عندما تصير الرواية شهادة على العصر – عصام البرّام

الكتابة كتطهير

عندما تصير الرواية شهادة على العصر – عصام البرّام

في لحظات الأنهيار الكبير، حين تتساقط القيم أو تتكسر الهويات أو تُسحق الأحلام تحت عجلات التأريخ، لا يبقى للإنسان إلا صوته. هنا يرفع الكاتب قلمه كما يرفع الناجي راية بيضاء، لا ليستسلم، بل ليشهد. وفي الكتابة، تحديداً في الرواية، يختبيء فعل وجودي عميق، ليس فقط كفن سردي أو تقنية لغوية، بل كوسيلة للتطهير النفسي والاجتماعي، وكشهادة دامغة على عصره. فالرواية، منذ نشأتها، لم تكن أبداً مجرد سرد لتسلية القاريء، بل كثيراً ما آتخذت موقعاً حدودياً بين الفن والتأريخ، بين الذاكرة والواقع، بين الذات والآخر، وهي حين تكتب من عمق المعاناة تصبح بمثابة مرآة مكسورة تعكس الحقيقة من زوايا متعددة، لا واحدة.

فعلاً وجودياً

ففي خضم الكوارث، سواء كانت حروباً أو نكبات أو ثورات مخنوقة، تصبح الكتابة فعلاً وجودياً مضاداً للفناء. فالكاتب، في مواجهة السقوط العام، يختار أن يروي، يختار أن يدّون التفاصيل التي تمرّ صامتة في ضجيج الأحداث، يلتقط الأنفاس المتقطعة للأفراد الذين لا يسمعهم أحد. يجعل من الهامش مركزاً، ومن الشخصي مرآة للجماعي. ولعلّ هذا ما يجعل من الرواية، حين تُكتب في سياق الأزمة، أقرب ما تكون الى الشهادة. ليست شهادة بمعناها القضائي الصارم فحسب، بل بآعتبارها تعبيراً عن تجربة حقيقية، مسنودة بالخيال، تنطق بما عجزت الوثائق الرسمية أو التغطيات الإعلامية عن التعبير عنه، ففي الرواية تتجلى العواطف، تتعرّى التناقضات، وتنبثق الحقائق من بطن المجاز.

الكتابة هنا ليست ترفاً ولا عزلة، بل هي مقاومة ناعمة. هي وسيلة للأحتفاظ بالكرامة، لحفظ الحكايات من الغرق في نهر النسيان، لإعادة تسمية الأشياء التي آختطفتها السلطة أو شوّهها الخطاب المهيمن. إنها تطهير داخلي أولاً، لأن الكاتب لا يكتب من فراغ، بل من جرح. فالرواية بهذا المعنى، فعل علاجي، للكاتب كما للقاريء، إنها تفكك للصدمات، وتقديم لمعنى ما وسط الفوضى. وحين تصير الأوطان مشاعاً للخراب. تصبح الرواية وطناً مؤقتاً، مساحة آمنة لقول ما لا يمكن قوله في العلن، مرآة يرى فيها القاريء وجهه ووجه عصره في آنِ واحد.

إنّ كثيراً من الكتّاب الكبار في التأريخ كتبوا من قلب المحنة. فالروائي العالمي ديستويفسكي كتب من المنفى، ودوّن عذابات النفس الروسية تحت ضغط القهر القيصري. أما الكاتب جورج أورويل الذي كتب رواية (1984) في ظلال الحرب العالمية الثانية، محذراً من طغيان الشمولية. أما الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني جعل من كل قصة فلسطينية صرخةً في وجه النسيان. كما هو الحال مع الروائي الجزائري الطاهر وطّار، الذي صنع من الجزائر المتأرجحة بين الثورة والأستبداد مسرحاً للتوتر النفسي والفكري، حتى باتت رواياته وثائق حيّة للتمزق الوجداني في بلاده. أما الكاتب نجيب محفوظ  لم يكن يكتب فقط عن الحارة المصرية، بل عن التحولات الكبرى التي عصفت بالهوية العربية. وفي كل هذه الحالات، لم تكن الرواية آنفصالاً عن الواقع، بل توطؤاً جمالياً معه، مواجهة له بالأدب، وآحتفاظاً بالحق في السرد المستقل.

ولأن السرد سلطة، فإن الكتابة تُنازع الخطابات الرسمية على حق تفسير ما جرى. الدولة تُنتج رواياتها، والمؤسسات الإعلامية تروّج لأخرى، لكن الرواية الأدبية، حين تُكتب بصدق وشجاعة، تفكك كل ذلك، وتعيد توزيع الضوء على الأماكن المعتمة، وفي هذا، تظهر خطورة الأدب؛ لأنه يكشف، لأنه يرفض الصمت، لأنه يُبقي الجرح مفتوحاً كي لا يلتئم بالكذب. ولهذا، تعرّض كثير من الروائيين الى المنفى، الى السجن، الى الإقصاء، لأنهم تجرأؤا على السرد خارج النص الرسمي. لكنهم، في المقابل، حظوا بمكانة رمزية، لأن الشعوب، في لحظات الحقيقة، تعود الى من قالوا الحقيقة قبل الجميع.

هنا يتقاطع البُعد الجمالي مع البُعد الأخلاقي. فالروائي لا يكتب فقط لأن لديه موهبة لغوية، بل لأنه يشعر بالمسؤولية تجاه ما يحدث. إنه ليس مجرد راوِ، بل شاهد. والشهادة تتطلب شجاعة، وصدقاً والتزاماً. لا يعني ذلك أن الرواية تتحول الى بيان سياسي او خطاب مباشر، بل يعني أنها تنحاز للإنسان، وأنها تضع الحكاية في مواجهة السلطة، والذاكرة في مواجهة النسيان. إنها، بكل بساطة، تكتب ما لايُكتب، وتروي ما  لا يُروى، وتقول ما لا يُقال.

قلب الازمات

ومن اللافت أن الروايات التي تنبع من قلب الازمات غالباً ما تتجاوز حدود الزمان والمكان، لأنها تعبّر عن جوهر إنساني مشترك.

فحين يقرأ قاريء في بلاد المغرب روايةً عن الحرب الأهلية اللبنانية، أو يطالع قاريء في بيروت رواية عن الإجتياح الأمريكي لبغداد، يشعر أن شيئاً منه حاضر هناك. ليس فقط لأن المصائر تتشابه، بل لأن الألم إنساني، والتوق الى العدالة مشترك، والخوف من الضياع واحد. ولهذا، تصير الرواية، في هذا السياق، جسداً حياً يحمل الذاكرة، ويخترق الحدود، ويقاوم العطب.

قد يسأل سائل: وهل كل رواية تُكتب في لحظة أزمة تُعتبر شهادة؟ الجواب لا. فليست كل كتابة تستحق هذا المقام. الشهادة الأدبية لا تُمنح، بل تُتنزع. إنها مشروطة بصدق التجربة، وعمق الرؤية، وجرأة الطرح، وجودة البناء الفني. فالرواية التي تغرق في المباشرة، أو تلك التي تكرر شعارات خاوية، لا تلبث أن تسقط من الذاكرة. وحدها الروايات التي تخلق جماليتها الخاصة، والتي تعيد تشكيل العالم برؤية مغايرة، هي التي تصمد. وحدها التي تُحدث الأثر، وتدفع القاريء للتفكير، بل لإعادة التفكير، هي التي تكتسب شرعية الشهادة.وفي زمن التحولات الكبرى التي تعصف بعالمنا العربي، حيث تُخنق الحريات، وتُقمع الاحتجاجات، ويُزوّر التأريخ، تصبح الرواية إحدى وسائل النجاة الرمزية. إنهاا ليست بديلاً عن الفعل السياسي، لكنها تهيء له. ليست حلاً للأزمات، لكنها تضيء جوانبها. ليست حسماً للمعركة، لكنها جزء من أدوات خوضها. في هذا المعنى، تصير الرواية التزاماً، لا بالتبشير ولا بالوعظ، بل بالصدق الإبداعي، وبالحرص على ألا تُطمس الحكاية الأصلية تحت ركام الروايات المصنّعة.

الكتابة، حين تُمارس بوعي، تُصبح طقساً من طقوس التطهير الجمعي. تُعيد للإنسان صوته، وتُعيد للحكاية بريقها، وتُعطي للوجع معنى. والروائي، في هذا كله، لا يُشبه المؤرخ، ولايُشبه الصحفي، ولا حتى الفيلسوف. أنه شخص يُصغي جيداً الى نبض الناس، يُقاسمهم آلامهم، ثم يُعيد تشكيل كل ذلك ضمن نسيج لغوي وجمالي يجعل من القصة المعذبة فناً خالداً. ومن هنا، توُلد الروايات العظيمة، وتبقى حتى أن تهدأ العاصفة، شاهدة على كل ما جرى

فهل نكتب كي نتطهر؟ أم نكتب كي لا ننسى؟ أم نكتب كي لا نموت صامتين؟ ربما نكتب لكل ذلك معاً.

 لكن الأكيد، أن الرواية، حين تُكتّب من عمق الحاجة الى الفهم والتعبير، تتحوّل الى أكثر من فنّ. تصير شهادةً على العصر، ومرآة للذات، ومتنفساً لجراح الجماعة. تصير وطناً للناجين، وصوتاً لمن أسكتوا، وذاكرةً لا تموت.

مشاركة