارةٌ‮ ‬تواً‮ ‬فأوقفها هناك‮. ‬ترجّل على عجل وما زال المحرّكُ‮ ‬يدور،‮ ‬رفع‮ ‬غطاء المحرك والتقط خرطوم المياه المتدفّقة لسقي‮ ‬الشجيرات فسلّطه على‮ (‬المبرّدة‮) ‬وهرول وهو‮ ‬يعالجُ‮ ‬ازرار بنطاله مسرعاً‮ ‬الى عمق‮ (‬الاستراحة‮) ‬المزروعة وحيدةً‮ ‬على خد الطريق‮.‬

ظللتُ‮ ‬ارقب مؤشر الحرارة حتى انخفض عندها اوقفتُ‮ ‬المحركَ‮ ‬كما اوصاني‮ ‬واودعتُ‮ ‬جيبي‮ (‬مدلاة‮) ‬المفاتيح‮.‬

تسلل الى كل اوصالنا خدرٌ‮ ‬لذيذ‮. ‬فقد فعلتْ‮ ‬قناني‮ ‬المرطباتِ‮ ‬فعلها وكذلك نسائمُ‮ ‬الهواء والاصواتُ‮ ‬المتعاقبة للمركبات الكبيرات منها والصغيرات وما بينهما والتي‮ ‬تتوالى جينةً‮ ‬وذهاباً‮ ‬باتجاه الشمال باتجاه الجنوب تسهم في‮ ‬هدهدةٍ‮ ‬حلوةٍ‮ ‬ليس من اليسير مقاومتها‮.‬

خفّضت حافلةٌ‮ ‬خشبيةُ‮ ‬البدنِ‮ ‬من عنفوانِ‮ ‬سرعتها شيئاً‮ ‬بفعل المطبّات‮ ‬– شعرنا بذلك‮-. / ‬الحافلة كانت مخصصةً‮ ‬لنقل الراكبين لكنّ‮ ‬تطورّ‮ ‬العصر وتطور الانتاج أحلل بديلاً‮ ‬عنها حافلاتٍ‮ ‬مترفاتٍ‮ ‬فكان لزاماً‮ ‬عليها الخضوعُ‮ ‬لمنطق الاشياء لتفسحَ‮ ‬المجال للجديدِ‮ ‬وترتضي‮ ‬الضرورةَ‮ ‬الحاكمة ان تقبلَ‮ (‬التحوير‮) ‬لتصلح لنقل المواشي‮/.‬

‮(‬التحويرُ‮) ‬صفٌ‮ ‬من الالواح الخشبية ارتكزَ‮ ‬على مساندِ‮ ‬القواعد الوسطى لابوابِ‮ ‬الجانبين فأحال جوفها طابقين فيما‮ (‬السطَحُ‮) ‬المسورّ‮ ‬بالحاجز المشبكِ‮ ‬الحديد طابقٌ‮ ‬ثالث‮.‬

انتظمت المواشي‮ ‬صفوفاً‮ ‬تعالى ثغاؤها وتخللتْ‮ ‬رائحتُها ثنايا الفضاء‮ … ‬وصلتْ‮ ‬الينا‮ … ‬وعبرتْ‮.‬

على السطح بين الشياه كلبٌ‮. ‬الكلبُ‮ ‬كان قبل الان كلباً‮ ‬لكنهُ‮ ‬الآن‮ … ‬

‮- ‬كما الشياه‮ – ‬مربوطٌ‮ ‬في‮ ‬تلك الرحلة الطويلةِ‮ ‬الموسميةِ‮ ‬عادةً‮ ‬بحثاً‮ ‬عن العشب والمياه‮.‬

كان الكلبُ‮ ‬عضّهُ‮ ‬الجوعُ‮ ‬عضاً‮ ‬لا عهدَ‮ ‬له بمثله من قبل،‮ ‬وهو لذلك ما فتيء‮ ‬يعضُ‮ ‬الحاجز المشبك الحديد و‮(‬يعوي‮) ‬ناسياً‮ (‬نباحه‮) ‬من قبل‮. ‬كان العواء‮ ‬يخيف الشياه فتفزع،‮ ‬تضطرب ثم تستكين مكرهةً‮ ‬على ذلك‮.‬

تشمّم الكلب رائحة الشواء التي‮ ‬فاضتْ‮ ‬على الارجاء تشمم رائحة الرز والخبز ايضاً‮ ‬وغيرهما وتملىّ‮ ‬ملياً‮ ‬تلك المياهَ‮ ‬الرقراقة المنصبّةِ‮ ‬من الخراطيم للتبريد او السقي‮. ‬عوى‮ … (‬خربشَ‮) ‬بمخلبهِ‮ ‬ارضية السطحِ‮ ‬المعدنية وعوى،‮ ‬عوى مرة اخرى, تلفت الى كل الجهات،‮ ‬القى نظرةً‮ ‬على الشياه،‮ ‬نظرةً‮ ‬على الافق البعيد،‮ ‬على الافق القريب،‮ ‬على قيدهِ‮. ‬عضّ‮ ‬الحبل عنيفاً‮ ‬ولاكهُ‮ ‬بين اسنانه فقطّعهُ‮ .. ‬فمزقّهُ‮ ‬حتى صار اشلاءً‮ ‬واشلاء, قفز من أعلى السطح الى الارض‮. ‬ما امهل نفسهُ‮ ‬وقتاً‮ ‬لتفكير‮/ ‬مع القرارات الصعبة‮ ‬يختزل الزمنُ‮ ‬حتى‮ ‬يكاد‮ ‬يكونُ‮ ‬صفراً‮/.‬

أنهضَ‮ ‬نفسهُ‮ ‬عجلا،‮ ‬اجتاز الدكّة المستعرضةَ‮ ‬للواجهةِ‮ ‬والمحتشدةِ‮ ‬زهوراً‮ ‬الى حيثُ‮ ‬مناضد الزبائن،‮ ‬مناضد الاكلين‮. ‬اقتحمَ‮ ‬الساحة مضطرباً‮ ‬فزع البعض،‮ ‬فروّا،‮ ‬تركتْ‮ ‬عوائلٌ‮ ‬مناضدها وانسحبت بذعر‮.‬

كان الوقت مثالياً‮ ‬لضمآن أن‮ ‬يرتوي‮ ‬ولجائعٍ‮ ‬ان‮ ‬يشبعْ‮. ‬هجم على منضدةٍ‮ ‬انتقاها‮. ‬كان تلُّ‮ (‬الثريدِ‮) ‬الذي‮ ‬اعتمر الصحن دعوة لا تقاوم‮.‬

سحَب عاملٌ‮ ‬ثم عاملان بعد ذلك عصيّاً‮ ‬فيما فكّ‮ ‬عاملٌ‮ ‬اخر محبس حزامهِ‮ ‬الجلدي‮ ‬ليلوّح به طارداً‮ ‬اياه عبثاً‮ ‬فليس كمثل الطعام لجائعٍ‮ ‬مثيرْ‮.‬

صرخ صاحب المطعم‮:- ‬دعوه‮ … ‬أنهُ‮ ‬الجوع‮…/ ‬للمثيراتِ‮ ‬استجاباتْ‮/ ‬حطموّا المنضدة بعدَ‮ ‬ذلك كاملة بما عليها‮. ‬والقوها نفايات‮ .. ‬موائدنا للكرام وحسب‮.‬

انسحب هادئاً‮ … ‬تطلعّ‮ ‬في‮ ‬الوجوه‮ … ‬نبح كثيراً‮ … ‬نبح نباحاً‮ ‬حزيناً‮. ‬الآن أحسّ‮ ‬بالفقدْ‮. ‬غريب بارضٍ‮ ‬لم‮ ‬يطأها ووجوه لم‮ ‬يألفها‮. ‬أدار رأسه مراتٍ‮ ‬ومرات‮… ‬لمح الشارع،‮ ‬قفز اليه،‮ ‬وقفَ‮ ‬على حافته‮. ‬وقف في‮ ‬وسطه‮. ‬تطلعّ‮ ‬في‮ ‬الاتجاهين‮. ‬عرف الاتجاه الذي‮ ‬كان‮ ..‬عوى عواءً‮ ‬حزيناً‮.. ‬عوى عواءً‮ ‬مرّأ تحسس لوعتهُ‮ ‬كل‮ ‬ُ‮ ‬الواقفين،‮ ‬كل الجالسين،‮ ‬كلُ‮ ‬المسافرين‮. ‬

استلمَ‮ ‬الطريق‮.. ‬أدرك أنه تأخرّ‮ ‬عن القطيع المرتحل كثيراً‮. / ‬القطيعُ‮ ‬بعهدتهِ‮/.‬

حزَّ‮ ‬في‮ ‬نفوسنا‮ ‬– نحن والاخرون‮ ‬– أن نعيش ما جرى،‮ ‬أن نشهد ما شهدنا،‮ ‬كأننا‮ … ‬نحنُ‮ ‬من قفزْ،‮ ‬من هجمْ،‮ ‬من استلم الطريق‮…‬

مشاركة