قارئ الإنسان

قارئ الإنسان

تماس الواقع بالخيال

“الوجوهُ متشابهة لأنها بسمرةٍ واحدة لم تتلون بغير ألوان الشمس الأرجل تعودت على رطوبة الأرض وخشونتها لقد كانوا حقيقيين تذبلُ الابتسامة عند حزنهم و يفرح الجميع لفرح أي شخص بينهم. الطين الملح الماء القصب واليشن كلها مفردات ما أن انتزعتها من المكان حتى تختفي أهم عناوينه فلا يعود كما كان عليه وقد يتغير سلوك كل من يقبع هناك بمجرد اختفاء كل هذه المفردات”.

تحويل الواقع الواقعي (الواقع المعاش) الى واقع أدبي يتحقق عبر تلاعب الروائي الخيالي بالتتابع الزمني و التناظرات المكانية والبنى الروائية بل وحتى الانظمة الانطولوجية حتى يصل الكاتب الى اعماق القارئ ويُكون علاقة بين ألنص والقارئ احدهم يبدعُ في النص والآخر يدركهُ بعلاقة فنية أبداعية بين مرسل ومستقبل.

يُعرف السرد لغة على أنّه تتابع الأحداث وترابطها وهو مصطلح أدبي يعني تقديم حكايةٍ أو القيام بالقصّ؛ بهدف دفع القارئ لتخيل القصة والتفاعل معها عبر تصوير الأحداث بحبكة الراوي وعندما نقول نصاً سردياً أي أنّه نص مكتوب يعرض الأحداث بطريقةٍ متواليةٍ ومتتابعةٍ.

قارئ الطين المنجز الروائي الثاني للكاتب العراقي حسن فالح صدرت عام 2016م عن دار سطور تضم 277 صفحة تتكون من ثمانيِ فصول من القطع المتوسط كُتبت بدقة متناهية ورمزية عالية كي يوصل المُرسل رسالته الى المستقبل.

يبتدأ الرواية بأهم مقومات السرد وهما عنصرا الزمان والمكان حيث أن المختصون صنفوا الفنون الادبية الى زمانية ومكانية والرواية أحد تلك المُصنفات ألتصاقاً بهذين العنصرين; كل حكاية (الرواية) تحتاج الى زمان لسردها فدارت أحداث الرواية في حقبتين زمنيتين الاولى فترة عاشها العراق ربما اهملها الكثير بالرغم من أهميتها وهي هجرة اليهود وأسقاط الجنسية العراقية عنهم في الخامس والعشرين من نيسان \ أبريل عام 1950-1951 أثر حادثة الفرهود عام 1941م خلال الحكم الملكي المتزامن مع ولادة بطل الرواية (خضوري) عام 1922م وتركهم لبلدهم وهو موضوع حساس جدا أن يتناولهُ كاتب عربي وفي مثل هذه الظروف نتيجة للآراء المختلفة عن اليهود وخصوصا بعد وصف الكاتب لهم بجمالية عالية لا يوجد أقسى من أن تُفنى قسراً تترك قلبك في مكان أحببتهُ تغلغت كُل بقعةٌ فيه الى داخل روحك وسكنتهُ وتجر خطاك محمل بثقل الهموم والتساؤلات التي ليس لها أجوبة لماذا اليهود؟ أنا لا أعرف عنهم الكثير بل وحتى القليل لا أعرفهُ لكن حسن فالح فتح لي باب ٌ من خلال قارئ الطين وهو البحث والقراءة أكثر عنهم أحببت اليهود تمنيت أن يكونوا موجودين الان لماذا تركوا بلادهم من خطط لذلك وأبعدهم وما كانت مصلحتهُ لم يكونوا مؤذيين كانوا مُسالمين محبوبين لبلدهم يبحثوا عن تأريخه بكل شغف يطالعونهُ كشوق متيم بمحبوبتهِ منذ الصغر هكذا تعرفت عليهم من خلال تصوير الكاتب الى احد أهم شخوص روايتهِ; أما الفترة الزمنية الثانية تتمثل بمعلمٍ هاربٍ من الجنوب بسبب حبهِ لصوت كوكب حمزه يترك جنوبهُ بكل ما فيهِ من جمال مُنتقلاً الى الوسط (محسن محمد عبد الهادي) هكذا سماه من زَور لهُ أوراقهُ الثبوتية حتى لا يتم العثور عليه أثناء البحث عن المشتبه في مشاركتهم بالإنتفاضية التسعينية في العراق.

ينتقل الكاتب بين تلك الفترتين بإبداع مميز من خلال توظيف تقنية الفلاش باك أو الاسترجاع الفني الذي يقوم على أنقطاع التسلسل الزمني أو المكاني لأستحضار مشهد أو مشاهد ماضية فنجد أن الرواية تبدأ بـ(الخان) وهو زمن الحاضر للرواية ثم بيت (خضوري) وهو الزمن الماضي لها لتنتهي بمفاجأة للقارئ بين زمني الماضي والحاضر.

يلي الزمان المكان حيث أنه البيئة التي يعيش فيها الانسان وهي التي تعطي الملامح الكافية لتحرك الشخصيات يبدع الكاتب في تصوير الخان (أحد بيوت اليهود سابقا) الذي يديرهُ فاضل شكور وارث أبيه من زوجتهِ الثانية حيث حصل عليه الاخير عندما تركوا اليهود بيوتهم بكل ما فيها ذكرياتهم أحلامهم أثاثهم بل تركوا ما هو أعظم قيمة من ذلك كله أرواحهم المحملة بحب بلدهم نعم بلدهم وأن هُجروا منه فهو لهم يقاسمهم المودة والحب المكتنزين في قلوبهم لهُ يتناول الكاتب الخان وصفاً مُفصلاً ووافياً لهوية المكان الذي تدور فيه الاحداث وأنا أنتقل بين سطور ذلك الوصف نقلني الكاتب الى هناك حيث الخان القديم التي تنفذ قطرات المطر من سقوفهِ وتترك الرطوبة أثارها على جدرانهِ نتيجة للشقوق ربما كانت تلك الشقوق أثار حزن على غياب اصحاب المكان ربما.

يذكر المختصون بأن النص السردي بلا شخصيات لا يعد نصاً بالاصل حيث أنها اساس الحكاية و أصلها الكاتب هنا يجعل القارئ يغرق بين شخوص روايتهِ غرقاً ممتعاً وهو يدخلك في أعماق كل واحد بينهم يخبرك بما يجول في خاطرهم كأنه يبوح للقراء بأسرار أبطالهِ وهو يتنقل من شخصية لأخرى حيث أنهُ أمتلك براعة فنية و رشاقة عالية الجمال في رسم شخصيات روايتهِ فلم تطغى شخصية على أخرى بالرغم من قوة الترابط بين الشخصيات كان لكل واحدة حكايتها في هذا البلد أحببت كثيرا شخصية الجدة (سلطانه) أبدع الكاتب بجعلها رمزا للطيبة والحكمة والأصالة وشخصية خضوري الصبي المحب للتأريخ والذي يختلف كثيرا عن أخويه فطنٌ ذكي كما كانت توصفهُ القريبة الى روحهِ جدتهُ (سلطانه) والتي كانت تتطلع له بمستقبل يحمل له خفايا عظيمة فما كانت توقعاتها؟ سلطانة التي فرضت أحترامها على القارئ كما كان يحترمها ويجلها كل من يعرفها ماذا كانت ستفعل عندما يحين موعد هجرتهم قسراً هل كانت ستترك بلدها بيتها الذي يحمل ذكريات اولادها واحفادها حبوهم ووقوفهم وأول خطوات لهم فيه حتما كانت لها بكل بقعة منهُ ذكرى فهل ستتركهُ؟ ربما كان لموتها رأي آخر لا يختلف الموت كثيرا عن هجرة مكان أحببتهُ كلاهما يُفنيك من الحياة كُرهاً.

الكاتب هنا يكون هو السارد \ الراوي لأحداث روايتهِ بصورة غير طاغية حيث أتاح لشخصياتهِ المشاركة من خلال بعض القصص او الحوار الذي يدور بينهم.

يسرد الكاتب روايتهِ على عنصرين الاول تأريخي يعتمد على الحوادث والاشخاص التأريخية حيث أن الكاتب يسلط الضوء عليها بدقة عالية مما يشير الى تمعنهُ بتأريخ البلد كتعريفهُ للباحث العراقي طه باقر المهتم بشأن الحضارات بربط جميل بينه وبين خضوري كذلك يتطرق الى أصل كلمة (عراق) بشرح وافٍ حادثة الفرهود الانتفاضة التسعينية موت نوري سعيد ونصب الحرية; والثاني عنصر خيالي يظهر لنا الكاتب جمال الجنوب بأهوارهِ طينهِ طيبة وكرم سكانهِ من خلال حصول (محسن ثقافة) على مذكرات (خضوري) المدونة بتأريخ 3\9\1944م خلال فترة عمل الاخير في سلك التعليم بأحدى مناطق جنوب العراق (المشرح) يبدع في تصوير الجنوب بجمالية عالية يجعلك تتنفس الطبيعة تشم رائحة الارض المبتلة الممتزجة برائحة بخور الجدة بسماية تأخذ الجدة خضوري برحلة سحرية الى اليشن (ايشان أعزيزة) و يأخذنا حسن فالح الى رحلة سحرية بخيالٍ خصب بقمة الجمال الى سكان الماء وقراء الطين الاصليين.

 أنك لا تسمعُ الموسيقى

من هذه الشتيمة التي اطلقها احد المتشاجرين يظهر هدف الرواية جليٌ واضح هي دعوةٌ الى الانسانية المجردة من كل الملحقات الى المحبة ونبذ كل سيء عبر الموسيقى بسرد ممتع أخاذ.

في الخامس عشر من يوليو 2017م الذكرى الاولى لإصدار هذه التحفة التأريخية\ الانسانية لأن كاتبها لم يشأ أن يكن شيئا مألوفاً ومشابهاً لغيرهِ فعمل جاهداً على ترك بصمة منهُ في ذهن القارئ فهنيئاً لك تُحفتك الفنية وهنيئاً لنا بك وكل عامٍ وقارئ طينك بإبداع.

زينب علي – البصرة

مشاركة