عري الأدب النسوي
حين تسرد المرأة تفضح عورات الذكورة
تحقيق زهرة زيراوي
أخذت النسويّة في أدبيَّاتها تناقش الأنوثة والذكورة من منظورٍ شوفيني، كأي حركة استعلاء مطلق، وكأي ثورة عمياء، لا تُبقي ولا تذر. بل شرعتْ في بعض أدبيّاتها تناقش الأنوثة والذكورة، لا على المستوى الفيزيقي فحسب، بل أيضاً على مستوى الميتافيزيقا، والغيبيَّات، والأديان، في حراكٍ نضاليٍّ إلى تأنيث الكون وما وراء الكون.
ثقافة أبوية
ولو أن العلاقة بين المذكّر والمؤنّث استقامت، ما كانت سيمون ديبوفوار، ولا فرجينيا وولف، ولا احتجنا في هذا الصدد إلى تحليلات جاك دريدا، ولا جاك لاكان، ولا جوليا كريستيفا، ولا حتى كتاب الحريم اللغوي للباحثة اللبنانية الجادّة يُسرَى مُقدَّم. لسنا في حاجة إلى هذا ولا ذاك، ولا إلى نفي الضِّلع الأعوج أو إثباته، ولا إلى البحث في التفاضل والأسبقيَّة في بنية اللغة العربيّة أو غير العربيّة بين المذكَّر والمؤنَّث، للقول بأن الثقافة أبويَّة. ذلك أن الثقافة بالفعل كانت أبويَّة ــ وما زالت أبويَّة ــ غير أنها كانت أموميَّة أيضاً في حِقَبٍ أسبق؛ فتركتْ الأموميَّة والأبويَّة آثارهما على اللسان والإنسان، وتشكَّلت اللغة والبشر من ذلك التراث المزيج كلّه، ولا مجال في اللغة إلى إنكاره أو استدراكه، وإنْ صحّ في الإنسان تقويمه وإصلاحه. ولذلك فإن صيحات يا لثارات حواء ، من خلال المماحكات التاريخيّة أو اللغويّة، هي مضيعة وقتٍ، وتحصيل حاصلٍ، لا تفيد المرأة ولا تفيد الرجل ولا الثقافة. كما أن بلوغ تلك الصيحات الثأريَّة مبلغ إنكار التمايز بين الجنسين ــ تمايزاً يجعل لكل جنسٍ خصائصه وقدراته ووظائفه، والزعم أن الثقافة وحدها، لا الطبيعة والخِلْقَة، وراء انتفاء التساوي بين الجنسين ــ هو إنكارٌ لطبيعة التمايز بين الجنسين في الكائنات الحيّة عموماً؛ لأن الذكر ليس كالأنثى في كلّ ما خلق الله؛ ليس هذا بمعنى تفضيل أحدهما على الآخر بالضرورة، ولكن بمعنى الاختلاف التكامليّ البنّاء. ولو استقامت العلاقة بين الجنسين من البشر استقامَتَها بين الجنسين من الحيوان، لما كان ذلك كلّه من الأبويَّة والأموميَّة، والذكوريَّة والنسويَّة، والتطرّف والتطرّف المضادّ، وكلٌّ يستنفر طاقاته لينقض الكون رأساً على عقب، في تعصُّبٍ ينفي تعصُّباً، وعمًى يرفض عمًى.
نعم، يمكن أن نسلِّم مبدئيّاً في هذا السياق مع هاينز، ميليسا ، حسب كتابها 2008 ، جنوسة العقل، ترجمة ليلى الموسوي، الكويت عالم المعرفة ، بأن لا جنوسة في العقل، وأن الفروق بين الجنسين تعود أساساً إلى عوامل ليست بيولوجيَّة ولا هرمونيَّة ولا جينيَّة، بل مرتبطة بعامل التوقّع الاجتماعي social expectation للدور الذي يرسمه المجتمع للذكر والأنثى، وإلى الظروف الاقتصاديّة والسياسيّة المحيطة بهما. ولكن ذلك يظلّ في المجال الذهنيّ، من الملَكات والقدرات العلميّة. إلّا أن هذا لا ينفي الفوارق الأخرى بين الجنسين، التي لا سبيل إلى نكرانها، نفسيَّة وبيولوجيَّة، وعضويَّة وجسديَّة، والمؤثّرة في قابليّاتهما وتشكُّلاتهما الإنسانيَّة، وإلَّا لانتفت العناصر الجنوسيَّة التي تميِّز المرأة عن الرجل من أساسها. هذا إذا كنا نُحاكِم الأمر بمعايير العقل والواقع، لا بنعرات العواطف والخيال الطوباوي.
إن النسويّة، إذن، في أوج غلوائها قد تتورَّط في نفي نفسها. إذ لا تعدو ضرباً خاصّاً من التصوُّف، لها شطحها، وتواجدها، ومشاهداتها، وغيبوباتها عن سنن الله في كونه وشطحها كشطح محيي الدين بن عربي، الذي وضع ــ من طرائفه ــ كتاباً بعنوان القول النفيس في تفليس إبليس ، انتهى فيه إلى ما يشبه تقديس إبليس وتفليس الشيخ الأكبر نفسه
ويسهم الدكتور الشاعر السيد د.مصطفى سلوي بالتالي يمكن القول بأن تيمة الجسد حاضرة بقوة فيما تكتُبُهُ المرأة، في الشعر كما في السرد، خاصة في المرحلة الأولى. لهذا وجب الاحتياط من إصدار أحكام هي في حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عما تقصده المرأة وهي تتحدث عن جسدها أو تُعَرّيهِ أو تكشف عَوْراتِهِ. فالأمرُ يتعلَّقُ بأشياءَ أخرى غَيْرَ ما فَهِمَهُ بعضُ القُرّاءِ المُتَسَرِّعين، وهم ينتهون، فيما انْتَهَوا إليه، أن المرأة تَكْتُبُ أدبا جنسيّاً أو إيروتيكيا أو بورنوغرافيا ؛ ولا أساس لكل هذا من الصحة..
لقد أشْرَعَتِ كُلٌّ من المرأة الساردة والمرأة الشاعرة لنوع جديد من الكتابة، هو الكتابة بالجسد العاري؛ غير أنَّ العُرْيَ كمدادٍ وكلماتٍ لهذه الكتابة لا يُفْهَمُ على أنه هدفٌ في حَدِّ ذاته، بقدر ما إنَّ الأمر يتعلق بوسيلة من وسائل الإبلاغ والشرح والتفسير، كانت المرأة الكاتبة في أمسِّ الحاجة إليها بُغْيَةَ الوصول إلى قلب القارئ وعقله. فالمرأة مُتَّهَمَةٌ أو ظَلَّتْ مُتَّهمةً طوال سنوات الصمت التي فرضها منطق الرجل وزمن سلطته الخليعة؛ الشيء الذي أنْهَضَها للدفاع عن نفسها وإثبات براءة هذا الجسد الملعون ، كما كان يُشاعُ، من كل التُّهَمِ التي أُلْصِقَتْ به. من هنا راحت الأنثى تستعيد جسدها في أوضاع مختلفة؛ تستعيده في حال الطفولة، وأثناء المراهقة، وعصر الشباب، وإبان مرحلة النضج وهي زوجة في بيت زوجها تقتسم مسؤوليات الحياة مع الرجل، وبعد ذلك أرملة أو مطلقة أو غير ذلك من صور الكبر والشيخوخة التي يؤول إليها هذا الجسد ولم يَتَبَقَّ في شجرة العُمْر، التي كانت بالأمس وارفة الظلال، سوى وُرَيْقاتٍ صفراءَ أو بُنِّيَّةٍ قليلة. ومن خلال هاتين الحاجتين إشباع الرغبة واستكشاف الجسد المجهول، تعلن المرأة تحدّيها للرجل والمجتمع وهي تمارس هذا الفعل الذي لم تكن تجرؤ حتى على التعبير عنه. ينضاف إلى ذلك فكرة التواصل الحاضرة بقوة بين المرأة وجسدها العاري. وتأتي تقنية الحوار الحاضرة في هذا الصدد بصورة قوية لتؤكد هذا المسعى الذي ترنو المرأة الساردة إلى تحقيقه من خلال هذه التيمات المتعالقة تيمة الجسد، وتيمة العري، وتيمة المرآة، بالإضافة إلى فكرة التواصل التي تجمع بين هذه التيمات الثلاث. ويمكن القول بأن تيمة المرآة هي التي تساعد الأنثى على تحقيق تيمة العري المقترنة بتيمة الجسد الذي يتحول، بعد ترسيخ الصورة في الذهن، إلى طرف في حوار تؤسسه المرأة بين عقلها وجسدها الماثل أمامها على المرآة. إن ما تسعى المرأة الساردة إلى تحقيقه ليس هو تعرية الجسد في حد ذاته كمطلوب لنفسه، ولكنها تعمل من وراء تلك التعرية على تعرية نصفها الثاني الذي هو الرجل. فالجسد العاري للمرأة يساوي، على مستوى الكتابة السردية، الداخل الذي ينطوي عليه الرجل، وظل لزمن طويل يداريه ويعمل على إخفائه مغالطا الخلق بخصوص حقيقته. وكل نقطة من هذا الجسد المتعري، الذي اختارت المرأة الساردة كشف عوراته ووصف جغرافيته المعقدة حينا والبسيطة أحيانا أخرى، تقابلها خطيئة وكبيرة من خطايا وكبائر الرجل. لهذا وجدنا أن العري في الكتابة النسائية المغربية المتأخرة غير مطلوب لذاته، وإنما هو وسيلة وعمدةٌ ضرورية لفضح تصرفات الرجل وتعرية الجانب الآخر المختفي فيه
AZP09