قصة قصيرة .. صدى أغنية قديمة

قصة قصيرة .. صدى أغنية قديمة

 عبدالأمير المجر

عشر سنوات قضيتها في اقفاص الأسر، وصدى تلك الأغنية الشجية يرافق خلواتي ويسكن لياليّ الموحشة .. ابكي وابتسم لوحدي، لكني متيقن من كوني عاقلا وليس مجنونا .. يشغلني سؤال صعب هو؛ هل التقي صديقي القديم .. ؟ ………………..

كثيرون، حذروني من ترددي عليه ومجالسته، بينما قطع اصدقاء لي علاقتهم بي بسبب تلك العلاقة التي بدأت بأقل من خمس دقائق في اليوم الواحد قبل ان تطول بعض الشيء حتى صرنا نتسامر لوقت متأخر من الليل، وسط استنكار الجميع وازدرائهم سلوكي هذا …

يعرفه الجميع جشعا مرابيا، يمتلك الكثير من المال والأراضي، فض الطباع سيء الخلق، وكثيرا ما أساء لأناس وتسبب لهم بمشاكل .. ترى ماالذي يعجبك فيه؟ .. هكذا قال لي أحد الأصدقاء وهو يضع عينيه بعيني ويكلمني بعصبية .. وأردف كلامه بإتهام خطير آلمني؛ ربما سحبك لمنطقته .. ياللأسف!

عندما بدأت أعي الحياة صغيرا، وجدت اسمه يغطي مساحة القرية الكبيرة التي اسكن ويتجاوزها ربما لما هو ابعد .. سمعت من الناس كلاما كثيرا عنه، حتى صرت اخاف التقرب منه أو المرور من قرب بيته الكبير الذي اكتسح مساحة واسعة من الجانب الغربي للقرية.. وحين تقدمت في دراستي تمنيت لو احصل على وظيفة تجعل لي بيتا كبيرا كبيته! حكايته شغلتني، لاسيما حين قيل لي إن أباه توفي وهو ابن ثلاث سنين وتركه لأم تزوجت من رجل فقير لم يجعل حياته يسيرة فضلا عن اساءته اليه وضربه بين الحين والآخر، لكنه كان (شاطرا تلبّسه الشيطان) كما وصفه لي احدهم، وهو يحدثني عنه يوما، لقد صار يشتري الدجاج صبيا، من القرى ويبيعه في المدينة قبل ان تتطور تجارته الى المواشي حتى وصلت الى شراء مطحنة نصبها اعلى القرية، ليصبح احد الأسماء الشهيرة، بعد ان تزوج وبات له بيتا كبيرا.

نفور الناس منه، جعلني اقف كثيرا اتأمل في هذا الكائن الذي لايوجد شيء يوازي شتائمهم له سوى حاجتهم اليه، اذ يقصدونه في مطحنته او محاله الأخرى .. ولم تجمعهم به يوما مناسبة اجتماعية .. شعرت بشيء من الدهشة حين مررت به يوما، وكان يجلس مساء لوحده في فناء داره الواسعة .. كان يستمع لأغنية شجية احبها أنا! شعرت بشيء من النشوة حين عرفت ان صوت المغني ينبعث من مسجل وليس من الراديو .. هل يحب هذه الاغنية حقا وخزنها ليسمعها بإستمرار؟! كلمت نفسي وحين عدت مرة اخرى في اليوم التالي وجدته يستمع للأغنية الشجية نفسها التي تذكرني بأمي وتطلق لدموعي العنان .. اقتربت منه وسلّمت عليه .. وحين دعاني للجلوس قربه ترددت قبل ان اجلس وانا اتحدث معه عن الأغنية .. شربنا الشاي معا، ورغبت ان اسمع رأيه بها ولماذا يحبها .. او لماذا يكرر سماعها..

هكذا بدأت علاقتي به .. وحين غاص بي الى اعماقه صرت ارى صورا اخرى تمور بداخله حبيسة منذ سنين طويلة، وحين يستمع لتلك الأغنية تنط من اعماقه تلك الصور على شكل دموع … كثيرا ما كان يحرص على ان لايراه احد وهو يبكي .. لكن حين عادت بنا الأغنية الى مراتع الشجن البعيد بكينا معا! … لم تعد الدقائق كافية لنعرف الكثير عن بعضنا .. او عن جشعه الذي بدأ مع اول ارتعاشة خوف عاشها في حياته وهو الأعزل من أب يقبّله ويحنو عليه او أم ترد عنه صفعات الزوج الغريب ..

حاولت أن اوسع من مساحة اهتمامه بالأغاني لكنه ظل يصر على تلك الاغنية يسمعها ويبكي ثم يشعر بالراحة وينطلق، ليعود الى ديدنه القديم .. جشعا يحب المال ويقبل على الحياة بنهم الخائف .. اغنية اخرى شجية جلبتها معي واسمعته اياها .. وحين قال؛ رائعة، وهو يهز رأسه والدموع تتناثر من مآقيه، ايقنت انني ثقبت خزان القيح الذي بداخله ووسعت من مساحة اللقاء، وايضا من مقدار الشتائم التي سأتلقاها من الآخرين .. وحين غبت عنه لأكثر من يومين وجدته مشتاقا لرؤيتي وايضا يسألني عن جديدي من اغاني الشجن … اخذت اغوص معه واستخلص من اعماقه اشياء كثيرة . شعرت كما لو اني وسط منجم من معادن مختلفة صدئت في اعماقه .. في آخر اجازة لي، بعد ان دخلت الجيش ايام الحرب، التقيته واسمعته اغنية شجيه يخالطها فرح، فوجدته يبكي ثم يبتسم ويهز رأسه طربا، وشعرت برغبته في الرقص والغناء .. او هكذا خيّل لي .. وكانت هذه الاغنية هي ما تجعلني حين استعيدها بداخلي، افرح وابكي في الوقت نفسه .. حتى ظن زملائي في الأسر اني جننت ..!

حين عدت من الأسر توجهت الى بيته .. لم اجده .. كانت هناك حديقة صغيرة في المكان الذي كنت التقيه فيه .. في فناء الدار المطل على الجهة الغربية من القرية الكبيرة .. سألت عنه الصبي الذي كان يسقيها .. نظر لي الصبي طويلا ثم اشار الى حقل من ورود ملونة فيها ..

قال؛ اوصاني جدي حين اشتد به المرض وقال حين يأتي صديقي ولم يجدني، ليجلس وسط هذه الحديقة وليقطف وردة من تلك الورود ويشم عطرها وسيستمع لأغنية شجية لم يسمعها من قبل .. قل له لايبكي لأني اريد ان اكمل معه ما تبقى من حديثنا !

مشاركة