
غياب المؤسسات الدستورية يعمّق أزمة بغداد وأربيل – فؤاد احمد
رغم مرور نحو عشرين عاماً على إقرار الدستور العراقي الذي أرسى نظاماً اتحادياً يفترض أن يوازن بين السلطات والصلاحيات، ما تزال العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كوردستان تدور في حلقة مفرغة من الأزمات المتكررة.
فكل عام تعود الخلافات ذاتها حول النفط والغاز، والموازنة، ورواتب الموظفين، والمناطق المتنازع عليها، لكن جذور الأزمة الحقيقية تكمن في غياب المؤسسات الدستورية التي كان يفترض أن تُنظِّم هذه العلاقة وتمنع تحوّلها إلى صراع سياسي موسمي.
أبرز الغيابات هو المجلس الاتحادي الذي نصّ عليه الدستور في مواده (65) كمجلسٍ يمثل الأقاليم والمحافظات إلى جانب مجلس النواب، ليكون ركيزة النظام الاتحادي.
إلا أن هذا المجلس لم يُنشأ حتى اليوم، ما أفقد المحافظات والإقليم آليةً دستورية للمشاركة في صنع القرار الوطني، وجعل العلاقة مع المركز عمودية تدار من الحكومة التنفيذية بدلاً من أن تكون شراكة مؤسساتية.
كما أن المحكمة الاتحادية العليا، وهي الجهة المخوّلة بتفسير الدستور وحسم النزاعات بين الحكومة الاتحادية والإقليم، لم تكتمل عضويتها الدستورية منذ سنوات، الأمر الذي أضعف دورها التحكيمي وفتح الباب أمام الحلول السياسية المؤقتة بدلاً من القرارات القضائية الملزمة.
رئاسة البرلمان
في المقابل، يعيش إقليم كوردستان بدوره أزمة داخلية تتمثل في تعطّل انتخاب رئاسة البرلمان وعدم اكتمال تشكيل حكومة جديدة. الحكومة الحالية تُوصف بأنها حكومة تصريف أعمال، أي محدودة الصلاحيات في توقيع الاتفاقات أو إجراء تعديلات قانونية كبرى، مما يجعل قدرتها على التفاوض مع بغداد محدودة من الناحية الدستورية.
هذا الوضع خلق فراغاً مؤسسياً مزدوجاً: في بغداد لم تُستكمل المؤسسات الاتحادية، وفي أربيل لم تُستكمل المؤسسات الإقليمية. وبذلك، تحولت الملفات الخلافية إلى تفاهمات حزبية وشخصية بدلاً من أن تُدار عبر مؤسسات رسمية دائمة.
عندما تغيب المؤسسات، تحلّ السياسة محل القانون. فتُدار الخلافات عبر اللقاءات والمفاوضات بين قادة الكتل، لا عبر لجان دستورية مختصة. تُوقَّع اتفاقات مؤقتة سرعان ما تنهار مع تغيّر الحكومات أو الموازين السياسية، ويعود الشدّ والجذب حول الموازنة والنفط والرواتب. بعبارة أخرى، الفراغ المؤسسي جعل الحلول مؤقتة والاتفاقات هشّة، لأن الدولة لا تُدار بالنوايا الحسنة بل بالمؤسسات الراسخة.
مؤسسات دستورية
الحلّ الحقيقي لا يمرّ عبر المساومات السياسية بل عبر تفعيل المؤسسات الدستورية التي تكفل الاستقرار والشفافية.
ويبدأ ذلك بـ:
-تشريع قانون المجلس الاتحادي ليصبح منصة تمثيل حقيقية للأقاليم والمحافظات في صنع القرار.
-استكمال عضوية المحكمة الاتحادية العلياحسب ما حددة المادة92 ثانياً من الدستور لتستعيد دورها كجهة تحكيم دستورية فاصلة.
-استكمال انتخاب الهيئة الرئاسية لبرلمان كوردستان وتشكيل حكومة جديدة كاملة الصلاحيات لإعادة الشرعية المؤسسية إلى الإقليم.
-تحويل الملفات الخلافية إلى لجان فنية مشتركة تُعنى بالحلول الدستورية طويلة الأمد لا بالصفقات السياسية المؤقتة.
إن استمرار إدارة العلاقة بين بغداد وأربيل عبر الوساطات والتفاهمات السياسية، دون مؤسسات دستورية فاعلة، يعني استمرار الأزمة بأشكال مختلفة. فالدستور لم يُكتب ليُعلَّق في النصوص، بل ليُطبّق عملياً عبر مؤسسات تمثّل الجميع وتحمي حقوق الجميع. ولذلك، فإن الخطوة الأولى نحو حل دائم تبدأ من بناء المؤسسات لا من عقد الصفقات، لأن الدولة التي لا تكتمل مؤسساتها تبقى رهينة الأزمات مهما تعددت الحكومات وتبدّلت الوجوه.
مدير مركز ابحاث برلمان اقليم كوردستان



















