قصة قصيرة
جراحات الماضي
في ليلة شتاء باردة.. والمطر ينزل بغزارة والرياح شديدة.. والمياه غمرت كل شيء الشوارع والبيوت والحدائق.. والساعة قاربت على منتصف الليل.. وخلت الشوارع من المارة.. سوى بعض السيارات التي تمر بين الحين والاخر.. وقفت قمر عند مظلات احد البيوت وقد ابتلت ملابسها.. ورغم وقوفها تحت المظلة الا ان الرياح تدفع المطر ليرشقها بين الحين والاخر.. وهي ترتجف برداً.. وكانت حاملاًَ بشهرها الثامن.. وكانت الافكار تتلاطم بمخيلتها فلا تدري الى اين الذهاب واين المستقر .. وكان عمرها لا يتعدى الخامسة والعشرين وعلى جانب كبير من الجمال والحلاوة.. ودمث الاخلاق.فكانت من ذلك النوع المهضوم المحبب الى النفس وتدخل القلوب بلا استئذان.. ولا تعرف هل لجمالها او لحلاوة لسانها وكمالها.
وكانت تحادث نفسها وتقول : هل اذهب لاهلي وماذا اقول لهم.. بعد ان ارغمتهم على زواجي من عبد الرحمن.. وقال والدي اذا تزوجت لا رجعة لك الى هذا البيت..
مع ان كل محاولاتها بالصلح مع والدها باءت بالفشل وامتنعت عن زيارتهم ماعدا والدتها التي كانت تزورها خلسة.. بين مدة واخرى وعادت تحادث نفسها.. والدي كان على صواب ما كان علي الزواج من رجل متزوج واكون له زوجة ثانية.
وكانت عيناها ترقب الشارع عسى ولعل ان تمر سيارة اجرة لنقلها.. ولحظات وشاهدت ضوء سيارة مقبلة.. فتركت مكانها واتجهت صوب الشارع حتى يراها السائق لان الظلام كان حالكاً.
وتوقفت السيارة لها، وكانت سيارة خاصة وفتح لها الباب وسالها الى وجهتها.. فقالت له: اذا ممكن لشارع فلسطين.. فقال لها : اصعدي وركبت السيارة وانطلقت بها.. والسائق يناولها مناديل ورقية لتجفف نفسها.. واستقر رأيها ان تذهب الى بيت شقيقتها (وفاء) فهي الوحيدة التي بامكانها اللجوء اليها.. لما بينها وبين وفاء من ترابط وتفاهم دون سائر اخواتها.
وتفاجأت وفاء من حضور اختها بهذا الوقت المتاخر من الليل وبهذا الجو الممطر.. انها لم تحادثها بالامر وانما تلقتها بالقبلات.. وطلبت منها الذهاب الى الحمام لاستبدال ثيابها.
ولما استقر المقام بها مع اختها سالت وفاء اختها عما حدث لها.
فقالت قمر : لقد تغيرت سلوكيات عبد الرحمن معي.. رغم اني كنت حريصة على سعادته وراحته.. واعطيته من الحب ما يكفي الدنيا.. ولم ابخل عليه بشيء الا انه بد يغيب عني اياماً وليالياً ويتركني لوحدي وكان يمنع علي الاتصال به عندما يكون مع زوجته ولقد كان يبرر غيابه لمرض زوجته.. ولكن استمر على هذا المنوال كثيراً . وبدى لي انه يختلق الاعذار والاكاذيب ليغيب عني.. كما اصبح جافاً في معاملته معي .. وحاولت بكل جهدي ان اعرف السبب. ولكن لم استطع..
ثم سكتت والدموع في عينيها.. واختها تستمع لها وباصغاء شديد.. ولم تعلق على كلام اختها بشيء الا انها ولما طال صمت اختها سالتها : وماذا بعد.؟
فقالت قمر وهي تكفكف دموعها : لقد كان غائباً منذ اربعة ايام وانا كل ليلة اكون بانتظاره .. واجهز العشاء له الا انه لم يحضر.. وفوجئت اليوم بحضوره مع زوجته وهذه اول مرة اصادفها وجهاً لوجه.. وانهالت علي بالسباب والشتائم وهو واقف دون ان يحرك ساكناً.. وطلبت مني ان اغادر البيت وان ورقة الطلاق ستصلني وكنت انتظر منه كلمة او ان ارى على محياه ما يجعلني ارد على زوجته الا اني لم اجد ما يشجعني على ذلك فكانت صدمتي به كبيرة وهذا ما لجم الكلمات في فمي ولم انطق بكلمة.. سوى اني اخذت عباءتي وخرجت.. ولم اقل له غير كلمة واحدة فقط…
ثم سكتت .. وسألت اختها مجدداً: وماذا قلت؟ فقالت قمر : قلت له لقد غررت بك فكنت اعتقد انك رجل..
ثم ابتسمت وفاء وقالت لاختها: انت تعلمين ان زوجته مهيمنة عليه باموالها، وان البيت والسيارة والمال ملك لها، وهو لا يملك شيئاً منها سوى مجهوده بادارة هذه الاعمال.. وان زاوجه منك لم يكن حباً بل نزوة عابرة، والان انتهت هذه النزوة.. وعليك انت لوحدك ان تدفعي الثمن لانها كانت ارادتك ورغبتك.
فاجابت قمر وقد نهضت واقفة وهي تطبق على شفتها باسنانها : اجل كانت هذه رغبتي وارادتي ولهذا سادفع الثمن.
وتوالت الايام على هذا الحديث.. وقمر في بيت شقيقتها حتى رزقها الله طفلاً رائعاً اخذ من امه وابيه كل جمالهما، وقد اسمته (ناجي) وقد وصلتها ورقة الطلاق مع كافة حقوقها الزوجية وتم كل ذلك بصمت ودون ان تلتقي بزوجها او يرى هو ابنه.
وما هي الا اشهر معدودات حتى عرفت ان زوجها قد اخذ اسرته وغادر البلد ليستقر بهم المقام بدولة بعيدة جداً عن العراق.. وبقيت هي تعتني بطفلها وتكرس له كل حياتها.. ولكن الجرح كان عميقاً في قلبها وما كانت تدري ان الانسان الذي احبته واخلصت له سيغدر بها.
وبعد اكثر من سنة تقدم شخص لخطبتها ولم يكن ذلك الخطيب سوى صديق زوجها.. وكان عذره انه يريد ان يصلح ما اخطأ به صديقه الحميم.
ورفضت الامر بشدة، ولكن تحت الظروف القاهرة التي مرت بها رضخت للامر الواقع، وتم الزواج بينهما وانتقلت الى دار الزوجية الجديد، وبعد سنوات طوال رزقها الله ولداً وبنتاً اخوة لابنها من الزوج الثاني وفعلاً كان ذلك الرجل خير عونا لها لتخطي ازمتها.. وجراحات قلبها.
ورغم كل ذلك بقي هناك شرخ كبير في اعماقها اسمه عبد الرحمن فلم تستطع نسيانه او كراهيته رغم كل الذي حدث.
محمد عباس – اللامي
AZPPPL