قصة قصيرة (1)
الراقص والطبال
دخل ايمن المقهى التي اعتاد ان يقضي اكثر اوقاته فيها متنقلا بداخلها مرة على هذا الكرسي ومرة على الاريكة فالمقهى دائما تغص بشباب وشيوخ المحلة من الذين لا عمل لهم.. منهم المتقاعدون ومنهم من تم الاستغناء عن خدماته لكبر سنه وعجزه وآخرون من اخذتهم الشيخوخة في ركابها.. اما الشباب فانهم من اللذين لا عمل لهم ويوجدون في المقهى عسى ولعل يأتي احدا ويطلبهم للعمل في البناء او يريد حدادا او نجارا.
وغيرها من المهن فكلهم اصحاب مهن ولكنهم بلا عمل وليس لديهم الامكانات المادية للعمل لحسابهم الخاص وكان ايمن من اولئك الشباب الذين لا عمل لهم.. رغم محاولاتهم اليائسة بالتطوع على الحرس او الشرطة.. وهما الوظيفتان التي يمكن ان توافر لهم لقمة العيش ولكن لا سبيل الى تلك الوظائف الا بدفع اوراق مالية كبيرة ومن الفئة الامريكية حتى تتمكن ان تدخل هذا السلك او ذاك. فكان ايمن يجلس تارة عل الارائك التي اصطفت على الشارع امام المقهى او بالاحرى على رصيف الشارع بانتظار الفرج وكان عبوسا عصبي المزاج بعد ان اشتدت عليه الامور (وتخلبص) عليه الغزل.. فلم يعد يعرف ماذا يفعل وقد اغرقته الديون وزوجته على وشك الولادة وهو لا يملك من حطام الدنيا غير ما يلبسه وما ينام عليه مع انه لم يتجاوز الثانية والعشرون من العمر.. وما هي الا لحظات حتى نادى عليه ابو نور وقد اجتمع حوله الشباب وهو رجل كبير قد امتلأ شعره بياضا وكان ذا وجه نوراني ضخم الجثة قليلا حلو اللسان سريع البديهية عشائري لديه المام كامل بالامور العشائرية والانساب.
وكان متحدثا لبقا وكثيرا ما كان يجمع حوله الشباب ليقص عليهم حكاياته وقصصه والتي كان دائما يربط احداثها بموضوع معين.. يريد الحديث عنه فنهض ايمن من مكانه واتجه صوبهم فقال له ابو نور:
– تعال اجلس واسمع هذه القصة
فاجابه ايمن
– وكلنا اذان صاغية يا شيخنا الجليل
وجلس ايمن مع الجالسين والابتسامات تغطي وجوههم… وعيونهم شاخصة حول ابو نور يقص عليهم حكايته الجديدة.
فقال ابو نور: بعد الصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه اجمعين.. بلغني يا اولادي الاعزاء من كتب التاريخ.. ان في قديم الزمان وفي عهد من عهود بغداد حيث كان الجميع يسعون لكسب عيشهم ان رجلا كان له صديق حميم لا يكاد يفارقه واعده اخا له فكانا يجوبان القرى والمدن بالبحث عن عمل دون جدوى فقررا ان يعملا بالتجارة ولحسابهما الخاص وباشرا العمل بجهد واخلاص فاصابهما النجاح والتوفيق والكسب مما جعلهما يتوسعان بعملهما ولكن سرعان ما لفتا الانظار اليهما من الحساد والطامعين فاخذوا بمحاربتهما من جهة ومن جهة اخرى اخذوا في بيع ما يبيعانه وباقل مما جعلهما ذلك ان تبورا تجارتهما واصابتهما الخسارة فعدلا عن هذا العمل ومرت ايام اخرى وهما يبحثان عن عمل جديد.. وكانا كلما بادرا بالعمل حتى يصادفهما ما صادفوه في المرة الاولى فاغلقت الابواب في وجوههم واسودت الدنيا في عيونهم ولا يعرفان كيف الخلاص من هذا النحس الذي يلاحقهما واخيرا قررا ان يعملا عملا يخجل الاخرون ان يفعلوا مثله.
وقررا ان يمتهنا ما يدخل النفوس بهجة وسرورا وان يكون واحدا منهما (رقاصا) والآخر (طبالا) واخذا يجولان بين القرى والارياف طولا وعرضا بعرض نشاطهما الجديد.. واصابا النجاح في عملهما الجديد وانتشر خبرهما واصبح الناس يطلبونهما واينما ذهبا يلقيان الترحاب والتكريم.. وانهالت عليهم الدنانير وعاشا بنعيم العيش وحمدا الله على حسن حالهما ولكن سرعان ما كانوا يسمعان ان جماعات اخرى يفعلون فعليهما وانتشر خبرهم بسرعة البرق وقد تغلبوا عليهم بما ادخلوه على عملهم من فنون جديدة.. فلم يعد احدا يطلبهما او يلتفت لهما.. واصبحا من جديد بدون عمل.
ومرت بهما الايام وهما على هذا الحال ولما يأسا من الحصول على عمل قررا ان كل واحداً منهما يذهب للبحث عن عمل له منفردا.. عسى ولعلهما يصيبان هدفا لاصلاح شأنهما فذهب كل منهما في اتجاه مغاير لصاحبه والالم يعصر قلب كل منهما لفراق صاحبه وتعانقا وتعاهدا على الاجتماع من جديد عندما يريد الله لهما ذلك.
فذهب الاول باتجاه المدينة بينما الثاني اتجه الى البساتين باطراف تلك المدنية.. ولما وصل الى هناك جلس ليرتاح تحت اظلال اشجارها وغلبه النعاس ونام برهة واستيقظ على اثر صراخ مدو لامرأة طالبة النجدة فهب مسرعا باتجاه الصوب فوجد شابة سبحان الخالق من جمال لا يوصف وقد كسرت ساقها اثر سقوطها والذئاب تحوط بها فما كان منه الا ان يغير على تلك الذئاب بعصاة وبعد عناء شديد استطاع خلاصها من تلك الذئاب.. وحمل الشابة الى دارها وقد هزت اوتار قلبه لما فيها من حسن وجمال بينما هي الاخرى قد وجدت فيه الوسامة والشجاعة مما دخل قلبها دون استئذان منها ولما وصل بها الى دارها عرف انها لم تكن سوى ابنة والي المدينة.
فكان موضع الحفاوة والاكرام لانقاذه تلك الفتاة وبقى في ضيافة الوالي الذي هو الآخر قد وجد فيه الكياسة والادب والقبول فقربه اليه وطلب منه ان يبقى في الدار ابنا معززا مكرما ولما كانت البنت وقد احبته حبا جما صارحت والدها بما في قلبها وهكذا تم زواجه منها بعد ان بارك الوالي هذا الزواج وجعل منه مساعده الاول والخليفة من بعده.. وعاش في قصر الوالي سنوات ينعم بنعيمهم ويحكم بحكمهم.
محمد عباس اللامي – بغداد
AZPPPL