قد خلت الأكمام من ثمراتها – علي الجنابي
صديق لي توقاً وبالشوق وبعد غيابٍ زارني. كان قد جاورني سنين بمقطنٍ أجرته آنئذٍ مراراً وأجارني. سنده في النوائب كنت وعند المصائب كان عضدي الذي أعانني. وفياً كنت لوده وكان صفياً لخلتي وصانني. أميناً كنت لعهده وكان يرد عني بظهر الغيب وما خانني. أبوح له بالمثقلات من سري فبئرنا واحد وهو برصيد إسراره أسارني. لا أستدين منه ولا دين بيننا فكيسنا واحد ولا هو أعارني. يسبل جفنيه تبسماً إن أغضبته وما أغضبني يوماً أو استثارني. يسدل كفيه ضاحكاً إن شتمته وما ردني بمثلها أبداً أو أدانني، ولو شاء لفعلها وحلق بكفه فوق رأسي فأغارني، فقد كان ذا كف ثخينٍ عاصفٍ متينٍ، وقاصفٍ برنين ولو شاء برجفةٍ منه واحدةٍ عن يمينه إلى شماله لأدارني، لكنه ما همزني وما لمزني يوما وما شانني.صديقي هذا معمار، أزه حبل المودة فتلفن يلتمس إذن استجابةٍ إن زارني، فرد عليه توقي بمسرةٍ وبشوق إليه ضانني:لك ذاك، ونزلت سهلاً يا عطراً من أولين ويا لسعدي أن التقيك، هلم الي لأفضفض ما يعتريني وتنفض عنك ما يعتريك، هلم فسقياك نبض خافقٍ وحنان مني هو لك الوسادة والأريك. وشجون عبراتي ما أفرزت من بعدك شهداً وإن الشهد ليشتهيك. وجفون نظراتي وظلالها تتشوق لوجه باسمٍ ثغره فيك. وعيون قهوتي ودلالها تتحرق حفاوةً إذ تناديك. فيا له من نبأٍ! فعجل أيها السمين وتحرر من شراكك ومن ماسكيك. فأتى..
فتجاذبنا حثيثاً طرف حديثٍ عقيمٍ أليمٍ، وتركنا حديثاً بهيجاً عن ذكريات لنا بلا مليك. إذ حبس صديقي صدره ثم عبس فنبس فكبس؛ كيف أنا وبغداد وما مر ههنا من عجاف سنين، وقد بلغت قلوبنا الحناجر وسأم منا حتى الأنين. أفتراني يا صاح راحلاً غرباً ومفارقاً للبلاد ولطهر آباءٍ وأجداد ولنهر بغداد وحرف خالتي (بسعاد) الحنين. أم أراني معانقاً فكر أوغادٍ وذكر إفسادٍ بالحاد وترف حالة إبعادٍ سجينٍ، أم تراني مفارق لذيذ شتائم من مثلك يحسبها الجاهل عن حقدٍ دفين، أنى لي أن أفارق أيام الصبا بالرياحين. أحق القول علي أن أقلي نواقيس رمضان ونواميس «حمدان»، وقراطيس «خلدونيتي» وكراديس نخلتي وما أظلتْ من زيتونٍ وتين. ذلك لعمري رزْء جلل وجزء بعلل، غير أني يا صاح مللْت دوامة العنكبوت في بغداد وشراكه، وكللْت حوامة فلكٍ من فتنٍ بطنينٍ. قد قضي الأمر يا صاح ههنا وانتصر الثعلب المهين وأمست بغداد كرةً تتقاذفها صوالج السلاطين.تسهدت فتنهدت ثم شددت أزري ثم رددت، أفصح يا سمين:
أجئتني مودعاً بحنينٍ أم جئت مصدعاً برنين؟ أوجئت مودعاً بعدما ألبسك الناس تاج خبير هندسةٍ مبين، أم أراك أتيت لتستخير فتستبين؟ إنك يا صاح ذو فهمٍ وعلمٍ لا يقربه عمه وما هو بجهالته مسكين، فاسمع مني يا كتلةً سيارةً من دهنٍ ومن بروتين ؛
إن تذكرت الود بيننا لوحت لك؛ «أن ارحل بأمانٍ من الله حصينٍ». وإن تدبرت الجد حولنا صرحت لك؛ « كلا، لا تذرْ بغداد إرثاً لخفاشٍ مقلوبٍ هجين، حاملاً معك علماً وخبرةً ونزاهةً في كبرى المشاريع ثمينٍ متين. ولا حاجة يا صاح لمثلك بتأصيلٍ وتبصيرٍ مني رصينٍ، وتحصيلٍ وتنويرٍ رزينٍ. ولك ما عزمت أخي بعد تنظيرٍ منك يعين وتبريرٍ يقينٍ. ولكن اعلم أن هجرك سيجرح بغداد على ما فيها من جراحٍ بأنينٍ، وستغتم دجلة لفراق رسماتك أيها البغل البدين، وستفتقد بسمات صغيرتك «مروة» بعطر الياسمين، وقسمات أخويها ذوي الشقوة البنين. لعلك ما أتيت مودعاً ولعل ذلك ليس كذلك أيها الواصل لحبلٍ من حنين، لكيلا تخلو أكمام بغداد من ثمراتها أو مما تبقى فيها من ثمرٍ جنين. أما أنا فماكث ولا فراق مع العراق مهما أن أنين وطن الطنين».
المعاني: الرزْء: المصيبة. والجمع: أرْزاء. والصوْلجان: الصوْلج. ومنه: صوْلجان الملْك: عصا يحْملها الملك ترمز لسلطانه. والجمع: صوالج، وصوالجة. المعجم الوسيط