قبل الصعود إلى المشنقة

قبل الصعود إلى المشنقة
في سنة من السنوات وابان العهد المباد.. اعدم قريب لوالدتي بتهمة سياسية هو وثلاثة اشخاص معه.. وفي ليلة تنفيذ الاعدام بهم اتصل بي مأمور السجن.. ليطلب مني الحضور الى السجن المركزي لان ذلك القريب طلب حضوري.. وكنت آنذاك شابا.. والحق اني فوجئت بهذا الطلب.. وليس لدي من الخبرة الكثيرة في التعامل بمثل هذا الموقف.. كما ان الامر ليس بالسهولة التي يمكن ان يتصورها بعضهم.. لاسيما وان المعدوم بتهمة سياسية والوضع انذاك فيه شيء من الخوف بالتعامل مع مثل هذه الحالات..
فكانت الافكار تتضارب برأسي.. وقد حددت لي الساعة الثامنة مساءً للحضور.. ولم يبق امامي الا اقل من الساعة لأكون هناك.. كما ان الوقت لم يسمح لي بالاتصال باهلي واعلامهم بالأمر.. وان فعلت ذلك فاني سأتخأر عن موعد حضوري.. وحينها لم نكن نملك هاتفاً للاتصال.. وحاولت ان اسيطر على نفسي.. وان اطرد الافكار المخيفة من مخيلتي.. ولكن كنت ارتجف خوفاً ولا اعرف ما اخاف منه.. هل من هذا الموقف؟ او من مواجهة شخص سيموت بعد ساعات .. لاادري.. وبكل ما تتلاطم في مخيلتي من افكار وجدت نفسي امام باب السجن.. وسألني الحرس عن اسمي.. فذكرته لهم.. فادخلوني الى مأمور السجن وعرفت انه تم تبليغهم باسمي مسبقاً.. ولما قابلت المأمور.. رحب بي ولما شاهدني المأمور شاباً.. وصغيراً على مثل هذا الموقف.. اخذ يتبسط معي بالحديث.. واعلمني ان قريبي هذا سيتم اعدامه في الساعة الرابعة فجراً.. وانه طلب حضوري وبامكاني المكوث عنده حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً.
وقد تم تفتيشي بشكل دقيق.. وطلب مامور السجن ادخالي الى ردهة المحكومين بالاعدام.. فاخذني اثنين من الشرطة وكان السجن حينها يقف على قدم وساق وقد غص باشخاص يرتدون الملابس المدنية.. ونحن نقف عند بوابه من البوابات المغلقة سأل احد المتواجدين الشرطة عني فقالوا له : مواجهة للمعدومين فما كان منه الا وصفعني قائلاً: هذا جاي على الخونة.. وذهلت لتصرفه و كذلك الشرطيان اللذان كانا معي الا انهما لم ينطقا بشيء الا ان احدهم وضع نفسه حاجزاً بيني وبينه.. وما ان فتح الباب حتى دفعني الشرطي وامامه ذلك المدني الذي بقى يسب ويشتم ويعربد..
ثم وصلت الى غرفة صغيرة لا يتعدى وسعها عن ثلاثة امتار مربعة تقريباً.. وعند فتح بابها وجدت اربعة اشخاص يرتدون ملابس الاعدام الحمر.. ومنهم من يصلي واخر يرفع يده بالدعاء واحدهم يقرأ آيات من القرآن الكريم.. وما ان شاهدني قريبي حتى نهض مهرولاً ليعانقني والسلام عليَّ وكأنني خلاصه بتلك اللحظات.. كما سلم علي الاخرون.. وكان الموقف اكثر من ان يحتمل فاجهشوا بالبكاء وبكيت معهم وكذلك الشرطة المتواجدين حولنا.. وما ان جلسنا حتى راح الجميع يقسم على براءته براءة ذئب يوسف(ع) وانهم مظلومون.. وانهم.. وانهم.. فكانت لحظات قاسية مريرة..واعدوا الكرة عليّ بسيل من الوصايا.. كما ان قريبي اعطاني ساعته لاعطائها لأخته لتبقى ذكراه عندها.. ومنهم من كان لديه امل ايقاف تنفيذ الاعدام .. بقدرة قادر .. ويسألني اهذا ممكن.؟ وكنت اجيبه : ليس هناك شيء بعيد بأمر الله.. وكنت اسال نفسي يا ترى ما هو شعورهم وهم يواجهون الموت بعد ساعات قليلة.. وسألته: ما عندك لتقوله لي؟ فاجابني: لا شيء غير ان اطلب العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى وان لا تنسوني بالدعاء والرحمة، فان قلبي يملأه الايمان والموت حق فهذا لا يخيفني..
وكان يتحدث والدموع كالمطر في عينيه.. وكذلك الاخرون وهم يصلون ويدعون الله بالرحمة والمغفرة.. وقاربت الساعة على الحادية عشرة ليلاً وجاء المأمور برفقته بعض المرافقين.. وليقول: هل هناك من يتسلم جثثكم او نحن نتكفل بدفنها.. فهنا التفت قريبي وليطلب مني ان اتسلم جثته.. فوافقته على استلام جثته. وطلب منه المأمور ان يكتب ورقة بخط يده ويطلب تسليم جثته لي ثم وقع الطلب وناوله الى المأمور.. وهنا تعالى بكاء الاخرين وهم يتوجهون بالكلام لي كيف سأدفن قريبي دونهم.. وطلبوا ان افعل ذلك قربى الى الله تعالى.. فقلت لهم لا مانع من ان افعل ذلك.. وأعطاهم المأمور اوراقاً ليكتب كل واحد منهم ورقة بتسليم جثته لي.. وتم ذلك وطلب مني المأمور ان اودعهم فلقد حانت ساعة رحيلي..
وكانت الكلمات تعجز عما اقوله من رثاء وكنت اقوي من ايمانهم بالله عز وجل.. وان دار الدنيا هي دار فناء ودار الاخرة هي دار البقاء.. وعليهم ان يفرحوا وهم ذاهبون الى من هو ارحم الراحمين.. وما ان هممت بمغادرتهم حتى تعلق بي الجميع يبكون والشرطة تبكي معنا وكأنهم لا يريدون ان اغادرهم وكأني لحظتها خلاصهم ونجاتهم.. او ان بقائي معهم سيخفف عنهم وطأة انتظارهم الموت التي تمر دقائقه مسرعة بالنسبة لهم.. وسحبني الشرطة منهم عنوة.. وبقيت واقفاً خارج الغرفة ريثما تم اغلاق الباب عليهم فوجدتهم قد عادوا الى صلاتهم وطلب التوبة والمغفرة من سبحانه وتعالى..
وعند خروجي اراني الشرطي غرفة الاعدام وكان الظلام دامساً فلم استطع ان ارى شيئاً سوى ان عمالاً او سجناء لا اعلم كانوا يغرفون الماء من غرفة الاعدام ويطرحونه خارجاً.. وما ان غادرت السجن حتى ذهبت لأهلي لاقص عليهم ما جرى معي.. واتصلت بخال لي وحضر معي في الصباح واتجهنا الى الطب العدلي.. وطلبوا مني التعرف على الجثث. وكنت قد احضرت معي اربعة توابيت وتم وضعهم في التوابيت ورفعها على سيارة (الكوستر) وما ان استلمت شهادات الوفاة.. حتى انطلقت السيارة الى مثواهم الاخير ليوارون الثرى.. وبقيت هذه الحادثة عالقة في ذهني لأنها لا تمر بنا الا نادراً.. لا سامح الله.. ولا اراكم الله مكروهاً…
محمد عباس اللامي – بغداد
AZPPPL

مشاركة