فنان عراقي يرفض النزول من (الريل) – آلاء عبد الحي

آلاء عبد الحي

ينتفض رعد بركات الموسيقار العراقي المغترب كل يوم في المنافي, ويصوب أنظاره نحو ذلك الوطن البعيد والقريب من وجدانه, يلتمس لأحلامه المعطوبة العذر ويبحث عن ظله الذي فقد في محطات الغربة بعد رفض النزول من الريل, بركات الذي لم تصهره الغربة ولم تروض أبجديته المنافي, يوثق غناءه وفاءآ لذلك الغيتار المعطوب الذي حمله كالحرز منذ طفولته, حيث القى تعويذته على تلك الأنامل الماسية لتفتح بوابات البهجة أمامه, لكن سرعان ما عطبت أحلامه وسيق به إلى جبهات القتال ليفتش في جيوب الموتى عن أمنياتهم وأحلامهم الضالة, عزف على الرشاش ونشج الرصاص فوق الدماء, وعندما أوشت بغنائه خوذته المثقوبة حمل روحه بكفه وهرول بعيدا نحو افق المنافي بعد ان اودع شريانه في واحة داره.

المخذول..
ينقب رعد بركات في غربته عن مفردات عميقة وفريدة ليناغي ظله الهارب في المحطات, حيث وجد ضالته في نصوص اليماني العنيد الشاعر عبد القادري صبري، الذي لم يكن وجوده صدفة في هذا الفضاء الأزرق, فهو رفيق الفنان رعد بركات وخليله في غربته, يترك صبري وصاياه كالنبي المخذول عبر اخر شهقاته ليفنى في قصائده, بعد ان تحولت أحلامه إلى خيبات, حيث يلقي بحزنه الشفيف على وتر رعد معلنا اكتمال نواح المقام.

حلم الريل..
يترجل ظل بركات من الريل ويبحث عن رعده ليكتمل صورة ذلك الجسد المادي, لكن الأعجوبة تكمن في ان أحلامه بقيت عالقة في الريل! ان عودة رعد إلى المورثات الشعبية في إغناء القصائد ما هي ألا بدافع الحنين إلى الوطن, وكأن تلك الأصوات الشجية تعويذات بدائية وشمت على طينه الأدمي, يتوج رعد حلم الريل بأغاني الماضي ومآبين الريل والابل حكايات طويلة لا تمحوها الاقاصي, يبدو ان لرعد عيون عالقات كما أنواط الشجاعة, علقت على أجساد النخيل الباسقات الذي مازالت تحتفظ بنمو طلعها في فراديس الوطن.

هل اكتمل مقام النواح؟

تشهد الأغنية العراقية بالتحديد مخاض مرير, فبين الحين والحين تحدث انقلابات غير مألوفة يسودها الطابع الطربي والإيقاع السريع الراقص, ويرجح ذلك التغيير المستمر في الأحداث وما تشهده الأزمنة من تحديثات على الأصعدة كافة, ولو قورنا بين أغنية اليوم وألامس البعيد لوجدنا اختلاف واضح من حيث الإيقاع اللحني، وتتعدى بذلك إلى نصوص الشاعر التي تعد بدورها البناء الهيكلي للأغنية, إذن للشاعر دخل في تغيير اتجاهات الأغنية, أتسأل هل يمكن للشاعر ان يكون عابر سبيل؟!
كسر رعد بركات القوالب النمطية للأغنية العراقية في صوته الرنان الكورالي فضلاً عن اختياره المفردة المميزة غير الدراجة في قواميس الشعراء, فهو يقتنص النص غير المألوف ويلحنه ويؤديه بشكل مذهل, لم تتربع أغنياته استفتاء الأغاني الأن ولن تحصل على المراكز الأولى, فقد يبدو للكثير من جمهوره ان بركات ترك الغناء وغيبته المنافي, لذلك ان الجيل الحالي من الشباب لم يعرف من هو رعد كون أغنياته لا تحاكي واقع الشباب, فهو ارتقى بفنه واصبح نخبوي ان صح القول, لرعد ماضي غزير بالفن حيث رفد الساحة الفنية بالكثير من الأغنيات الشعبية الراقصة, التي لاقت ترحيب جماهيري في تسعينات القرن المنصرم كأغنية “بيتنا ونلعب بي”, “دكة دكتين”, وغيرها من الأغاني الطربية, ا لاقى رعد نجاحا ساحقآ في بدايته لكن علم فيما بعد ان خطواته مربكة، فتأخذ نهج اخر في تسويق أغنيته الكورالية، لكن للأسف لم يسلط أعلامنا الضوء على هذه الشخصية الفنية الفريدة، فالتفاهة تتصدر المشهد, رعد بركات فنان شامل وصاحب مشروع وطني ورسالة عالمية, لا أجامل حين أقول انه استثنائي في كل شيء.

بينما الشاعر اليمني عبد القادر صبري يستمر في تدوين الحزن, ليجعل منه كتابا سماويا يرثي به الشهداء الذين لم يموتوا, بين رعد وصبري انتفاضة وتهويدة كلاهما عصفت بهمم الأوطان خارج حدود الخرائط, ان وجودهما معآ في عمل فني يخلق ثورة،احتجاج من نوع اخر, فرعد بصوته الفخم الكورالي يروض اللحن والقصيدة, وصبري ذلك العنيد اليماني ينزف قصائده دون ضجيج, انهما يجذفان معآ نحو أغنية جنائزية تليق بمقام النواح.

مشاركة