عشر إشارات
أديب كمال الدين
إشارة العارفين
إلهي،
الإشارةُ الوحيدةُ التي لها شمسٌ وقمر
هي التي تشيرُ إليك.
هي التي لا وجود لها ولا حضور
إلا في قلوبِ العارفين
في قلوبِ الذين أبكاهم الفراق،
وزلزلَهم المنفى،
وأغرقَهم الليل،
ودفنَهم الحرمان،
فماتوا وهم في حبورٍ عظيم
إشارة البحر
إلهي،
ماذا فعلتُ
كي أنفقَ العمرَ كلّه مع البحر؟
وكيف أنجو منه
وهو الذي يحيطُ بي
كما تحيطُ جدرانُ السجنِ بالسجين؟
كيف أنجو منه
وهو الذي يتعرّى أمامي
بألوانه الباذخة
وأمواجِه الغامضة
فأذهبُ إليه كالمسحورِ حيناً،
وكالضائعِ حيناً،
وكالمجنونِ أحياناً أخرى؟
كيف أنجو منه
وهوالذي غرقَ فيَّ
قبل أنْ أغرقَ فيه؟
غرقَ في أعماقي السحيقة
حتّى صرتُ كلّ ليلة
أموتُ غريقاً
فأحملُ جثّتي على خشبتي الطافية
هائماً دون أنْ يراني أحد،
هائماً للأبد.
إشارة أصحابي
إلهي
أولئك الذين جاءوا
إلى حفلتِكَ الأرضيّة
ولم يروا شمساً ولا قمراً
ولا رغيفاً ولا بيتاً،
بكوا
ثُمَّ استغاثوا.
إذ حُمّلوا من الألمِ أنهاراً،
ومن الأنهارِ سفناً تائهةً،
ومن السفنِ أحلاماً وأوهاماً
تعبرُ كلَّ يومٍ
تحت جسورٍ من الخوفِ والعبث.
أولئك أصحابي
لا أراهم إلا بالإشارة
ولا يروني إلا بالحرف.
أولئك هم أصحابي،
أصحابي الذين اكتهلوا بنورِك
وزهدوا فرحين،
زهدوا بكلَِّ شيء
حتّى بقطرةِ الماء.
إشارة الكلام
إلهي،
في الطريقِ إليك
كلّمتُ الشمس
لكنّها كانتْ محكومة بالغروب.
وكلّمتُ الغروب
لكنّه كانَ محكوماً بالفجر.
ثُمَّ كلّمتُ الفجر
لكنّه كانَ مشغولاً بجماله
مثل صبيّة تعشقُ للمرّةِ الأولى.
وكلّمتُ العشق
لكنني اكتشفتُ أنّه لا يجيد
سوى لغة الصُمِّ والبُكم.
ثُمَّ كلّمتُ الصُمَّ والبُكم
لكنّهم رفضوني
حين عرفوا أنني أستطيعُ الكلام.
وكلّمتُ الكلام
فاكتشفتُ خيانةَ الصمتِ له.
وكلّمتُ الصمت
فعرفتُ أنّه لا يعرفُ سوى لغة الموت.
وكلّمتُ الموت
فسعدتُ لأنّه حدّثني طويلاً
عن النارِ والشمسِ والفجرِ والعشق.
سعدتُ لأنَّ الموت
كان يدلّني على نفسِه
مثل سكران يقودني إلى بيتِه.
إشارة الحِبال
إلهي،
أنفقتُ عمري
وأنا أمشي على حَبلين
قدمي اليمنى
تمشي على حَبلٍ من نار،
وقدمي اليسرى
تمشي على حَبلٍ من دموع.
وإذ ناديتَ عليَّ فرحتُ
إذ سأدخلُ في ميمِ الموتِ قليلاً
لأنفذ مِن ثمَّ
إلى تاءِ الموتِ الطويلة
كسفينةِ نوح.
حينئذ،
وحينئذ فقط،
سأنسى الحَبلين
وستستريحُ قدماي للمرّةِ الأولى.
نعم،
ففي سفينةِ نوح
ليس هناك من حِبالٍ
سوى حِبال النور.
إشارة الميم والواو والتاء
إلهي،
أنفقتُ عمري بحثاً عن الأجوبة
مثل شحّاذ
يستجدي من العابرين رغيفاً
ليلَ نهار،
مثل بحّار
ضاعَ وسط البحرِ وحيداً
في زورقه الذي تتناوب
على حراسته الأمواجُ العاتية
ووحوشُ الماء،
ولم أحظَ بالطبعِ بشيء.
سألتُ الشمسَ والأفلاك
والنجومَ وكتبَ النجوم
ثُمَّ سألتُ الفلاسفةَ والحكماء
واللاهين والمُهرّجين والمُهَلْوِسين.
فلم أجدْ مَن يعينني على ضياعي المكتوب
سوى الحروف،
سوى الميم والواو والتاء.
فأنفقتُ ليلي ونهاري
ألعبُ معهنّ لعبةَ الكاهن
ثُمَّ لعبة المجنون
ثُمَّ لعبة المصلوب.
وحين بلغتُ من السأمِ عتيّا
ركبتُ في مركبِهنّ
وكانَ وثيراً، مريحاً،
بل أكاد أقول مدهشاً،
غير أنّه غَطّى
وا أسفاه
وجهي بترابٍ ثقيل.
إشارة الطائر
إلهي،
ما أجمل الطائر
وهو يحلّقُ أعلى فأعلى
مقترباً من زرقةِ سمائك
وسرِّ غيمتك.
أما أنا فقد أنفقتُ سبعين عاماً
وأنا أزرعُ الحروفَ في أصابعي وفي جسدي
كي تصبحَ ريشاً
حتّى إذا نَبَتتْ وكبرتْ،
فرحتُ.
وإذ وقفتُ على حافةِ الجبل
وأفردتُ ذراعيّ كما يفعلُ الطائر
لأحلّقَ كما يحلّقُ الطائر،
تساقطتْ حروفي سريعاً
عند أول خفقة جناح
وهوتْ إلى القاع،
وا أسفاه،
هوتْ إلى الوادي.
فهويتُ بهدوءٍ أسود إلى نفْسي،
أعني إلى سجني.
إشارة التُفّاحة
إلهي،
لم أجدْ أشدّ ثقلاً من التُفّاحة،
ولا أفدح عذاباً
من انتظارِ سقوطِها على الأرض،
ولا أصعب من تقشيرِها
وهي قاسية كالصخرة،
ولا أغرب منها
وهي تنتقلُ من المرأةِ إلى المرآة
إلى البحرِ إلى الساحلِ إلى الحصان
إلى الكلب
ثُمَّ إلى الأفعى في نهايةِ المطاف.
لم أجدْ أشدّ ثقلاً من التُفّاحة
حين عرفتُ أنَّ كلَّ الحروب
بدأتْ من شهوتِها
شهوة الدمِ المتدفّقِ كشلال.
إشارة السبعين
إلهي،
في الإشارةِ السبعين
سأصلُ إلى هائكَ أو سرِّ هائك.
هكذا أومّلُ القلبَ في كلِّ مرّة
تبدأ بالجمرِ وتنتهي به.
لكنّي
إذ أصلُ إلى الإشارةِ السبعين في كلِّ مرّة
فلا أجدُ هاءَكَ أو سرّ هائك،
بل أجدُ الألف
تماماً كما عرفتُه أوّل مرّة
لم يتغّيرْ ولم يتبدّلْ قيد شعرة،
رغم أنّه عبرَ سبعين بحراً من بحورِك،
وطرقَ أربعين باباً من أبوابك،
واحترقَ في ثلاثين ليلة للقياك،
وتأرّقَ في عشر آياتٍ من الفجر،
وتشظّى في تسع آهاتٍ من العصر،
وضاعَ في سبع أساطير من ال متى وال أين
ليختفي في طرفةِ عين
إشارة لما حدث
إلهي،
لم ينصفني أولئك الذين
ضيّعوني في الصحراء
وتركوني للذئبِ رفيقاً
فصرتُ أندبُ حظّي ليلَ نهار،
ولا
أولئك الذين سلبوا ملابسي فيها
وتركوني أمشي العمرَ كلّه
عارياً مثلما خَلقتَني.
ولم ينصفني أولئك الذين
جاءوا من بعد وقتلوني
بسيوفهم الصدئة
وخناجرهم المسمومة،
ولا
أولئك الذين رأوني
في آخرِ العمر
شحّاذاً أبكي على بابِك،
فاستكثروا عليَّ ذلك
فَمَثَّلوا بجثّتي فرحين
وبحروفي مسرورين
AZP09