قاطرة الألوان – نصوص – جبار هادي الطائي
تبدو جميعُ الألوانِ كأنّها لعبَاً هندسيّة ، مثلّثات ، و مربعات ، و مستطيلات ، و دوائر ، و مكعبّات ، و ربّما متوازيات أضلاعٍ كذلك ، ولأنّها هكذا أرى مشاعرَ الأنسانِ و مزاجاتهِ أشدّ شبهاً بها لا يختلف على ذلك إثنان و لأنَّ الفصول أربعة بمناخاتها و تقلّباتها بينَ بردٍ ، و حرٍّ ، و رعدٍ ، و عواصف ، و أمطار ، و قد تكون مزيجاً بينَ هذا و ذاك أراها ثابتة تارةً ، و متحرّكة تارةً أخرى ، و نحنُ ما بينَ ثبوتها و حركتها نبدو كقشّةٍ تلهو بها الرّياح فنعلقُ مرّة بمربّعٍٍ ، و مرّةً أُخرى بمثلّثٍ ، و ربّما علقنا يوماً ما بدائرةٍ ليسَ لها بداية ، و لا تحدّها نهاية ، فيشتدُّ دورانها لتتّصل نهايتها ببدايتها في نقطةٍ واحدة .
و لأنَّ العصافيرَ تنفضُ عن ريشِها قطراتِ المطر المتساقط بعدَ هطولٍ مستمر ، ننفضُ هكذا أجسامنا عن همومِها بعدَ أن نستريحَ من عناء يومٍ مرهقٍ لنضعَ رؤوسنا على وسائدنا ليبدأ الحساب ، و العقاب بين النّفس و الضمير … أو قد يحلو لنا – نحنُ معشر الشّعراء – أن نطلقَ عنانَ خيولنا عن لجامها لنحلّقَ في أجواءِ الليلِ تلتطم تارةً بنجمةٍ ، و تارة أخرى بكوكبٍ بعيدٍ ، و ربّما تصطدم بجدار القمر لتجدَ مُستقرّاً لها بجوارهِ تجمعُ من رياضهِ ماتشاء من أزهار ملوّنةٍ ، و فراشات حمر ، و بيض ، وخضر ، و عصافير زرق و رماديّة ، وربّما أطلقنا عنان خيولنا عن لجامها في الصّباحِ لتغازلَ بنات الشّمس حتى المغيب ، و هكذا دواليك … فنصطادُ مفردةً شاردة ، أو جملة غاضبة ، فيها من التّأويلِ و التّفسير ما تشتهي النّفوس ، و تشحذُ العقول ، و تعشقُ الأفئدة ، و تفتحُ آفاقاً رحبةً من التّفكير ، فتغرقُ في دوّامةٍ من الخيال و التّصوير ، أو يحملنا الفضول أنْ نمدَّ رؤوسَ أعناقِ أنظارِنا الى ما وراءَ الأشياء لنرى في بواطِنها أعمق ممّا نراه في ظواهرها ، لا لشيء إنّما لغريزةٍ مشتركة بين جُميع المخلوقات – دون إستثناء – يقرُّها البعض ، و ينكرها البعض الآخر من بني البشر دونَ وعي لنكرانه سوى مجانبة الواقع ، و محاذاة الحقيقة … فما أجمل الأشجار بثيابها الخضر ، و ثمارها الزاهية الألوان إلّا أنّها أكثر جمالاً و شموخاً حينما تموتُ وقوفاً …و ما أشجع الأسماك حينما تفرُّ من قيعانِ أنهارها طلباً للجوءٍ سياسي أو حبّاً في التّغيير ، و ربّما إصطدنا يوماً ما سربَاً من السّنونوات في يومٍ غائمٍ فيتيه بعضهنَّ وسط غيمة حبلى غيرَ أنّها لا تمطر سوى ريشٍ مبلّلٍ بالنّدى … و لأنَّ الليلَ و النّهارَ كائنان مختلفان ،متناسلان ،متعاقبان ، متناقضان لا يمتزج أحدهما بالآخر نراهما كَ( قطبي) حبلٍ طويل بدايته في طرف الكرةِ الأرضيّةِ ، و نهايته في الطّرفِ الآخر منها ، يبدوان كأنّهما فئتانِ متنافرتانِ من بني البشر ، لا يشتركان بصفةٍ من الصّفات إلّا إذا شئنا نحنُ ذلك بأنْ نحجب أو نضيء ببثِّ روحٍ مستترة ، فما علينا إلّا أنْ نعلقَ بمثلّثٍ ، أو مربعٍ ، أو مستطيل ، أو دائرةٍ ، أو مكعَّبٍ ، و ربّما علقنا بمتوازي أضلاع كذلك ، فنواري بعدَذلك سيّئاتِنا بأنْ نضعَ رؤوسَنا في التّراب – خجلا ، لا خوفاً – أو نرتدي أقنعةً نخفي وراءها وجوهَنا التي صدأتْ من كثرةِ الإستعمال ، و ربّما نقفُ على جسرِ خطايانا نرمي الى النّهرِ ما درنَ منها واحدة بعدَ الأخرى ،أو ننزل الى قاعِ النّهر نغسلَ ما تبقّى حفاظاً على آخر قطرة في الجبين ، و بعدَ ذلكَ نزعقُ بأعلى أصواتِنا ك( البوَم ) لنسمعَ أصداءِ أصواتنا ترتدّ على وجوهِنا ، وَ ربَّ بلبلٍ شادٍ خيرٌ من ألف بومة لا تسكن إلّا خرائبَ الزّمنِ ، أو بالياتِ الدّهور … فما بالك من نحلةٍ دؤوبةٍ تجمعُ العسلَ ، أو دودة قزٍّ صغيرة الحجم تصنع الحريرَ ، أو زهرة جميلة تعطّرنا بأريجها لنحلمَ فيمتدُّ حلمُنا الى الحقيقة لولا ذلك الخيط الرّفيع لغرقنا في سباتٍِ عميقٍ أشبه ما يكون بسرابٍ ممتدٍّ على طريقٍ ميسميٍّ طويل ليسَ لهُ بداية ، و لا تحدّهُ نهاية ، أو كأنّنا نرتشف كأسَ ماءٍ باردٍ – رويداً ، روبداً – في يومٍ قائظٍ يكادُ حرّه يذيبُ العظامَ ، فودّدْنا لو أنّنا أعدْنا الكرَّةَ ثانيةً …فما كان لنا منها سوى كأسٍ من سرابٍ … هكذا تبدو سنوات عمرِنا بينَ همٍّ ، وَ تعبٍ ، وَ كدٍّ ، وَ عملٍ متواصلٍ ، مناصفةً ما بينَ الفرحِ و التّرَحِ ، أو قدْ يعلو أحدهما على الآخر ، و ربّما عشنا لحظةً ما تصوّرْنا أنّنا مررنا بأحداثِها قبل وقوعها ، أو قد نخلعُ جلودَنا ك(الأفاعي) – يوماً ما – أو نتلوّنُ ك( الحرباء ) ، غيرَ أنّها مسيّرة لا مخيّرة ، فما أتعسهُ و أمرَّهُ ذلكَ الذي شبَّهَنا بها دون غيرها من المخلوقات ، لنشربَ لوناً ، نأكلُ لوناً ، نعشقُ لوناً ، نتناسلُ لوناً ، و نضاجعُ لوناً ، نحملُ قاطرةَ الألوانِ على الظّهرِ كما الأسواطِ و نمضي !



















