قصة قصيرة
الحمامة البيضاء
عندما أستعيد ذكرياتي وأقلب أوراقها أرى حشدا مزدحما من الصور .. يصعب علي تمييزها ولكنني عندما أبحر بسفينة المجتمع فسأصطاد صورة من هنا وصورة من هناك لأكتب قصة من هذه الصور ..
وما قصة الحمامة البيضاء إلا واحدة من تلك الصور …
كان عبد السلام موظفا مرموقا في إحدى دوائر الدولة مستقيما في حياته الخاصة والعامة نزيها مجدا مخلصا في العمل . ومن الشخصيات المعروفة .. الواثق من نفسه…
تزوج من حنان في عمر الربيع شابة جميلة حسنة الصورة باسمة لطيفة من فلتات الطبيعة كانت متعلمة ربة بيت ماهرة شديدة العناية بترتيب ونظافة بيتها .. أنجبت له ولدا وأبنتين .. تزوجت البنات ..
واستمر مؤيد في مواصلة دراسته فأكمل الثانوية وكان ذكيا وجذابا .. غير أن شعوره بكونه فتى جذابا كان يملأه زهوا واعجابا بنفسه .. كان يعتني بهندامه وبأناقته ومظهره العام عناية بالغة .. تغلب على تصرفاته اللياقة والكياسة .. سلوكه مع أغلب الناس تقريبا على درجة واحدة من اللطافة والدماثة ..
كان يحب كل الناس ..
تعارفنا في الكلية الطبية .. واستمرت علاقتنا طيبة حتى تخرجنا منها سوية فأضحى طبيبا في المستشفى الجمهوري . في باب المعظم قسم الباطنية وأنا في قسم جراحة العظام..
مضت الأيام تلو الأيام والشهور بعد الشهور ونحن نعمل بجدية عالية .. نلتقي كل صباح في المستشفى لاحظت عليه علامات وراءها سر خفي .. فابتدرته بالقول
هل من جديد في حياتك ؟
إرتبك بادئ الأمر لكنه استدرك قائلا
نعم … يا عزيزي أحمد .. تعرفت على ممرضة تعمل في الردهة التي بعهدتي .. ترعى مريضا .. وكانت نشطة الحركة .. تتابع المرضى بلا كلل أو ملل .. أحببتها من النظرة الأولى .. أحببتها بعنف .. وأحس بدافع لا شعوري يجذبني نحوها ..
قلت له
تمهل ولا تتسرع .. أعرض الأمر على والديك أولا . وأجمع المعلومات المطلوبة عنها متيقنا من كل شيء بالدليل قبل أن تتقدم .. أجابني بأدب وشفافية
رأيك مصيب .. وسأعمل به ..
عرض الأمر على والديه برغبته من الزواج بفتاة تعمل _ ممرضة معه أسمها سوزان في العشرين من عمرها صورة من بديع الحسن يشع النور من عينيها الواسعتين وجمال وجهها لم يكن منطقيا بل كان غريبا كالحلم أو كفكر علوي لا يقاس ولا يحد ولا ينسخ بريشة المصور .. ملابسها البيضاء الجميلة النظيفة حولتها الى حمامة سلام وديعة .. كل ما فيها بديع وتبارك الله أحسن الخالقين ..
دهش الوالدان .. واستغربا الأمر .. وردا عليه بعنف
كيف تتورط بممرضة ..كيف نواجه الناس .. ونقول لهم الدكتور تزوج ممرضة
وأردف الوالد قائلا
هل غرك جمالها ؟ ولماذا هذه العجلة يا ولدي ؟
أجاب مؤيد أباه بكل أجلال وأدب
إن الأســــــــلام لا يمنع مثل هذا الزواج لأن عملها إنساني وشريف .. ألم تعلم ياسيدي وأنت التقي المثقف إن نسيبة الأنصارية وغيرها كانت تداوي جراح المسلمين في ساحات الوغى مما خلد أسمها في التاريخ العربي الأسلامي. ولكن عالمنا الأنساني عالم شديد القسوة .. أو ليست هي من ملائكة الرحمة .
واستطرد مؤيد حديثه مع والديه بهدوء
إن عنوانها المهني sister) ومعناه بالأنكليزية أخت فياله من معنى .. يحمل الحنان والشفقة والعطف والود وكل معاني الانسانية الرفيعة ..
هـــــــــدأت العاصـــــفة .. وأبدى الوالدان موافقتهما وقناعتهما برفق وعطف ..
وفي صباح اليوم التالي .. إلتقينا كالعادة رأيته فرحا يحمل أمرا سارا..
بادرته .. ما الخبر ؟
بشرني قائلا
تحقق أملي في الحياة .. وافق الوالدان على تحقيق رغبتي .. وهكذا انتصرت ارادتي لسمو هدفها ..وأردف مكملا قوله
والخطوة الثانية .. تحققت وتأكدت من سلامة موقفها من كل الوجوه .
إذن فلنتقدم لخطبتها ..
قال
أرجو أن يكون ذلك في عيد ميلاد أمي الحبيبة ..
مضيفا أن هناك ضربا من الحب أسمى وأخصب وأبعث للسعادة أحق بالخلود .. هو حب الأم فأنا أسعد مخلوق فقد ولد لي القدر أما لا مثيل لها من الحنان والرعاية
فقررت الزواج في عيد ميلادها ..
وفي ربيع تجددت لقاءات زهوره حاملة بين طياتها عبقا سحريا يفوح أريجا وشذى والكل يبدو منشغلا بالحياة الجديدة .. وقد نفض الجميع وثار الشتاء الثقيل وتلحفوا بغطاء الطبيعة المورق وبسطوا الفراش الأخضر في كل مكان .. وفي مساء ربيعي مفعم بالحياة جرت مراسيم زواج مؤيد من سوزان والفرحة تملأ المكان .. والبهجة تطفح على الوجوه .. أقبلت الحمامة البيضاء كزهرة بيضاء يانعة من أزهار الربيع الى دار مؤيد ضمهما بيت واحد كأنه عش متين تصدح بهديلها في ربيع الحياة لا ترى من حولها إلا خضرة ونضرة وتغريدا وترنيما في ظل شجرة الأم الوارفة بالحب والحنان .. وأقيمت حفلة زاهية حضرها الأقارب والأصدقاء ..
زرته عصر اليوم الثاني .. هنأته وقدمت هدية مناسبة .. لاحظت الأمور تسير على ما يرام .. الجميع تغمرهم الفرحة والمسرة ..
مرت أشهر معدودات .. جاءني مؤيد يعتصره الحزن والأرتباك وحدثني قائلا
إن الزمن ينهب الأعمار .. وعجلته تطوي الليل والنهار دون أن يشعر بها أحد من الناس .. فأرى أن الموت سيطوي سجل والدي من عالم الأحياء.
أجبت بفزع ما الذي تقوله ؟ ما ذا حصل للوالد ؟ صمت لحظة ثم أردف بلهجة يشوبها الحزن في صوت مبحوح
إن حالته الصحية سيئة جدا .. وقد ساءت في الفترة القريبة ..
أسرعت معه لنقل والده الى المستشفى لأجراء الفحوصات والتحليلات المختبرية اللازمة .. تبين أنه مصاب بمرض خبيث في جهازه الهضمي .. وحالته خطرة جدا .
ساد صمت رهيب .. وللتخفيف من الموقف الكئيب قلت
صبرا جميلا .. والله المستعان ..
رقد أبو مؤيد في المستشفى أياما قلائل حتى طوى الموت سجله من عالم الأحياء .. وهو في الخامسة والخمسين من العمر .
حزن مؤيد ولبست أمه وزوجته ثياب الحزن .. فهو عزيز عليهم ويحتاج الى فترة من الزمن ليتغلبوا على أحزانهم .. فوقع المصاب أشد من أن يوصف .. كانت مشاركة الأصدقاء والأقارب في المشاعر عاملا مساعدا في التغلب علة ما يعانونه من اٍسى .. ولمواصلة الحياة ..
أخذت أتردد على صديقي بين فترة وأخرى لشد أزره ولمعاونته على تجاوز المعاناة .. وأتحدث معه عن الحياة والموت .. وعن دور كل فرد في الحياة .. وعن الدنيا التي لا تدوم لأحد .. وأستحثه على الحديث عن شؤونه وشجونه
كيف أصبحت في مواجهة حياتك الجديدة ؟
فيقول لقد ثقلت علي أعباء الحياة .. وتسلمت مسؤولية العائلة فأرد عليه مهدئا
ينبغي أن تظل قوسك متينة وأن تشتد سواعد يديك من خلال رسوخ أيمانك بالله وثقتك الوطيدة بنفسك .. وفسيح الأمل بها وبأصدقائك جميعا ..
يجيبني بثقة عالية هذه المرة
حقا إن أثقالي جعلتني أقوى وزرعت في نفسي صفات أهلتني للمستقبل .. وسأتغلب على المصاعب والمتاعب بأذن الله
وفي بداية العام الدراسي .. أخبرني مؤيد بأنه شجع زوجته لأكمال الدراسة المسائية وبمساعدة أمه التي وقفت بنبل الى جانبه بتحمل المسؤولية وتخفيف الأعباء المنزلية عن زوجته والأشراف على تربية الأطفال ..
واصلت سوزان دراستها واجتازت المرحلة الثانوية بتفوق .. فمهد لها زوجها الطريق معبدا مذللا .. يشجعها ويطري لذكائها مما أمدها بحافز كبير دفعها على المضي في الدراسة والنجاح .. فواصلت الدراسة الجامعية وأضحت طبيبة تعمل معه في ردهة واحدة … فرحت الأم .. وسارت الأيام … فمرضت ونقلت الى المستشفى ومن ضمن فريق العمل الطبي لأجراء عملية لها شاركت الدكتورة سوزان بملابسها الملائكية البيضاء .. شفيت الأم بعناية إلاهية .. فشكرت الأطباء .. وبوجه مشرق وابتسامة وضيئة احتضنت سوزان وقبلتها قبلة المحبة الصادقة والحنان .. وقبل مؤيد يدي أمه .. وهمس في أذنها أرأيت الحمامة البيضاء ترفرف بأجنحتها وتحط في عشها المأمون في شجرتك الوارفة المثمرة أحلى ثمر . لقد أضفت على الدار نورا أبيضا وحياة سعيدة . قالت الأم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
محمد السيد ياسين الهاشمي العمارة
صالح خريسات عمان
/7/2012 Issue 4254 – Date 18 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4254 التاريخ 18»7»2012
AZPPPL