التاريخ الشخصي لمقاوم فلسطيني
عز الدين قسام من الجهاد السياسي إلى الكفاح المسلّح – محمد مظفر الادهمي
عز الدين القسام هو مقاوم عربي مسلم لم يعرف حدودا معينة لجهاده السياسي والمسلح ضد الغزاة في بلاد الشام . فكان يقود التظاهرات في قريته(جبلة) احتجاجا على الغزو الايطالي لليبيا عام 1911. ويعلن المقاومة المسلحة ضد الغزو الفرنسي لسوريا عام 1920 .واستشهد وهو يقاوم البريطانيين والصهاينة في فلسطين عام 1935 .
ولد عز الدين القسام في بلدة (جبلة) التابعة لقضاء اللاذقية في سورية عام 1882، ونشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى.
كان والده من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كتاتيب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية.
تلقى عز الدين دراســـــته الابتدائية في كــتاتيب بلدته جبلة ، وتمــــــيز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل و التفكير.
بعد تفوقه في دراسته في الكتاب، التحق عز الدين للدراسة في الأزهر في مصر، و كان الأزهر في ذلك الوقت منارة كبرى لنشر علوم الشريعة والعربية، فحضر دروس الشيخ محمد عبده ، وتشبع بعلمه وآرائه في الدين والوطنية. كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته.
تأئر القسام بالحركات الوطنية المقاومة للاحتلال البريطاني في مصر التي كان رجال الأزهر يغذونها ، ففهم أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد. كما تعرف في مصر على المشروع الصهيوني بأبعاده، وأدرك خطره على الأمة العربية، ، وسمع عن تطلعات الصهاينة وأطماعهم في فلسطين…. وبين مدرســـــــة الشيخ محـمد عبده ومدرسة الشيخ رشيد رضا الـشامي المقـــيم في مصـــر اتضح أمام عـــيني الشيخ عز الدين القسام أن الجهاد وسيلة للدفاع عن حقوق الأمة وللعودة بها إلى سابق مجدها.
عاد القسام إلى قريته جبلة في سوريا عام 1906 بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للإطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين. وأقام القسام مدرسة لتدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه في الدين والوطنية موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة ، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته.
قاد القسام أول تظاهرة تأييداً للليبيين في مقاومتهم للاحتلال الإيطالي عام 1911،طافت شوارع جبلة.. ودعا الناس إلى التطوع للجهاد لمقاومة المحتلين الايطاليين في ليبيا . وكون سرية من 250 متطوعاً، وقام بحملة لجمع التبرعات للمقاومة الليبية، ولكن السلطات العثمانية لم تسمح له ولرفاقه المتطوعين بالسفر إلى ليبيا لنقل التبرعات والمشاركة في المقاومة ضد الايطاليين الغزاة.
وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام 1920 بعد معركة ميسلون التي قادها واستشهد فيها يوسف العظمة، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية الحفة الجبلية ذات الموقع الحصين.
حاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك المقاومة المسلحة والعودة إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض وأصر على المقاومة والجهاد ، فحكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين عام 1921.
عاش القسام ورفاقه في حيفا، في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد استيلاء الصهاينة عليها في فلسطين. وقد أبدى القسام اهتماماً خاصاً بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطائهم دروساً مسائية.
عمل القسام مدرساً في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الخطر الذي ينتظر وطنهم في ظل وجود الاستعمار البريطاني في فلسطين… ثم عمل إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يكثر من القول: (بأن الصهاينة ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم)
وفي إحدى خطبه، كان يخبئ سلاحا تحت ثوبه فرفعه و قال : (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتن مثل هذا) . كان يقول للناس في خطبه : هل أنتم مؤمنون؟ ويجيب نفسه لا، ثم يقول للناس إن كنتم مؤمنين فلا يقعدنّ أحد منكم بلا سلاح وجهاد.وهكذا اصبحت خطبه ودروسه وسيلة لاعداد المجاهدين وصقل نفوسهم وتهيئتهم للقتال.
وفي عام 1929 أشيع أن اليهود يريدون أن يحرقوا الجامع الذي يدرس ويخطب فيه وهو جامع الاستقلال بحيفا، فاقترح بعض الوجهاء أن يطلبوا المساعدة من الإنكليز، لكن الشيخ القسام رفض رفضا قاطعا وقال أن دمنا هو الذي يحمي المسلمين ويحمي مساجد المسلمين وليست دماء المحتلين… كان القسام يرفض أي حوار أو معاهدة مع الإنكليز ويقول (من جرّب المجرّب فهو خائن) فقد جرّب بعض العرب الإنكليز ضد العثمانيين وكانت كل وعودهم كذبا.
وعندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين، أسس جمعية الشبان المسلمين ، وقام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المجاهد… كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد الذي كان يعد له. ، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى لإعداد القرويين للدفاع عن أراضيهم . وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين.
عمل القسام مأذوناً شرعياً لدى محكمة حيفا الشرعية سنة 1930، مما ساعده على الاتصال بمختلف فئات المواطنين ، فتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية.
كان القسام يعقد اجتماعات سرية في بيته وفي بيوت بعض أصدقائه، يحضرها عدد من الأشخاص المغمورين (غير البارزين أو المعروفين في ميدان الحركة الوطنية)، وكان يختارهم من الذين يحضرون دروسه ومواعظه، ويقوم بتهيئتهم وإعدادهم للجهاد، وكوّن منهم خلايا جهادية، تقتصر عضويتها على نفر من المؤمنين الصادقين الذين لديهم الاستعداد الكامل للتضحية والفداء.
وعندما أتم القسام إنشاء القوة المجاهدة بشكل متكامل، قسمها إلى وحدات لكل واحدة منها مهمة خاصة :
الأولى: وحدة خاصة بشراء السلاح.
الثانية: وحدة خاصة للاستخبارات ومراقبة تحركات العدو البريطاني والصهيوني.
الثالثة: وحدة خاصة بالتدريب العسكري.
الرابعة: وحدة خاصة للدعاية في المساجد والمجتمعات، وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد.
الخامسة: وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية.
السادسة: وحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار، ورعاية أسر المعتقلين والشهداء.
ابتدأ رجال القسام مقاومتهم بتنفيذ عمليات فدائية ضد المستوطنات الصهيونية و إعداد الكمائن والهجوم على الصهاينة المستوطنين بهدف دفع اليهود في الخارج إلى وقف هجرتهم إلى فلسطين.
ولم تقتصر مقاومة القسام على مهاجمة المستعمرات فحسب وإنما قاموا بملاحقة وتأديب الذين يتعاونون مع البريطانيين ضد الحركة الوطنية، ، والتصدي لدوريات الجيش والشرطة البريطانية والإغارة على مراكزهم، وقطع طرق مواصلاتهم ، وزرع الألغام والمتفجرات فيها).
ألقت مقاومة القسام الرعب في قلوب الصهاينة والبريطانيين الذين رأوا ولأول مرة عملاً جهاديا جديداً لم يتعودوا عليه من قبل في فلسطين… فنشروا الجواسيس ورصدوا المكافآت المغرية لمن يدلهم على المقاومين ، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة.
لذا أصبح القسام ومن معه من المقاومين يواجهون صعوبة شديدة في تحركاتهم بعد أن استطاعت الشرطة البريطانية الحصول على معلومات عنهم. ولذلك تمكن البريطانيون من تحديد مكان عزالدين القسام في إحدى صولاته …فهاجموه بقوة عسكرية كبيرة وحاصروه مع من معه من المقاومين في أحراش يعبد في منطقة جنين، فجر يوم 20 تشرين ثاني عام 1935. وقبل بدء المعركة نادى البريطانيون طالبين من القسام الاستسلام ، فرد عيهم بأعلى صوته :
إننا لن نستسلم، إننا في موقف الجهاد في سبيل الله ثم التفت إلى رفاقه وقال موتوا شهداء في سبيل الله خير لنا من الاستسلام للكفرة الفجرة».
ودارت معركة غير متكافئة لمدة ساعتين استخدم فيها البريطانيون مختلف أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات الحربية . ومع ذلك صمد رجال القسام، وقاتل شيخهم قتال الأبطال، وظل يقاوم حتى وقع في ميدان الجهاد شهيداً كريماً على أرض فلسطين الطاهرة. نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشيعت جثامينهم الطاهرة بتظاهرة وطنية كبرى هتفت للشهيد القسام والشهداء المجاهدين و نادت بسقوط الاحتلال البريطاني ورفض وعدهم المشؤوم للصهاينة في فلسطين.
أصبح الشهيد عزالدين القسام رمزا للتضحية والفداء ، فكانت مقاومته واستشهاده الشرارة الأولى التي فجرت الثورة الفلسطينية الكبرى بعد عام واحد من استشهاده.