عزيز السيد جاسم وكتابة القصة القصيرة -1-

عزيز السيد جاسم وكتابة القصة القصيرة     -1-

تجنب التصعيد الهرمي وإعتماد التلوين

رزاق ابراهيم حسن

كان عزيز السيد جاسم يمتلك طموحا كبيرا في كتابته للقصة، اذ كان حريصا على ان تكون علاقته بها غير عابرة وغير انية، وان لا تكون محدودة برغبة واندفاع نفسي وعاطفي معين، بل كان يطمح اضافة الى امتلاك مهارة وامكانات القاص ان يبلور نظرية معينة، او وجهة نظر متميزة في كتابة القصة.

وذلك ما تدل عليه  مقدمته لمجموعته  القصصية الوحيدة (الديك وقصص اخرى) اذ يقول فيها (هذه المجموعة القصصية لا تنحو منحى واحدا، بمعنى انها تطل على القارئ بتنويع اسلوبي يهدف الى تحرير القصة من النمطية، فما دام كل استقرار  شكلي على وتيرة معينة، ونهج محدد في الكتابة هو النمطية بذاتها، فان القصة تنسلخ بذلك عن المغزى الاعمق للحياة، متحولة الى روتينية تنسخ الظواهر  قبل ان تستلهم الديالتيك).

ولا يقصد عزيز السيد جاسم بالتنويع الاسلوبي ما يحصل من تغيير في الخصائص الفنية  للاعمال الادبية  فقط، وانما منحه صفة ارفع واعمق من ذلك، فهو يقابل الحياة ، (وفي جوهر الامر ان فكرة تنويع الاسلوب القصصي تتلائم اصلا مع القوة الهائلة للحياة، حيث التدفق على كل الجهات لا يحده الاسلوب الواحد، ان الاسلوبية الاحادية بالنتيجة تصوير جامد من حيث العمومية، وان يكن متحركا من حيث الجزئية).

واذا كان هناك من يحصر التنويع الاسلوبي بالتجريب فان عزيز السيد جاسم يقيم لاول مرة علاقة بين الامساك بالتفجر والتجريب، و (هذا التفجر ليس رابع كل ثلاثة اشياء وارقام، بل هو البذرة والمحيط،  القلب والرسم، وهو يحتاج الى ثورة على نمطية الاسلوب التي تساير الفوتوغرافيا، والتي تستجيب لمقايضة الحياة بالورقة، ذلك ان الحياة كنقطة، وكدائرة، او كاشكال متداخلة دوارة متجددة الولادة والعطاء، والاضافة والاتلاف، والنبذ، والامانة، تجعل من كل قصة عملا تجريبيا، وليست عملا بنائيا بالمعنى العلمي للبناء.

فالتجريبية تظل ماثلة دوما في العمل القصصي، لان عناصر البناء لا تتكون ابدا، انها على طريق التكوين، وفقا لديالتيك العلاقة بين الحياة والموت، والوجود والعدم، وحتى الاصوات التي تنتقل في عمل قصصي معين بأنه  تقليدي، ونقلي، وتصويري للواقع، تتناسى ان تصوير الواقع هو – عمليا- محال، لانه بالاساس محاولة تجريبية، فالواقع لا يصور، بل يوجد بما هو عليه، ان قانونية الواقع وجدليته، ليستا مجموع ظواهره، وصوره واشكاله، وحينما يرد البناء في الواقع الحياتي، ترد التجريبية  في العمل القصصي، والتجريبية هنا تنطوي على ابنية ايضا، الا انها ابنية تسعى لان تكون وصفية، وتؤدي الى بناء لغوي وحدثيات محددة على الورقة وكما تختلف جهود الفنان الذي يصور بناء اثريا عن جهود الفنان الذي يصور انفجار بركان بمقايسس الفن التصويري، تختلف ايضا الصورة، فالصورة لا تحيط بدواخل ومخارج الاشياء الحية المتحركة، فكيف تحيط بالانفجار؟! هذا التباين في قوى الحياة التي تحتل اشكالا مختلفة للموجودات، يحيل الى  ضرورة تنويع الاسلوب، وان لكل قصة اسلوبا، وان قاص الاسلوب الواحد تؤثر على ابداعيته  بقوة الحالة الثقافية المحدودة، فيما ان الثقافة الصحيحة هي التفجر، كما الحياة، ان هذا الملقى  ما هو الا التفسير للتعدد في النهجية الفنية، والذي يتكيف (او لا يتكيف) مع الاصوات الداخلية، للقوس الكوني الشامل في شموله، والتشخيص في تفصيلاته، والغامض في جهات لا تحصى، ان التجريبية اجدى، سيما انها تستوعب بعض تصريفات المغامرة، كمنطلق للتجدد، (لا للتكلس) وعندما يقرن عزيز السيد جسام التفجر بالتجريبية، فان ذلك يجعل كتابة كل قصة بداية لمشروع جديد، وصراعا محتدما في مجموعة هذه الصراعات والتناقضات، ومحاولة للامساك بالاشياء في اكثر لحظاتها عنفوانا واحتداما وتوترا وتداخلا وافتراقا.

قصص مختلفة

ولا يمكن القول ان عزيز السيد جاسم قد استطاع في مجموعة (الديك وقصص اخرى) ان يقدم تطبيقا  لهذه النظرة الطموح الى القصة، ولكن هذه المجموعة  ليست بعيدة عن ذلك، فقد جاءت القصص فيها مختلفة عن بعضها البعض في الاجواء والشخصيات والوقائع والاسلوب، وجاءت محتدمة بالتناقضات الداخلية  والخارجية، وجاءت مشحونة بالانفجارات، فهي تتناول الشخصيات في لحظة من الانفجار النفسي والاستذكاري والكابوسي، وتتواصل معها في انفجاراتها المتعاقبة، وبما تواجه من انفجارات.

وقد يكون عزيز السيد جاسم في هذه القصص اكثر منه تناقضا مع الواقع السائد والنظام السياسي من اي  ميدان من الميادين التي كتب بها، فهي تتناقض مع كل الذين يمثلون السلطة والثروة والوجاهة  والغرور والتعالي وحب الذات، وغالبيتها تدور في اجواء كابوسية مشحونة بالخوف والشكوك، دالة بذلك على غرابة ولا معقولية الواقع نفسه، وغرابة ولا معقولية المرحلة التي كتبت بها.

وتقترب قصص عزيز السيد جاسم من قصص الستينات في العراق، ولكنها لا تفقد الاجواء والاحداث الكابوسية والغريبة دلالاتها  وابعادها السياسية كما هو الحال في اغلبية هذه القصص، ولا تتواصل معها في التركيز على الضياع واللاجدوى بمعزل عن الواقع السياسي، وقصص عزيز السيد جاسم ايضا لا تنساق وراء المواقف الوجودية للشخصيات، واعتبار حالات الضياع والاحباط من اختيار هذه الشخصيات، وانما ياتي كل ذلك لابعاد واسباب سياسية، مباشرة او غير مباشرة، واضحة القصد، او تخفي القصد خلف الرموز والعبارات والسياقات الايمائية.

ولكن عزيز السيد جاسم بقصد او من دون قصد لم يكن منقطعا عن خمسينيات القصة العراقية وانما جمع بين بعض اهتمامات قصاصي الخمسينات وقصاصي الستينات، وان يوظف بعض المتحقق في الجانب الفني لفضح وتعرية النظام السياسي، والشخصيات والفئات المماثلة له.

واذا كان قاص الخمسينات يحاول ان يستدل على سوء الواقع الطبقي والسياسي للشخصيات من خلال تفكيرها، والوصف السياسي الفكري لها، وتحليلها فان عزيز السيد لم يكن بعيدا عن ذلك، ولكنه في الاغلب كان يحرص على الاستدلال على ذلك من خلال الشخصيات نفسها، وما تمارس من تصرفات ومواقف.

واذا كان قاص الستينات يتعاطف مع ميل الشخصيات الى العبث  والضياع واللاجدوى، وعلى انه ناجم عن سوء وعبثية انتمائها الطبقي، وما تتصف به من خصائص طبقية، وما تمارس من مواقف وتصرفات.

ورغم امتلاء قصصه بالسخرية، فان هذه السخرية لا تاتي من تعليقه على الشخصيات، ومن تناقضه معها، ومن قصورها في علاقتها مع الاخرين فقط، وانما تاتي  في الاساس من الشخصيات نفسها، وما تمارس من مواقف وتصرفات وادعاءات واكاذيب مثيرة للسخرية والتهكم.

والسخرية في قصص عزيز السيد جاسم موجودة في اكثر قصصه مرارة وماساوية، عاكسة نفسها في السياق بشكل تكون مهيمنة على البناء الداخلي للقصة.

وهي تطرح نفسها في كل قصة بما يتناسب والموضوع وطبيعة الشخصية بشكل يطرح اختلافا معينا بين قصة واخرى.

السخرية في (الديك)

تختلف قصة (الديك) عن جميع قصص المجموعة، فاذا كانت شخصيات القصص الاخرى انسانية، فان الديك هو الشخصية الاساسية في هذه القصة.

واذا كانت الشخصيات والاحداث في هذه القصص تتحرك بدوافع انسانية سياسية ونفسية وطبقية، فان الديك هو الذي يحرك هذه الشخصيات والاحداث.

والديك كما يتحدث الراوي (كتلة لحمية صغيرة الحجم بحجم عصفور، جاءت مسحوقة بين اسنان قط كبير، رمادي اللون بدكنة، قفز من البيت المجاور، كان الحيوان الصغير لقمة كاملة آثر القط ان يستمتع بها في حديقة بيتي، بعد ان وثب  من على السياج، ولم يهنأ القط، فقد كانت طفلتي  ايناس تلعب باحجارها الصغيرة، وهي تشيد بناية بسيطة، رات القط يخرج الحيوان الضئيل من فمه، ويرميه الى الارض، حتى يتهيأ له الاحتفال باكله بعناية، ركضت ايناس نحو القط،  فانهزم بسرعة تاركا الضحية في مكانه، بالطبع ابتدأت ايناس على الفور رعاية صغيرها الذي كنا نجهل جنسيته الحيوانية. هل هو بلبل ام عصفور، ام فرخ حمام، ام فرخة قنبر ص55).

ويتضح بعد ايام وايام انه ديك، وانه مغرم بمطاردة القطط، وانه يهاجم الضيوف والاصدقاء، وانه يعامل الدجاجة بالضرب، و (لكنه يركب الدمية ويستمني فوقها بشهوة بالغة كلما رميت اليه، وتطور الامر. وشمل الاستمناء كل شيء يرمي للديك: الوسادة، الخشبة الصغيرة، الحصان الخشبي .. الخ.

ويستشير صاحب البيت صديقه المعلم (جاثوث) فتذهب تعليماته سدى، ويطرح الموضوع على جاره المتعجرف، فيخبره ان بعض الحيوانات مسكونة بروح جني ويسال ابن جاره، فيجيبه ساخرا: انها عقدة الاضطهاد، عقدة السبي.

ويقول الراوي وهو صاحب البيت : (على كل حال.. تفاقم الوضع.. وديكنا شديد الاستمناء، يرتمي فوق القطع والاشياء الخشبية والنسيجية وسواها بانهماك فظيع، لقد اصبح خطرا.. خطرا جدا. فما اخفيتك تاثير المشهد الجنسي- رغم انه استمنائي n على الثقافة والمشاعر العائلية، فالديك  مهووس بالاستمناء، وتتكرر الصورة عشرات المرات كل يوم، امام افراد العائلة.. ورغم اني اقول لنفسي وبتاثير تربيتي العائلية: ان ذلك مقزز، مقزز تماما، الا انني، وانا المتزوج منذ ربع قرن ولم انقطع عن الوصال الجنسي يوما واحدا، كنت اختلس النظر للديك المستمني، واشعر بلهب  الغيرة يلفح صدغي، وينز عندي شعور الرغبة الجنسية وكأنني اريد مزاحمة الديك. ص 69).

ويقول ايضا : (لا معنى للتساهل بعد الان، سوف انتهي من هذه القصة ولتحزن ايناس وتفعل ام ايناس ما تشاء.. اما انا في البيت او الديك ص69).

ويقرر ذبح الديك او ترحيله، ولكن ايناس تقترح عليه حبس الديك في قفص  كبير (وقد حصل ما حصل! ومايزال الديك موجودا مع ست دجاجات في ركن من بستاننا في الريف، مسيج باحكام، كقفص كبير.. ولم نعد مشغولين باخباره، لانه اصبح بين الدجاج . ص 71).

والديك في هذه الحالة يستخدم للسخرية من اولئك المثقفين الذين لا يجيدون التعامل مع الواقع، فكل ما تعلموه لم يساعدهم على فهم  تصرفات الديك، وتقديم العلاج اللازم لهذه التصرفات، وذلك ما ينطبق على راوي القصة واصدقائه ايضا.

والديك نفسه يسخر من صاحب البيت الذي كان شديد  الضعف والانخذال امامه، وامام ما يصدر عنه من حركات جنسية رغم ما يملك من موقع اجتماعي، ومن تربية اخلاقية تؤكد على العفة، ومن مكانة عائلية قيادية.

ويسخر الديك بهذه التصرفات من الذين  يفتخرون باصولهم العائلية، فهو غير معروف النسب وهجين، ولكنه رغم ذلك اكثر قدرة منهم على تاكيد شخصيته وافعاله وعلى الحاق الهزيمة بهم.

وقد يكون الديك رمزا للذين يقابلون الاحسان بالاساءة، ورمزا لمن يعبرون عن الاضطهاد بردود افعال عبثية وغير اخلاقية وعدائية،  وقد يكون رمزا للكبت المعبر عنه بهذه الردود ايضا، ولكنه يبدو من ناحية اخرى رمزا للذين يحبون التسلط بكل صوره واشكاله، وحتى وان كانوا من اصول مجهولة وكانوا من الذين لا يملكون اي شيء في الحياة.

فالمتسلط يمارس تسلطه على اقرب الناس له، وهذا ما يمارسه الديك، والمتسلط يحب من يخضع له، وهذا ما يمارسه الديك في ميله الى الاستمناء  مع الدمى والوسائد والقطع الخشبية الفاقدة للحياة، والمتسلط غالبا ما يثير الجدل حول اسباب تسلطه وشذوذه، وهذا ما يثيره الديك، والمتسلط يحاول ان يمتد تسلطه  الى البيوت، وامتلاك عواطف الاطفال والامهات، وهذا ما ينطبق على الديك ايضا.

وقد كتبت القصة بصيغة سردية حكائية، فالذي يرويها هو صاحب البيت الذي تربى فيه الديك لشخص آخر، وهذا الشخص يرويها عنه، وكأننا امام حكاية من الحكايات القديمة، ولكن القصة رغم  ذلك استطاعت ان تشحن سياقها وتعابيرها بالايحاءات والدلالات، وان تجعل هذا السياق مشوقا وملغزا، وطريفا، وغنيا بالسخرية ومفارقاتها.

الحصانة وقصص اخرى

لم تكن قصة (الديك) هي القصة الاولى في تسلسل المجموعة، وانما كانت  قصة (حصانة السيد سين) هي الاولى، وهي رغم كونها القصة الاولى لا تهيمن على القصص الاخرى، ولا تدفعها الى الموضوع نفسه، وانما هي مختلفة عن هذه القصص.

و (الديك) لا تهيمن على القصص الاخرى، ولكنها غير مقطوعة الصلة بها، ولعل قصة (حصان السيد سين) اقرب القصص اليها فاذا كان الديك هو المتسلط والكابوس في قصة (الديك) فانه في قصة (حصانة السيد سين) هو السلطة والكابوس، واذا كان الديك في قصة (الديك) غير خاضع لتحليل معين فان (السيد سين) في قصة (حصانة السيد سين) لا يخضع لتحليل معين.

ولكن (الديك) تختلف عن (حصانة السيد سين) بكونها حكائية سردية في المقام الاول، والثانية تعتمد السرد المشحون بالتوترات والصراعات الداخلية، والمبطن بما هو صراعي ومحتدم فيها.

وعلى الصعيد الفني تلتقي قصة (الديك) مع قصة (حصانة السيد سين) بكون كل واحدة منها تتدرج بالوقائع والعلاقات صعودا نحو ذورة معينة، وذلك ما تفتقر اليه اغلب القصص الاخرى، فهي تحتوي على اكثر من ذروة  في بعضها، والبعض الاخر يكون مفتوحا على اكثر من احتمال وتاويل,.

وقصة (حصانة السيد سين) لم توضع في الصفحات الاولى من المجموعة جزافا ومصادفة، وانما لانها ذات مضمون سياسي واضح وصريح، ولانها تجعل من السياسة كابوسا  وارادة قمع وارهاب، وتجعل منها عامل تشويه وخوف للمواطن.

ويبدو ان وضعها في مقدمة المجموعة جاء بهدف اعطاء اهمية  لمعارضة السلطة من خلال القصة التي نشرت في مجلة (المعرفة) السورية  – العدد 209 تموز 1979، والتاكيد على انها مقدمة لقصص اخرى تتناول الموضوع نفسه، وقصة (حصانة السيد سين) تقدم تفسها من خلال شخصية معينة، تعاني الملاحقة من شخص اخر في الشارع وموقع العمل والبيت، وفي اليقظة والمنام، وتحاول هذه الشخصية تقديم رسالة للحاكم للاستعانة به في التخلص من الملاحقة، والذي يقوم بها.

والقصة تتضمن الرسالة والاسباب الداعية الى كتابتها، وارسالها الى الحاكم وجاء فيها على لسان هذه الشخصية : (انا اخشى الشرطة وكنت اتنازل عن حقي المهضوم دائما حتى لا اراجع مركز الشرطة، ومع انهم قد يعيدون لي حقا الا انني افضل تضييع حقي على تقديم شكوى  الى الشرطة.. انني بصراحة  شديد الخوف من الشرطة، وقد لا زمني هذا ربع قرن بسبب السياسة).

فحين ذاك عندما كنت وطنيا كانت الشرطة السرية تلاحقني باستمرار.. تركت السياسة وكفت الشرطة عن ملاحقتي.. لكن الخوف ظل قابعا في داخلي.. ان عيون رجال الشرطة ترقبني بلؤم.. تطوقني منذ صباي يالي من تعيس، حتى عندما كنت ابكي وانا طفل كانت امي الموقرة تهددني بدعوة الشرطة، وكان ذلك كافيا لزرع الشلل في اوصالي، وتجميد نظرات الاسترحام على وجهي.. لا يا سيدي الخوف يمتد بعيدا قبل اكثر من ربع قرن، انه يرجع في جذوره الى طفولتي يالي من يتيم مسترحم! لكن لتسمح لي يا سيدي، هذه الشجاعة، نعم الشجاعة البسيطة النابعة من خوفي الكبير من الشرطة ان اقول اني اتوهم ان كل الدنيا  شرطة البشر والسيارات والجدران والاشباح.. وها انا في رعب دائم.. لذلك اطرق بابك، اوليست العدالة بابا لا يغلق بوجه احد؟!

سيدي القضاء .. سيدي الحاكم

صحيح انا اتلفت وانا اكتب اليك، الفزع يعتصرني، يسحبني من واقعي ويضغط على كياني، ويهزني هزا، مثلما ينتزع جرو من سطلة ماء، وينكثه صاحبه بقوة في الفضاء، يجففه ويؤدبه في الوقت ذاته، ورغم اني مؤدب فان المثل لا يثير في الاسف .. بل انني لا اجازف اذا قلت  ان جروا مطمئنا احسن حالا مني بل حتى منك انت يا سيدي اذا كنت غير سعيد.. غير مطمئن ، ص11).

وتستمر القصة بهذه اللغة البسيطة والموحية وذات الابعاد والدلالات النفسية، لتكتشف ان شخصية القصة تعيش رعبا شديدا ومستمرا من شخص يلاحقها في كل مكان تحل فيه، وهذا الشخص (معتدل الطول متوسط القامة محدود الوجه مدوره.. تتطــــامن نظارته على نصف وجهه باعتيادية كاملة ، ص12).

وجاء في القصة ايضا: (كانت عيناه بلا رموش.. كانتا فصين ملتهبين، يجدحان شررا.. فصين كالنار، بل احد من النار واكثر غموضا . ص 14) وعزيز السيد جاسم عندما يعطي لهذا الشخص بعض الملامح الواقعية الاعتيادية انما يريد بذلك ان يؤكد ان هذا الشخص ليس كابوسا، وليس وهما، وانما هو حقيقة، وهو ايضا الحاكم نفسه الذي يراد ارسال الرسالة اليه، ونتعرف على هذه النتيجة بعد ملاحقات مستمرة من قبل هذا الشخص لشخصية القصة في النوم واليقظة، والشارع والبيت، حيث يختلط  الوعي باللاوعي والحلم بالوهم والسرد بالتداعيات، والداخل بالخارج، وتمارس الشخصية دور السارد والراوي والبطل لتعزز بذلك من عمق حضورها في القصة، ولتعزز بذلك من قوة ومرارة وقساوة ضغط السياسة عليها، انها بهذا الجميع بين السارد والراوي والشخصية تمنح الوقائع الخارجية سمة الوقائع الداخلية، وتمنح التداعيات الذاتية القدرة على التعبير عن الواقع الموضوعي.

ومع ان قصة (حصانة السيد سين) تطلق على الحاكم اسم (سين) وهو  الحرف الاول لكلمة (سجن) و (سياسي) الا انها تجعل الشخصية الملاحقة من قبل (سين) مجهولة الاسم والملامح لكي ترمز الى التاثير الجماعي والشمولي للسلطة وللسياسة بمواصفات الكبت والقمع والاضطهاد. ولم يحدد القاص مكان القصة، لكي لا يحصر العلاقة بين السلطة  وضحيتها في مكان معين ومحدد، وانمــــــــــا يجعلها حاضرة في الكثير من الامــــــكنة والازمنة فضلا عن مكان وزمان كتابة القصة نفسها.

وقصة (حصانة السيد سين) لا تلجأ الى التمويه والتغطية على تاريخ ومكان كتابتها، فقد كتبت في بغداد، ونشرت في تموز عام 1979، وبذلك يصبح المغزى السياسي من كتابتها واضحا، بل شديد الوضوح، خاصة وانها لم تحمل اية اشارة لاستثناء الوضع السياسي السائد انذاك من التناقض بين السلطة والفرد والمجتمع، ومن ضغط السلطة على مشاعر واحاسيس الفرد، ومن الحالة التي تناولتها، وهي حالة رغم تاثرها باجواء بعض قصص كافكا، الا ان القاص استطاع توظيف هذا التاثر لصالح القصد السياسي، بحيث يتوحد السياسي القمعي التسلطي بالكابوسي، وتمتلك المفردات الدالة على الخوف والكبت والملاحقة ابعادا ودلالات سياسية.

ومن القصص ذات الموضوع السياسي قصة (متنزهات المدن الفقيرة) المنشورة في مجلة (البلاغ) اللبنانية n العدد 123- ايار 1974، والقصة تتحدث عن الفوضى السائدة في الواقع بلغة رمزية وايجابية، اذ ان  (اللوحة غير مكتملة .. ولكن ثمة ما يشير الى انها سوف تكتمل يوما ما، لحظة ما.. بعلم احد او بدون علم احد، شجرة يوكالبتوس عريقة، موجودة خطأ على متن ساقية طويلة، في خريطة صفصافة، بهيئة مروحة، وطريق رفيع ملتو، يتانق كعازب هزيل فاتته شاحنة النساء.. ولم تفته ذاكرة الكبرياء.

في الساقية ماء قليل، وفي الاعلى حزن يداهم مناخ الضفائر الشجرية الناكصة .. بعض الغيوم الصيفية تتحرك بوحشية مفلسة، واقدام تتجول ولكن مهرعة الى لا شيء. انفاس تتداخل، وكلمات محمومة، وضحكات تغيب في اسفنجة ضخمة، في طريق فقير يتجمع ثلاثة او اربعة، ويمشي صبيان.. وتلتحق طفلة باصبعين من يد انوثية.. قد تكون يد ام او جدة.. او مجرد امرأة.

في طريق ثان، طويل لا احد . ويصمت السمك، يمضي البعض، فيما للبعض اللاخر لغط غير مفهوم.. تحاذي النكتة. الحديث الاعتيادي والصرخات الخافتة وغمغمات بشرية بالاسم فقط . ص3).

وفي هذه الاجواء والامكنة الغريبة التي تقدم وكانها لقطات سينمائية او مقدمة لمسرحية تسقط رسالة ذات لون غائم مكهرب بصفرة مريضة، وبحروف فوضوية وهي تحمل عبارة واحدة : (في عالم الالغاز الكبيرة. لا تحيى الا السذاجات الصغيرة او السفالات) ومع ان الرسالة لا تحمل توقيع احد، الا انها تدفع الحبيبة الى ترك حبيبها، وتدفع الى اقامة علاقات بين اشياء عسيرة الفهم، والى الخوف من الشرطة الامر الذي يشير الى ان المقصود بعبارة (في عالم الالغاز الكبيرة، لا تحيي الا السذاجات الصغيرة او السفالات) ان السلطة عندما تحاول ان تكون لغزا، فان الفوضى هي التي ستسود ويتوزع الناس بين مرغم على ان يكون ساذجا صغيرا، وبين من  يندفع في السفالات ومن يحاول ان يمارس دوره في كشف وفضح السلطة، وهو من يكتب الرسالة، ويوزعها بين الناس وفي القصة مشاهد من الفوضى، هيئة تحقيق تعقد في متنزه، شاعر يقرأ قصائده  بعيدا عن الوضع الماساوي والفوضــــــــوي العام حيث تبدو القصة وكانها اشبه بالحلم، او انها ذات منـــاخ سريالي، ولكنها في الحقيقة ارادت ان تقدم صورة لواقع حقيقي تسوده الفوضى وانعدام المعايير.

وكما هو الحال في بعض قصص عزيز السيد جاسم فأنه في هذه القصة لا يعتمد التصعيد الهرمي، وانما يعتمد التنوع والتلوين اللذين يعززان ويوسعان الموضوع، ويزيدان من التغطية عليه، ومن ابعاده السياسية، ومن نقده للواقع السياسي، خاصة وان القاص  جعل كل الصور الدالة على التنوع والتلوين مليئة  بالسخرية من هذا الواقع.

مشاركة