عذراً للقوميين العرب
طارق النجار
لست بصدد إعادة التاريخ السياسي والانساني لشرائح سياسية، فلست متخصصا في مجال التاريخ، وانما باحث في بعض فصوله من الحركات القومية وما شابها من اخفاقات في مسيرتها وما تلقته من ضربات موجعة وسقطات في عملها السياسي من إطراف محسوبة على اليسار العربي والقومي معا فوقعت تحت وطأة التطهر من الماضي وفتح ملفات سياسية وتاريخية لإنأى بنفسي من ردة الامس وخوارجه الذين لا ينفكون يعلنون محاربة الأشياء بعينها، ويلعنوها بالاستنكار كفاية وبالتنديد فقط لوقف نزيف الدم العربي المراق على اسوار الأمة بماضيها الذي تمزقت اشلاؤه الانسانية في ازقتها وحواريها ليسجل التاريخ لعنته الى يوم يبعثون بوصمة عار في جبينها لم يغتسل المارقون منه كردة فعل لجنحة اقترفها بعض السياسيين في العودة الى شأنهم الجاري ليعلنوا البراءة من أثم الرجال في شطط وفسق.
وأيقظتني بعض الهنات فيما تناولته في سلسلة مقالات نشرت في صحيفة الزمان اليومية، تطرقت فيها الى الاسقاطات السياسية للحركة القومية وما تعرضت له من خراب وتمزق وتشرذم بعد النكسة في حزيران من عام 1967 ومن انحسار وتفكك وبفعل الظروف التي اجهزت عليها وهز كيانها القومي وضربها بمقتل في واقعها المر مما دفعت فاتورة اخطائها السياسية والتنظيمية.
وتجلى ذلك في خفوت الحركات القومية والاتجاه نحو الغروب القومي، وتضاؤل رموزها، تلك القامات الباسقات في التاريخ العربي والتي كانت تهدف الى اعادة صياغة الاوضاع للأمة من القرن المنصرم ومن الألفية الثالثة من القرن الحالي والى تطوير المجتمع العربي والارتقاء به الى مستوى الاحداث في الحضارة الحديثة، وتحقيق النهضة الشاملة للإنسان العربي والنمو والتقدم لتتمكن الامة العربية من المشاركة الانسانية نحو مستقبل آت.
وكانت خيبة أمل الجيل الاول من رعيل القوميين كبيرة وعميقة في اقامة دولة عربية واحدة على أثر تمزق منطقة الهلال الخصيب وفق اتفاقية سايكس – بيكو، وتضاعف الشعور القومي بالإحباط واليأس والظلم القومي الاجتماعي. فعذرا للقوميين العرب – تلك الكيانات المنتشرة تحت حركات مختلفة، وعناوين شتى، وكلها في الخيمة القومية العربية والمقصود هنا لغة تلك الفصائل العاملة في الواقع العراقي من غير ان اشير الى افقها الشرعي، التي آمنت به هدفا ومعتقدا وسبيلا الى كلمة سواء لتحقيق ما تؤمن به في وحدة الإمة العربية، والدعوة للقومية العربية في مرحلة الخمسينيات والستينيات بقيادة الرعيل الاول من القوميين الذين اسسوا جمعيات سرية وهيئات سياسية، واحزاباً، وكان العراق السباق في اقامة الحركة القومية هدفا لإقامة المشروع القومي.
ونقلا عما قالته باحثة امريكية في المجال التربوي (بأن العراقيين استخدموا المدارس وسيلة لزرع العقيدة القومية رغم اعتراض المستشارين الانكليز المنتشرين في المؤسسات الرسمية كافة في العراق على نشر الفكرة القومية للفترة 1921 – 1941.. فكان الاحتلال الإنكليزي للعراق يمثل الضربة الموجعة للقوى القومية، وقمعت بعد ان كانت لسنوات عدة تنبض بالحياة والنشاط وكان للطلاب دور سياسي نشط ومؤثر فلقد هزتهم مشاهد تلك المرحلة هزا عنيفا فكانت النكبة مؤثرة وجارحة لإبناء ذلك الجيل الذين رأوا وعاشوا يوميات الهزيمة المنكرة، الهبت مشاعر الشباب العربي وشد انظاره الى الاخطار المحدقة بالأمة العربية منذ النكبة في عام 1948، فأطلقت اول صرخة احتجاج شعبية كبرى ضد ضياع فلسطين ولايزال دويها يسمع في الارجاء..
عذرا للقوميين العرب في الشتات العربي لما اصابهم من ترهل سياسي تعتاش على حاضر عربي شاذ فاسد سياسيا وفكريا واجتماعيا بفعل العوامل المؤثرة في جسدها الضاوي تحاول فك الخناق على حركة التطور القومي العربي في الواقع المزري المتعفن بالإرضة والعثة على امتداد اسوار القومية التي انتهك عرضها في الشتات لا تستطع مواجهة الحملة الشرسة من المتغيرات المتشابكة، ولم يعد لها القدرة على المناورة.. عذرا للقوميين العرب وانا اراها غير مكترثة لما يجري حولها من احداث مروعة، ولم تنخرط في تجمع سياسي موحد للملمة الشتات تؤمن بوحدة الهدف والمصير والانطلاق في الشروع بالتغيير في الحداثة لتواكب مستجدات العمل القومي بدل التشرذم الذي نخر جسدها بعد النكسة في عام 1967، وتشظيها الى حركات صغيرة، وما آلت على نفسها الرحيل من تغيير في المواقف والتأثير في الواقع العراقي الرث، وتحت يافطات متنوعة تتخذ من المهجر مقرا لها لترخي سدولها في ليالي دمشق المقمرة، وفي بيروت والقاهرة وفي أماكن اخرى وتتخذ من مقاهيها سمارا للتناغم الحميمي في العلاقات الفكرية، وتدخن الأراكيل وتحتسي الشاي الساخن ومن القهوة العربية مشربا تتضوع بهيل السنين الموجعة بالحنظل من غير ان تفعل شيئا ذا بال يطمر خذلانها وخيبتها.. عذرا للقوميين العرب وانا ارى الخراب يولغ في تنظيماتها واصابت عقلها بفقدان الذاكرة السياسية، وما كتبته من نقد ذاتي لم ارم منه نقدا شخصيا او ذاتيا بقدر ما كنت ارمي الي تسجيل ملاحظات نقدية تراكمت في العقل المخبول بالأوجاع بما وقعت فيه من اخطاء والهروب نحو المجهول لم ترتق الى مستوى النكسة نابعا في كتاباتي من قلب عصفت به سنوات المحنة المكتظة بالضحايا والدم واوجعته النازلة التي حلت بها الآن..
ودمغت عقلي بالكثير من الصداع الفكري حاولت جاهدا رأبه، وقد يكون قد اخطأت في تحديد المسارات ووقعت في الخطأ المميت وتحت وطأة الشطحات بفعل المخزون الفكري وما تعرضت له من طقس ملتهب بالايديولوجيات ومحاورات سفسطية، محاولا من ذلك الفنار دليلا لمسار الشباب القومي نحو الهدف كقاعدة فكرية لإعادة الهيبة للفكر القومي الناصري ورسم خريطة تنفح بالمثالية والواقعية والرومانسية تسيغ بالخيال الذي طالما كانت الحركات تسبح في فضائه وتشوبه جذاذات من الآراء الضالة في الفكر القومي العربي..