عندما تكون الشعرية مصيدة للسردية
رواية ذاكرة أرانجا أنموذجاً
حسين سرمك حسن
كنتُ ــ ومازلتُ ــ من بين النقّاد الذين يؤكدون وبقوة واستمرار على أن يكون للرواية خصوصا وفن السرد عموما لغته، وللشعر لغته . وعندما يشعر الكاتب بالحاجة لتوظيف اللغة الشعرية في نصه الروائي أو القصصي عليه أن يستخدمها بمقادير محسوبة تخدم الموقف المحدد في الرواية والكشف الدقيق عن مشاعر الشخصية الروائية المعنية. وبخلاف ذلك نحصل على نص لا هو رواية ولا هو شعر . وتمرّر هذه الحالة الخاطئة خلف ستار أطروحة تداخل الأجناس الحداثية التي يجب التعامل معها بحذر .
وقد تفشت في الرواية العربية ظاهرة مربكة نتيجة هذا الخلط بين حاجات السرد وحاجات الشعر، وتمثل في أن النص السردي أصبح حوارا ووصفا واستعادات وسلوكيات شخصيات، هجينا من جانب، ولا يخدم حاجة الكاتب وكذلك المتلقي في تحقيق التوصيل الدقيق لأفكار وصراعات الشخصيات ورؤى الكاتب من خلفهم طبعا من جانب آخر. يظهر الأمر وكأن الروائي الذي صار شاعرا يتحدّث بلسان كل الشخصيات مهما كانت بسيطة . فالمثقف القرّاء وحامل الشهادات في الرواية يتحدث بنفس طريقة بائعة الخبز الأمية البسيطة، وكلهم حين يقبّل حبيبه يسقط القمر على طريقة ماركيز. وصارت الرواية تحفل بافعال طيران الأشخاص وانتفاخهم وسقوط الشهب عند لقائهم بأحبتهم وخروج عوالم من أنوفهم مثلما صارت البائعة المتجوّلة تتحدث عن القضم بالقبلات وأنين الكواكب في الأسرّة .. إلخ.
وهنا تحضرني مداخلة مهمة للروائي إلياس خوري في مناقشات محور الترجمة خلال لقاء الروائيين العرب والفرنسيين الذي عقد في باريس في عام 1988حين قال ردّا على ما طرحه الناشرون الفرنسيون من أن الكتابة الروائية العربية بحاجة إلى تعديل شعري كي تترجم وتُقبل في الغرب
نحن من العبث أن نفكر بأنه يجب أن نعدّل في طريقتنا في الكتابة … كي نُقرأ في الغرب. فمهما فعلنا ــ لا أعتقد أن كاتبا عربياً على استعداد أن يجعل النساء تطير كما عند ماركيز. إذا كان هذا الغرائبي هو المطلوب من العالم الثالث، فلا تؤاخذوني، من الصعب أن نستجيب لمقاييس لا علاقة لها بتجربتنا .
ولأنني قد تحدثت عن هذه المعضلة في مناسبات سابقة كثيرة، أجد أن لا حاجة للإيغال في المقدمة، وسأتناول الآن رواية الكاتب محمد علوان جابر ذاكرة أرانجا الصادرة عن دار فضاءات نهاية العام الحالي من هذه الزاوية فقط، أي من زاوية الإفراط في استخدام اللغة الشعرية على حساب لغة القص من جانب، وتغليب المنظور الشعري على حساب المنظور السردي العملي إذا جاز الوصف من جانب آخر.
ويهمني أولا التذكير بأنني قد طرحت رأيي في مهارة الصديق محمد علوان جبر القصصية وأسلوبه المتفرّد في فن القصة القصيرة وذلك في دراستي عن قصته القصيرة الرأس المقطوع ، والتي حملت مجموعة محمد القصصية الأخيرة كلمة منها على غلافها الأخير.
كما يهمني ثانيا التأكيد على أنني عندما أقول من هذه الزاوية فقط ــ زاوية الإفراط في استخدام اللغة الشعرية على حساب لغة السرد ــ فإن هذا لا يلغي إيجابيات وحسنات الرواية وكاتبها أبدا، وهي إيجابيات كثيرة . كما أن ما أثبته هنا ــ ثالثا ــ هو وجهة نظر شخصية قد لا يصلح الأخذ بها . إنه اجتهاد جاء بعد دراسة وتحليل عميق وصبور وثلاث قراءات لأحداث الرواية. ولكن النقد ــ حاله حال أي مسلك معرفي إنساني ــ عرضة للخلاف والخطأ والعثرات وعدم الإتفاق والنسبية في بناء الأحكام .
لعل من عثرات الرواية الجسيمة فنيا هو اختيار الروائي لشخص مصاب بمرض المنغولية ــ MONGOLISM ليكون شخصية فاعلة وذات دور مهم في الرواية وهو سلام شقيق إبراهيم الأصغر. ولو كان دور سلام ــ كما يحصل في بعض الروايات والأفلام ــ دور مستلم أو ضحية سلبية لكان الأمر ممكنا وهيّنا. لكن الروائي لم يمنحه دورا إيجابيا محاورا وفاعلا حسب، بل حمّله ــ وهنا واحدة من آفات وسموم الرواية الحداثوية الغربية ــ حوارات داخلية وخارجية بلغة شعرية عالية أحيانا. خذ مثلا
ــ على الصفحة الأولى من الرواية وبدءا من استهلالها يدور هذا الحوار بين سلام وشقيقه إبراهيم الشاعر والرسام والكاتب، يتبعه حوار داخلي مونولوج وتداعيات يدور في ذهن سلام
ــ لا أعرف من أنا
ــ بدأت تكذب … أيها المترهل
أيها المترهل. كرّرتها لمرّات وأنا أضحك. حقا . بدأ جسد سلام يترهل، تحوّل إلى مجرد فم مفتوح يبتسم وهو يمضغ الطعام، لكنه يكف عن المضغ ويزيح أقراص الخبز جانبا حينما أحدثه.
ثم نفهم من الحوار أن سلام المنغولي هو الذي اختار لقب عازف الناي لأخيه إبراهيم وهو يعلق على سرعة حديث إبراهيم بالقول
أجل هكذا. لكي افهم. هذه السرعة تصيبني بالإختناق وتزيد المسافة بيني وبينك يا عازف ــ ص 7 .
ونتوقع من هذا المدخل أن إبراهيم يستخدم شقيقه سلام كأداة لترجيع أفكاره وإنعكاسها وكمتنفس مسالم لإحباطاته وصراعاته في ظل توتر العلاقة الدائم مع أبيه. لكن كلما سرنا مع أحداث الرواية ظهر أن الأمر خلاف ذلك. فابراهيم ومن ورائه الكاتب بطبيعة الحال يتعامل مع سلام ككائن متكامل العقل بل مثقف من الدرجة الأولى. ولا يترك لنا الكاتب فرصة وضع أي احتمال غير احتمال تقابل عقليتين شاعريتين حين يحدّثنا عن سلوكه مع سلام
حينما تطول فترة الصمت بيننا ــ والتي أتعمدها ــ في أغلب الأحيان ــ أحدثه عن تبخّر العالم الحقيقي من ذهني حينما تتحدث عنها صدّقني يا سلام . أحسّ بالوحدة الكاملة وأنا أدخل إليها عبرك سلام كم أنا وحيد خارج وداخل القصص والحكايات التي تخصّها ــ ص 62 .
في موضع آخر يحاور سلام المنغولي نفسه عن حديث إبراهيم معه كم كنت أتمنى أن يصمت، أو يقلل من نبرة صوته التي كانت تتصاعد وتستفز الصمت في آخر الليل الذي أمسك المدينة مهيمنا عليها بقوّة. حينما يصمت عازف الناي لبرهة منشغلا بإعداد كأس جديدة له، يتصاعد الليل في صمت الغرفة وسكونها . ولا يقطع هذا السكون إلا سعال أبي ــ ص 29 .
ثم اقرأ هذا الحوار أيها القارىء الكريم واحكم ص186
يقول سلام حدّثني عن خطافات ملوّنة تخرج من حقل كبير يعيش فيه. وحينما اصطدم بوجهي الجامد، شرح لي بسرعة معنى الخطافات .
أشياء تشبه المخالب الحادة، حركتها ارتدادات صمّاء، تريد أن تضرب الأشياء حولنا. المخالب هي أرواح هائمة في السماء تقترب من الأرض لتأخذ ثأرها منّا نحن.
ــ لماذا ..؟
ــ لا أحد يعرف . إنها اشياء قاسية مرت بمراحل تحوّل كبيرة، صمّاء ومخيفة تتحول بسلاسة إلى روح. وقد تسقط هذه المخالب إذا اقتربت من الأرض، ويكون لسقوطها دويّ يشبه سيارة تسير بسرعة على الإسفلت وتدور دورة قاسية ثم تسقط على جنبها .. تدور وتحتك بالإسفلت وتطلق شررا وأصواتا بلا معنى ؛ أصواتا غريبة تشبه امتصاص كتل قاسية .
ــ ما هو الإمتصاص؟
ــ لا أعرف . لكنني أعرف أنه مرعب. أقصد أنّ الأمر مرعب كما أتخيّله. أمّا إذا عشناه فهو مرعب أكثر . أعتقد إذا عشناه بأي شكل ما. يتصاعد حاجبك الحاجز من أعلى بطنك إلى مكان قريب من فمك. تصوّر حجابا حاجزا يخرج من الفم. أي دورة هذه التي يفعلها المخلب الساقط على الأرض المتحفّز للإنقضاض علينا ــ ص 186 .
والإمتصاص ليس مشبها به يضفي على الصورة التي يتحدث عنها إبراهيم الرعب . المص هو شرب الشيء شربا رفيقا ولا أثر للقوة أو العنف فيه م ص ص مَصَّ الشيء يَمَصُّهُ بالفتح مَصًّا و امْتَصَّهُ أيضا و التَّمَصُّصُ المَصُّ في مُهلة و أَمَصَّهُ الشيء فمَصَّه و المَصْمَصَةُ المضمضة ولكن بطرف اللسان والمضمضة بالفم كله والفرق بينهما شبيه بالفرق بين القبصة والقبضة وفي الحديث { كنا نُمَصْمِصُ من اللّبن ولا نُمَصْمِص من التمر }..
هكذا أجهض الإنشغال الشعري الصورة المهمة.
وألتمس العذر من صديقي محمد، فقد أعدت هذا المقطع أكثر من خمس مرات وبهدوء فلم أفهم معنى الخطافات ولا دورها أو وظيفتها في سياق الرواية ولا صلتها بما قبلها ولا بما بعدها من وقائع أو حوارات. ولكنها تبقى قطعة سريالية وشعرية جميلة .
وهذه هي مقدمة الفصل السادس من الصفحة 185 إلى الصفحة 194 الذي ينقلنا الكاتب فيه وبصورة مفاجئة قاطعا أكثر من عشر سنوات إلى حرب الثمانينيات . نقلة تتم من جديد ــ وياللغرابة ــ على لسان سلام المنغولي فنفهم الآن أن الخطافات تشبيه للقنابل التي كانت تتساقط على الجنود كالمطر. ولكن هل القنابل خطافات؟ وهل الأخيرة سيارة منقلبة تحتك بالإسفلت؟ وهل هي أرواح هائمة في السماء تبحث عن ثأرها في الأصل؟ ..
هذه القفزة عبر أكثر من عشر سنوات تنتهي في الصفحة 194 ليبدأ الفصل السابع وإذا بنا في دمشق ثم في بيروت . ولكن متى؟ في بداية السبعينيات قبل اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 حيث أمضى إبراهيم سنتين في بيروت كيف سنقنع القارىء بان حركة الزمان الشعرية هذه هي المتطابقة مع حركته السردية . مثلا هل جاء موت سلام في ختام الرواية الفصل الثامن بعد عودة إبراهيم من بيروت؟ أم بعد الحرب في نهاية الثمانينيات؟ أم متى؟ أي متابع سردي يعرف الجواب؟ لكن لماذا هذا التعقيد والإرباك؟ أليس خراب الحرب انضاف إلى خراب تجربته في بيروت خصوصا حبّه من طرف واحد لروز ماري صاحبة الكاليري في بيروت، وفقدانه حبيبته أسماء »إجلايا في قلعة صالح بالعراق ؟ أم أن خراب الحرب جاء متوسطا المتصل الحياتي بين سجن أبيه الثاني وسفره إلى بيروت؟ هذا ليس مستحيلا في الشعر .. ولكنه مستحيل ومربك في السرد .
يقول إبراهيم يحبها [= سلام يحب إجلايا] لأني حدّثته عن إبنة عم الأمير مشكين التي تشبه إبنة عمّنا أسماء إبنة قلعة صالح، التي مات ابوها وقررت أمّها أن تقيم في بيتنا العامر. يومها كنت أعد نفسي للسفر وحينما سألني لماذا .. إلخ ــ ص 62 .
وسوف يتساءل القارىء عن الكيفية التي سوف يستوعب بها صبي منغولي مسميات شخصيات دستويفسكي الأمير مشكين وإجلايا ونستاسيا وسلوكياتها وفلسفاتها؟
ولعل التناشز واضح بين إجلايا إبنة سنت بطرسبورغ، و أسماء إبنة قلعة صالح لكن الإختيار والإستعارة الإسمية محكومة بضرورات شعرية إكتسحت المناخ الثقافي العراقي والعربي في الستينيات خصوصا. كما أن إبراهيم ليس بالأمير مشكين الذي يعدّه بعض النقاد المتخصصين بأدب دستويفسكي خليطا من المسيح ودون كيشوت. وأسماء ليست إجلايا التي تعاطفت مع الأمير الذي قتلته إنسانيته العالية ولم يتفهمه أحد أكثر منها.
وهنا تستوقفنا ملاحظة فنّية مهمة وهي أن أسماء ذكرها الكاتب في بداية الرواية الصفحة الثامنة ثم عاد إليها بعد خمسين صفحة الصفحة 61 ، وسيتركها من جديد وتختفي من ذاكرة القارىء ليعود إليها بعد أكثر من مئة صفحة أخرى ليتذكرها في الصفحة 195 وهي تستعيد رسالة وجهها إليها إبراهيم من بيروت.
جزء من دراسة طويلة
AZP09