غرباء في بلاد غريبة: مَن لمستقبل القصيدة؟
بلاد أحبها وتزدريني
حاتم الصكَر
لم يبتعد مسمو الشاعر العراقي المهاجر غريب اسكندر كثيرا عن دلالة التسمية أو عن منحه ذلك النصيب المفترض له من اسمه احتكاما للمقولة الشعبية المتداولة ، بل كانوا يقاربون المستقبل ويخترقون المجهول، وهم يلصقون به الغربة والغرابة ..فهاهو يوسع خطاه تتبعه قصيدته في مهاجر يمطره فضاؤها اغترابا وحنينا،ويقابلها هو بعدّةٍ نصية من قصائد تمطر أحزانا و شعرا.لقد غدا الاسم المعتلي اعماله الشعرية عتبة نصية وموجها لقراءة قصائده حيث يكتنز المحتوي بما يعزز وصف الغريب للشاعر.
لكن الحنين والحزن والاغتراب والغربة ليست أوصافا تشجع عليها رومانسية مغلفة بالحداثة كما في بعض النصوص المهاجرة،بل هي سمة يشاركه فيها جيل المهاجرين والمهجريين والمغتربين والمنفيين من الشعراء في الألفية الثالثة.كان الخروج بالنسبة لهم ــ وكما لاحظنا في الكلام علي شعر دنيا ميخائيل ــ ليس ابتعادا جغرافيا يولد حنينا جارفا ونواحا، وغنائيات صارخة فاقعة الايقاع، ومناوشات سياسية ومواقف آنية .خرجوا وفي أفدتهم عراق آخر غير ما حمل الأوائل من الشعراء خارج الوطن. ذك ما سوف يتسرب إلي ذاكرتهم ومخيلتهم ويحتل خطابهم الشعري مترجما في نصوص متقدمة فنيا بالاعتماد علي شكل قصيدة النثر المختار في التوصيل، و في الادوات الشعرية التي تعين علي استحضار ذلك العراق المفارق بغناه الحضاري ومواطن شجنه وأدبياته وأساطيره وأمكنته ليكون وجوده في القصيدة ترميزا لضرورته وقوة حضوره ..
ليس من مؤشر خارج المعاناة المحيطة بالشاعر أو حياته براهنها.لكنه من أجل تجسيمها في بني نصية يلقي في مصهرها شظايا من ذلك التراث الغني الذي أشارت إليه الكلمة بالإنجليزية في ختام عمله «محفة الوهم 2009» وصار ملهمَه ُ بجانب الشعر العالمي الذي يبدو فيه حضور الشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا واضحا عبر المقتطف الافتتاحي والقصيدة المكرسة له في الديوان.. بينما يمكن أن نعدَّ عمله «أفعي كَلكَامش» تناصا ثريا ومعمقا مع الملحمة الخالدة ودلالات السرد فيها .وقد تماهت نصوص قصيدته الطويلة أفعي كلكامش مع العمل القديم لغة وتصورات وإيقاعات..لكنها تسحب الدلالة لتسقطها علي معاناة الحاضر القائم : كان مثله
مثل كلكامش
يستحم بالشمس
يشرب دمعه بكأس
لكنه
لم يرَ الأرز
لم يرَ أي شيء
رأي كثبان الفجيعة
رأي الغياب
في فتنته الآسرة.
وبذلك يصنع الشاعر ضربا من تناص المفارقة،فإذا كان كلكامش هو الذي رأي كل شيء، فما تشهد عينا الشاعر تجعله لا يري شيئا:
أنا الأعمي
لم أرَ كل شيء
رايت فقط الألوان التي
تشيرإلي الألم
والافعي نفسها بعد ان سرقت عشبة الخلود ماتت ولم تعد تكترث بشيء وسط هذا الخراب ..الذي يهبه الشاعر وصف التلاشي اي االنقراض بطيئا :
ليس هذا الحجر الذس نتحدث عنه
وليست أيام الغياب
إنه التلاشي
التلاشي الأخير
للكلمةالسواد الذي رفعناه معا
دمنا الذي تحجر
في الانتظار
في الأمل
في الأكاذيب الكثيرة.
لم تكن نوحا
ولم تكن العشبة
لقد كنت البداية التي لا تنتهي
و كشأن شعراء الحداثة من مجايليه يهتم غريب اسكندر بالهندسة النصية، فتراه يصمم ابنية اعماله بشكل متواليات، فثمة كتاب الدمع وكتاب النسيان وكتاب الصمت، وهي ــ برغم تكرار التسمية ووجودها كتقنية متداولة في الخطاب الشعري المعاصر ــ تؤشر إلي صفحات لها ترابطها البنائي والدلالي.وفي محفة الوهم يتصدر الحرف «عن » عناوين القصائد باستثناء قصيدة الديوان الرئيسية محفة الوهم، فتتداعي الوقفات عن الموت وعن العزلة وعن الأغنية وعن المنفي وعن الشجرة وغيرها .
وفي حوار دال يقول الشاعرمجيبا علي هواجسنا، مستكملا تماهي التسمية والحالة والشعور: ومغزي أن تكون الغريب في بلاد غريبة حقا:
«« ــ هل هي وحشة أن تكون غريبا؟
ــ لا
لكن الوطن في عتمته الأخيرة
رأيته يزحف
صوب قبره الأخير.»»
/2/2012 Issue 4119 – Date 11- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4119 – التاريخ 11/2/2012
AZP09