عسر الإنتقال الديمقراطي وعوائقه في المنطقة

عسر الإنتقال الديمقراطي وعوائقه في المنطقة

معتصم السنوي

إذا كان هذا الانتقال الديمقراطي – في مظاهره الأولية الدنيا- على جدول الأعمال السياسي لبعض البلدان العربية، فإنه يعيش مخاضاً عسيراً في بعضها الآخر، وامتناعاً مرحلياً في بعض ثالث منها (وهو ما يقارب نصفها!) لذلك، فإن استعراض عوائقه سيكون هنا متفاوتاً، بحيث يبدأ من تلك التي تحتسب بلداناً (مغلقة) على إمكانيته إلى تلك التي يتسع مجالها السياسي لاحتمالاته، وفي الحالين، ثمة عنوان عام لتلك العوائق هو: أزمة أنماط الشرعية التي تقوم عليها سلطة النخب الحاكمة في مجموع البلاد العربية بوصفها الأزمة التي تجعله انتقالاً (محجوزاً هنا وعسيراً هناك…الخ).

1- أزمة الشرعية:

بسبب من أن الشرعية السياسية في البلاد العربية لم تتحصل بالأساليب الديمقراطية الحديثة، فإنها (شرعية) تعاني من أزمة مزمنة تلقي بذيولها على مجموع الحياة السياسية الداخلية، وتضع (الكوابح) في سيرورة التطور والتقدم في المجال السياسي، ولعل استعراضياً سريعاً لجغرافية المصادر التي تنهل النظم القائمة شرعيتها، يلقي بعض الضوء على نوع تلك الكوابح العاملة ضد آلية التطور الديمقراطي في الوطن العربي:

أ- الشرعية العصبوية:

تمثل العصبية الأهلية (القبلية، والعشائرية، والطائفية) واحدة من أكثر مصادر الشرعية سيادة في الدول العربية اليوم! فهي (سندان) ثمانية نظم سياسية على الأقل، وهي قوام الحياة السياسية في أثني عشر دولة! بها تقوم السلطة، وبها تنحل متى أهتزت توازنات النظام الاجتماعي والسياسي العصبوي، وتتزود من طاقتها الاجتماعية حركية الصراع السياسي الداخلية، وتنطبع بها، على النحو الذي تتحول معه (العصبيات) إلى بنى ومؤسسات سياسية مباشرة في حالات، أو إلى مصدر توليد وإفرازات المنظمات والأحزاب الممثلة لعصبياتها في حالات أخرى، حتى التمثيل المؤسساتي نفسه يخضع لهذا التكوين: تنشأ البرلمانات، وأشباه البرلمانات، ومجالس الشورى ومجالس الأعيان من معين ذلك (النظام العصبوي) وتُفصّل على مقاسه! لا نضيف جدياً حين نقول إن النظام السياسي (العصبوي) نظام (مغلق)، يعيد إنتاج مجالسه السياسي الضيق من داخل الرافعة العصبية التي تمثل قوامه، وهو يكبح -بذلك- حركية التطور والتراكم والتحول في المجال الاجتماعي وفي المجال السياسي، وليس من شك في أن نظاماً سياسياً ينهل شرعيته من أمتياز فوق -اجتماعي، مزعوم، لقبيلة أو عشيرة أو طائفة هو نظام (متخلف)، يفرز كل شروط الكبح والحجز أمام إمكانية التطور الديمقراطي، بل هو يؤسس البنى التحتية الناجزة للتسلط السياسي والدكتاتوري، وهذا ما لا نجد أدنى صعوبة في معاينته من تجربة (حكم العصبيات) في البلاد العربية، على الرغم من محاولة المال الفائض والتقانة المستوردة (سَتْر) عورته..!

ب- الشرعية الدينية:

مع أن قوام الدولة في البلاد العربية قوام زمني صريح، من واقع ما هي عليه بناها والسلطات المختلفة فيها، ومن واقع القوانين والتشريعات المعمول بها (ما خلا الأحوال الشخصية)، إلا أن السلطة السياسية في بعضها تحاول (شرعنة نفسها بالدين)، على نحوٍ يفهم منه أن مبدأ الحكم فيها هو تطبيق تعاليم الإسلام، لا يتعلق الأمر هنا بالنص الدستوري على أن الإسلام هو دين الدولة، على أن ما نجد في الأغلب الأعم من الدساتير العربية، ولا يتعلق بالنص (الدستوري) على أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع المدني، على ما نجد -أيضاً- في غير نص دستوري… بل يتعلق بتبرير وتسويغ السلطة القائمة بالقول إنها مستمدة من حق ديني.. يشرّع ذلك القول لقيام نظام سياسي (ثيوقراطي) حتى إن جنح في الممارسة -إلى أن يكون نظاماً زمنياً- ومن النافل القول إن بناء شرعية السلطة على الدين، يضع المجال السياسي خارج أي نوع من أنواع التعاقد الذي يقوم عليه كيان الدولة الحديثة، ويقضي -حكماً- بإخضاعه إلى فئة تستأثر به دون غيرها بحجة إفرادها بهذا الحق الديني. وإذا كان الأمر يتعلق -هنا- بنظم سياسية معدودة- أضيف إليه النظام السوداني أخيراً، فهو يتعلق -أيضاً- بفريق كبير من المعارضة السياسية يكاد برنامجه يُختصر، في شعار بناء الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. وهكذا، إذا كانت السلطة (الثيروقراطية) تصنع عوائق في وجه أي أنتقال ديمقراطي باسم الدين، فإن بعضاً من المعارضة يساعدها في تغذية تلك العوائق وإعادة إنتاجها بالتّعلّة نفسها! وفي الحالين، فإن الخاسر الأكبر هو إمكانية تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي في الوطن العربي يكون محط توافق من الجميع، ويكون الدين حافزاًَ عليه لا حائلاً دونه.

ج- الشرعية الوطنية:

في محاولة مكشوفة للتعويض عن الشرعية الديمقراطية المُفتقَدة يجنح قسم من النظم العربية إلى تبرير شرعيته بأسم الوطنية والقومية العربية، وبدعوى أن نهوضه بمهمة إنجاز (برنامج وطني- سياسي وتنموي تحرري، وإنجاز برنامج قومي في مواجهة الصهيونية والنفوذ الأجنبي والدفاع مطلب الوحدة العربية…، يمنحه (أي النهوض بتلك المهمات) الشرعية الثورية بديلاً من سواها من أنماط الشرعية، ومع أن من الإنصاف القول إن بعض تلك النظم قام بأدوار غير هيّنة في مضمار التنمية ومواجهة الخطر الصهيوني، واجتراح سياسة (عالمثالثية) مستقلة، إلا أن الحقيقة الفاقعة التي تعصى على أي تجاهل أن معظم تلك النظم- وقد كان في مجموعها ستة نظم منذ عقود أربعة وحتى سقوطها أو تغيير أنظمتها – جاء إلى السلطة عن طريق الأنقلاب العسكري. و-أحياناً من خلال (الأنقضاض على تجربة ديمقراطية)، كائناً ما كان أمرها وتشوّه خَلْقِتها، كما حصل في حالتين سياسيتين على الأقل! الأمر الذي يضع أكثر من استفهام على شرعية وطنية لا تخرج إلا من (رحم الثكنات)..! ولسنا في حاجة إلى كبير شرح لبيان أن الشرعية الوطنية إياها تعني – في ترجمتها المادية- إقامة التلازم الضروري بين أية شرعية وبين الوطنية منظوراً إليها من زاوية مصالح الطبقة الوسطى وشريحتها العسكرية على وجه الحصر، مثلما لسنا في حاجة إلى جهد لبيان عقم أية شرعية وطنية لا تكون محط إجماع ديمقراطي، ولا تخرج إلى الوجود إلا بملحمة قتالية ينجزها الضباط وضباط الصف نيابة عن الشعب والأحزاب..! وتكفي السيرة الذاتية للأنظمة الوطنية تجاه الملف الديمقراطي لتقيم الدليل على مقدار ما يمكن أن تتعرض له الديمقراطية من (محن) باسم الشرعية الوطنية، وما زال بعيداً عن التوقع -حتى اليوم- كيف يمكن لنخب سياسية حاكمة، تقدم نفسها للجمهور بصفتها نخباً وطنية وثورية ذات رسالة قومية، أن تضع سلطتها -أو مجال الحكم- محط منافسة سياسية، أو -حتى- كيف تقبل أن تفتح المجال السياسي (المغلق) على إمكانية المشاركة من طرف أحزاب وقوى لا تشاطرها الرأي في مشروعها الوطني..! وعلى ذلك، نعتقد جازمين أن الشرعية الوطنية تمثل -اليوم على الأقل، وفي طبعتها (العسكرتارية)- عائقاً حقيقياً أمام إمكانية الانتقال الديمقراطي، ودوامة (الفوضى الخلافة) التي تعيشها المنطقة العربية دليل ساطع على ما ذهبنا إليه..!

د- مقاومة الطابور التسلطي والمنتفع:

من العوائق التي تعترض عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد العربية عمليات المقاومة الشرسة التي تنظمها قوى سياسية واجتماعية عديدة -داخل المجتمع السياسي- (المنتفعة من بقاء واستمرار نظام الشيوخ والخلفاء والأنكشارية). وهي كناية عن قوى أفرزها التطور السياسي والاقتصادي المستمر في ظل (سلطة النخب الحاكمة) منذ الميلاد الحديث للدولة الوطنية في الوطن العربي. ومع أن كثيراً من هذه القوى نما وترعرع على الهامش، وفي الهامش، إلا أنه يمثل -اليوم- ما يشبه (اللوبي السياسي الضاغط ضد أي إصلاح سياسي ديمقراطي)، والقادر في الحد الأدنى -على إرباك أي توافق ممكن بين الدولة والمجتمع، بين النظام والمعارضة، وقد يكون من سوء التقدير، في مضمار العمل السياسي- أن (يستصخر) المرء قوة هذا (اللوبي أو هذا الحزب السري)..! على نحو ما يسميه قسم من المعارضة السياسية في بعض البلدان العربية -بسبب تغلغله في نسيج السلطة والاقتصاد، وُقُدْرات التأثير النافذ لديه على (مراكز القرار)، وهو يمثل -بجميع المقاييس- الاحتياطي الاستراتيجي القوي، والذخيرة الحية الضاربة، لإرادة التملص من ضرورات الانتقال الديمقراطي الآخذة في تكريس نفسها.

مشاركة