غرور السلطة
بعد انتهاء الفرح والزهو بالانتصار، الآن يأتي وقت النقد الذاتي. فقد كانت نتيجة انتخابات الإعادة متقاربة وكان يمكن بمزيد من التزوير الناعم تغيير هذه النسبة البسيطة 3 من مرشح الجماعة إلى مرشح الفلول، بالطعن في النتائج، واللجوء إلى القضاء، خاصة وأن جهاز الدولة مازال مع مرشح الفلول. وهوى المجلس العسكري معه وليس مع مرشح الجماعة. فالعسكري يدين بالولاء للعسكري مهما كانت نتائج الديموقراطية معه أو ضده. وكثير من الأصوات التي ذهبت لصالح مرشح الجماعة لم تكن حبا في الجماعة ولكن كراهية للفلول أو رفضا للمقاطعة أو إبطال الصوت حتى لا يكون ذلك في صالح مرشح الفلول الذي يجند كل ما يستطيع من أصوات لصالحه، نساء الجنود والشرطة والأمن المركزي.
وأول تساؤل حول النتيجة لِمَ لم تصوت محافظة القاهرة مع مرشح الجماعة وهي أكبر المحافظات؟ هل لأن بها أكبر قدر من المتعلمين والمثقفين والأدباء والفنانين الذين مازالوا يتخوفون من التيار الديني، رابطين بينه وبين القهر والمنع وتقييد الحريات الضرورية للإبداع؟ ولماذا لم تصوت محافظة الغربية وبها المحلة الكبرى عاصمة الغزل والنسيج وقد كان عمالها من أوائل الثوار ضد النظام السابق ومن داخلها تكونت حركة 6 أبريل، وكان أول الشهداء منها؟ صحيح أن الجيزة والإسكندرية عوضتا القاهرة ولكن يظل التساؤل قائما ألا تحتاج الجماعة إلى مزيد من الحوار مع المثقفين حول الحرية، ومع العمال حول الحقوق؟
والأهم الآن هو التعلم من تاريخ الممارسة السياسية على مدى عام ونصف، وعدم الوقوع في الأخطاء السابقة. وقد كان إحساس الناس أنه لو نجح مرشح الفلول فإن الفضل في ذلك يرجع إلى أخطاء الجماعة أولا التي كرّهت الناس فيهم. وهي ليست أخطاء عن قصد بل هي قصر نظر في الممارسة السياسية التي يمكن تجاوزها بمزيد من الخبرة. ويمكن إيجاز هذه الأخطاء في سبعة
1 لم يكن الأداء للنواب في مجلس الشعب جديرا بالتقدير صراخ، مقاطعة، موضوعات ليس لها الأولوية. وأكدت إذاعة الجلسات على الهواء هذا الانطباع كل يوم، ربما لنقص في الخبرة السياسية أو طلبا للشهرة أو حبا للزعامة. وتحملت الجماعة وزر سلوك بعض أفرادها مثل من طلب الأذان في المجلس أو من كذب لتبرير التغييرات في وجهه من التجميل إلى العدوان أو من ضبط مع فتاة في عربة في وضع غير أخلاقي أو في بعض المعاملات المالية.
2 الرغبة في الاستحواذ على كل شىء كرد فعل على نفسية السجين، من اللاشىء إلى كل شىء، ومن السجين إلى السجان، ومن المقهور إلى القاهر، ومن المحكوم إلى الحاكم. فأخذت الجماعة الأغلبية في مجلس الشعب ثم في مجلس الشورى ثم في اللجنة التأسيسية لوضع الدستور ثم الرئاسة. والطريق قادم إلى المجالس المحلية والاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. فهي الأكثر تنظيما وتجنيدا للشعب، والأكثر تعاطفا من الشعب بعد أن عذبت واعتقلت على مدى ستين عاما. وقد اتحدت بالإسلام، والإسلام مازال هو الموجه الأول في الثقافة الشعبية أكثر من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث الليبرالية، والقومية، والاشتراكية، والماركسية التي تجذب النخبة. والسلطة أكثر إغراء. كل سلطة يتم الاستحواذ عليها تطلب المزيد. من بعض مقاعد مجلس الشعب إلى كله، من الامتناع عن ترشيح أحد للرئاسة إلى ترشيح أحدهم واحتياطي له وقد أصبح رئيس الجمهورية القادم. وبدلا من أن يكونوا قوة سياسية في الدولة أصبحت الدولة قوة سياسية منهم.
3 نسيان فرقاء النضال، وعمل الجماعة بمفردها. شاركت في الثورة بصرف النظر متى، في أولها أم في منتصفها أم عندما قاربت على النجاح. ثم عملت بعد ذلك بمفردها في تأييد التعديل الدستوري الأول. فشق صف العمل الوطني. وبدأت فرق اليسار تهاجم الجماعة، ونسي الطرفان الأرضية المشتركة والأهداف الواحدة التي يعملون من أجلها. فمازالت السلطة بعيدة. ولا يستطيع أن يستحوذ عليها فريق واحد. ظلت في يد المجلس العسكري مهما كان هناك من ديكور ديموقراطي انتخابي لمجالس نيابية.
4 الانتهازية السياسية وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. لم تنضم إلى لجنة الطلبة والعمال في 1946 بل غازلت القصر وقتئذ خوفا من الاضطهاد. وغازلت رئيس الجمهورية الثانية لاتحاد المصالح في الهجوم على الناصريين واليسار. ثم انقلبت عليه بعد كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. لا تستطيع أن تكون بوتقة للنضال الوطني أو رأس رمح له. انعكست عزلة السجن على العمل السياسي. ولم يكن الوقت كافيا للتحول من المحظورة إلى الشرعية على المستوى النفسي والعمل السياسي الطبيعي.
5 سيطرة الاتجاه المحافظ على الجماعة واستبعاد كل تطور طبيعي لبعض أجنحة اليسار الليبرالي فيها مما جعل الحركة باستمرار نحو اليمين. لذلك مازالت صورة الجماعة المنع والقهر والتحريم والقمع والعقاب وتكفير المخالفين، كل ذلك باسم الدين حتى شوهت صورتهم وصورة الدين في مقولات الدولة الدينية والخلافة والحدود. وكان التطور نحو اليسار جزاؤه الفصل أو الخروج الطوعي فسيطر اليمين على الجماعة، واتجه الوسط نحو اليمين طالما كان التطور نحو اليسار مسدودا.
6 اعتماد الجماعة لاشعوريا على الموروث الثقافي الذي يعطي القمة أكثر مما يعطي القاعدة مثل إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ، والذي مازال يرى أن هناك فرقة واحدة ناجية تمثلها الجماعة، والأخرى ضالة هالكة. ومازالت روح معالم على الطريق هي المسيطرة في الصراع بين الإسلام والجاهلية، بين الإيمان والكفر، بين الحق والباطل، واستحالة أن يتعايش الطرفان، وضرورة قضاء طرف على آخر بفضل جيل قرآني فريد، ونخبة مؤمنة طاهرة تبغي الشهادة. مازال الناس متخوفون من مثل هذا الفكر الاستبعادي الذي لا يساوي بين مجموع المواطنين في الحقوق والواجبات. مازال الناس يتخوفون من تكفير العلمانية والعقلانية والليبرالية والدولة المدنية. والقتل هو جزاء الكافر والمرتد. 7 ويؤدي غرور السلطة إلى الصدام مع باقي السلطات في المجتمع وعلى رأسها سلطة المؤسسة العسكرية لما كانت المؤسسة الدينية قد أصبحت جزءا من الدولة. أما سلطة القضاء فإنها تخضع أحيانا للموائمات السياسية مثل إبطال دستورية مجلس الشعب، وإلغاء قانون العزل السياسي، والتعديل الدستوري الأول، وقد ألغى المجلس العسكري اللجنة التأسيسية المنتخبة لوضع الدستور ووضع لجنة تأسيسية أخرى. فالقوات المسلحة هي العمود الفقري للدولة، والحريص على الأمن والاستقرار الداخلي، والحافظ للأمن القومي في مصر الحديثة منذ محمد علي حتى عبد الناصر. والجيش هو عماد التحديث والتنمية وليس فقط المدافع عن الأمن القومي. مهمته مدنية وعسكرية في آن واحد.
البديل إذن عن غرور السلطة هو التواضع الشعبي، والاجتهاد مع فرق النضال، والتعبير عن وجهة نظر في مقابل وجهات نظر أخرى. السلطة للشعب. لم يكن الأفغاني في السلطة. وأراد الإنجليز تعيينه ملكا على السودان فرفض. وكان له أبلغ الأثر في الحركة الوطنية لالتحامه بالشعب وقواه. فالسلطة من أسفل وليست من أعلى. وقد قامت معظم الثورات من أسفل بفضل التنظيمات الشعبية ضد السلطة من أعلى. وإذا تغيرت السلطة بسلطة أخرى من أعلى فهو انقلاب وليس ثورة. والسلطة من أسفل بطبيعتها ائتلافية لأنها تجميع لقوى الشعب المتعددة. وقد كانت معظم الثورات الوطنية في الجزائر وفيتنام وكوبا وإيران ثورات ائتلافية تجمع الوطنيين والماركسيين والإصلاحيين والإسلاميين الثوريين.
نرجو أن تكون الجماعة قد تعلمت من أخطائها التاريخية والحالية. وتتجاوز نفسية السجين إلى العمل الوطني. تعمل مع الآخرين وليس بمعزل عنهم أو ضدهم. الاسلام بوتقة واسعة يستطيع أن ينصهر فيها الليبراليون والقوميون والاشتراكيون والماركسيين. هكذا بدأ الإسلام بالتوحيد بين الأوس والخزرج، بين المهاجرين والأنصار. يجمع بين القبائل، عندما تمسك كل قبيلة بطرف العباءة لوضع الحجر الأسود عليها لإعادة وضعه في مكانه بدلا من الاقتتال بين القبائل. الإسلام مجموعة من المبادئ الإنسانية العامة في مقدمتها العدل ضد الظلم، المبدأ الذي قام عليه حلف الفضول الذي لو كان الرسول حاضرا لكان أحد الموقعين عليه.
حسن حنفي ــ القاهرة
/7/2012 Issue 4244 – Date 7 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4244 التاريخ 7»7»2012
AZP07