عجائب بغداد والتداخل الأسلوبي بين الوثائقي والعجائبي
العنوان يكسر أفق توقعات القارئ
أحمد عبدالجبار النعيمي
إن المتتبع لخطاب السرد الروائي ما بعد 2003 م ، يتلمس مديات الانشغال الجمالي في تفعيل دوال البنية السردية ، وتثوير طاقة اللغة بأقصى مدياتها ، في إعادة إنتاج الوقائع الصاخبة ، والمتغيرات الدراماتيكية الحادة والمستمرة للمشهد السياسي ، وصدى ذلك على البنية الاجتماعية وتجلياتها الأخلاقية ، التي تهشمت وانهارت بسبب التدخل ألقسري للديني في السياسي ، واندلاع الاحتراب الطائفي الذي لم تخمد نيرانه إلى هذه الساعة ، مما آل إلى بزوغ حساسيات مختلفة في قراءة هذا الواقع واستنطاق خباياه العميقة ، ومحاولة تفسيرها على وفق منظور مؤطر بأبعاد فكرية وبرامج جمالية يتبناها الروائي العراقي المعاصر ، وقد التمعت في فضاء السرد العراقي إيقونات أدبية انحفرت رؤاها الجمالية والفكرية عميقا في ذاكرة القارئ ، منها على سبيل المثال لا الحصر ، رواية حارس التبغ للروائي العراقي علي بدر و رواية المحرقة لـ قاسم محمد عباس ورواية ريح السموم للروائي عبد الزهرة علي …. والقائمة تطول ، والسبب في تفتق الوعي السردي لدى هؤلاء الكتاب هو التحرر الكبير، والانفتاح الابستمولوجي الضخم على مدارات الفلسفة والتاريخ ، والوسائط التعبيرية الأخرى ، الفنية منها والأدبية .
المكتبة الأدبية
لسنا بصدد تقديم موجز عن المنتج الروائي العراقي بعد 2003 م ، بقدر تأشير علامات جمالية أرتقت في خطاب السرد العراقي ، ومنها نقف اليوم أمام محطة مهمة ، ونجمة ساطعة في فضاء الأدب العراقي ، في تقديمنا لقراءة متواضعة لرواية عجائب بغداد للقاص والروائي والصحفي وارد بدر السالم الذي أتحف المكتبة الأدبية بالكثير من المدونات السردية التي أتفق اغلب نقاد السرد العراقي على مدى تميزها فكريا وجماليا .
ويؤسفني أن انشغل بالنص عجائب بغداد ، وأقصي جانبا مهما جدا وهو حياة المؤلف ومرجعياته الفكرية والجمالية والتاريخية ، لأن ذلك يحتاج الى فضاء نصي أكبر من ذلك ، قد يتسع الى رسالة ماجستير ، أو أطروحة دكتوراه .
الدراسات النقدية الحديثة أولت عناية فائقة للتركيب الدلالي لعتبات النص ، بما فيها العنوان ، باعتباره محطة نلج من خلالها إلى البنية الدلالية للرواية ، ويشكل عنوان الرواية عجائب بغداد أول إشارة من المرسل الناص إلى المتلقي ، فهو جزء من الشبكة الدلالية للنص ، باعتباره بؤرة تتجمع فيها دلالات عديدة تكون بمثابة مفاتيح إن أحسن المتلقي قرأتها وتأويلها . باعتبار العنوان دلالة صغرى لا تعمل باستقلالية عن الدلالة الكبرى للرواية وأرى أن العنوان كدال يشكل بنية مستقلة يكتسب مدلوله بعد ملاقاة النص والتنقيب فيه ليصبح دالاً على النص ككل ، وبعد قراءة متأنية لرواية عجائب بغداد ، أكتشف مدى الاقتران بين العنوان كنص يحيل الى فضاء زمكاني يشكل مرحلة مهمة من تاريخ العراق ، ومن الوهلة الأولى لملاقاة العنوان يتهيأ القارئ للولوج إلى عوالم عجائبية غير مألوفة بالنسبة للأخر تكسر أفق توقعه وهكذا يدخلنا العنوان بشكل مباشر في الوضعية الأساسية لدراماتيكية المتن الحكائي ، الذي تشكل على وفق صيرورة زمنية أفصحت عن موقف فكري وجمالي من قبل الكاتب تجاه ما جرى ، حيث ينفتح السرد مترشحا من خلال سارد مشارك في الحدث ، يعيد سرد الحكاية ويدير دفتها على وفق مكونه النفسي المربك كونه ولج فضاء ساخنا تستعر فيه الحرب الطائفية ، و تأجيج نار الإرهاب بأقصى طاقاتها ، وعلى وفق منظور أيدلوجي غير واضح للعيان كونه يفتقد إلى الانتماء ، أو يعاني من ضياع الهوية تجاه بلده العراق ، يعمل صحفيا ، في زمن اندلاع الحرب على الصحافة خاصة بعد مقتل الإعلامية الشهيرة أطوار بهجت والتمثيل البشع بجسدها ، ليهيمن بذلك على إستراتيجية تركيب الزمن نسق السرد المتتابع إضافة إلى ما تعتريه تكسرات سردية تسهم في أغناء التركيب البنائي لشخصية السارد وخلفيته الاجتماعية والنفسية ، وهكذا يبدأ بتصوير الطقوس اليومية في المنطقة الخضراء و فندق الشيراتون ، مقترنا بعلاقة عاطفية عميقة مع زميلة أمريكية له ، إضافة إلى معايشته لزملاء من مغامري الصحافة والإعلام ، وفقدانه إياهم إمام أم عينيه ، حيث تتكرر الخسارات الإنسانية ، هكذا يتجول في شوارع العاصمة مجسدا حسب رؤيته ، سريالية الواقع الدامي ، الذي تتطاير فيه الأشلاء ، وتتحول فيه رؤوس ضحايا الإرهاب والاحتراب الطائفي إلى كرة قدم ، فلا يبقى سوى الكلاب المسعورة التي تجوب الطرقات ، مجسدا بذلك الكاتب من خلال رؤية السارد التي تتشكل من خلال اللغة النثرية العليا ، مشاهد تنهل جماليا من كشوفات السرد الفيلمي الحديث الذي تتجلى بوضوح من خلال رصد السارد لمناظر تتشكل سينماتوغرافيا عن طريق اللغة ، حيث يتناول السارد وجبة طعام شعبية في أزقة بغداد ، مع سقوط كف يد بشرية بجانبه ، يلهو بها أطفال المدينة ، و ببراعة السرد الذي يتحول مونتاجيا بسلاسة كبيرة راصدا مدى فجاعة الموقف الذي خلقت فيه بلاغة اللغة تماهيات بين الطعام والكف المقطوع ، الذي جر ذاكرتي كقارئ الى مشهد معروف في أدبيات التنظير السينمائي ، لفيلم كلب أندلسي للمخرج الفرنسي لويس بونويل حيث يتجمع الناس أمام كف بشري مقطوع ، وهكذا يتداخل الرصد التوثيقي للسارد ، مع تجسيد مشاهد مغرقة في الخيال العجائبي ، الذي يكشف عن شناعة ما حدث في هذه المرحلة المكارثية من تاريخ العراق ، حيث يتجلى للإعلاميين أمام عتبة الشيراتون رجل بلا رأس ، يبحث بدأب عن ما فقده على يد الزرقاوي ، إضافة الى تعرف السارد على شاب مسرحي ، يحمل معه أصبع أخيه الذي خرج رافضا الموت منفصلا عن جسده ، وهذا الإصبع اختاره الكاتب ليكون شفرة ثقافية شعبية لدى العراقيين انسنها الكاتب من خلال حركاتها التي تسخر وتعترض وتعلق ، وتتفتق دلالته التي تعبر عن موقف الكاتب في مشهد بصاق الإصبع في وجه احد الإعلاميين الأمريكيين أثناء لقائه مع شخصية الأستاذ ، ليتحول الإصبع دلاليا إلى عضو تناسلي منتصب يقذف ما بجوفه ، ناهيك عن فتاة جميلة تحرق في إحدى المناطق الساخنة ، ولا يبقى منها الا بقايا رماد يحتفظ فيه الأب بقارورة يحملها معه أينما ذهب ويتحاور معها مؤنسنا الرماد كبقايا أثر أنساني ، والغريب في ذلك إن القارئ يتلمس انسجاما كبيرا لتداخل الرؤى العجائبية في جسد المشهد الواقعي ، وكأن واقعنا خارج أطار أي معيار تحدث فيه الغرائب التي لا تحيل الا لذلك الواقع ، الذي تشكلت صيرورته من جراء صراع دراماتيكي مزمن ، من المنطقي ان تحدث فيه عجائب في زمن فقدت فيه المعجزات .
رجل يجوب البحار
ويبث السارد بؤرا دلالية ، تتعمق لدينا فيما بعد ، وكأنها ثيم مرجئة دلاليا ، حيث يفصح عن اغترابه عن العراق ، وإشكالية شعوره المستديم بفقدان الهوية كونه ابنا لرجل يجوب البحار معوما من دون أي انتماء بسبب احباطات وخسارات لا تنتهي أودت به إلى اليأس من الانتماء الى أي بقعة أرضية ، تتعمق ثيمة هذه البؤرة المركزية في تركيب الشخصية البنائي والنفسي من خلال مشهد ارتقاء السارد على سطح احدى الزوارق التي يقودها صياد ، تتجسم شخصيته فيما بعد من خلال الحوار الدائر بينهما ، حيث نكتشف المهنة الحقيقية له ، وهي سرقة ما في جعب الأجساد الطافية على نهر دجلة ، بعد قتلها من قبل المتأسلمين الذين يقتلون باسم الدين ، وهكذا يعثر لدى الرجل على عدد هائل من مستمسكات الموتى الشخصية ، فلا يبقى ما يحيل عليهم سوى الهوية كأثر دال على كينونة الشخصية الانطولوجية ، التي يفتقدها مرجعنا السردي ، و بالتماعة ذكية من قبل الكاتب يسرق السارد أحدى هذه الهويات ويدسها في جيبه كتعويض عن الفقدان المزمن الذي يعاني منه ، ومكمن البراعة في إستراتيجية المعالجة الفنية لهذا المشهد هو التعالق مع تعبيرية السيناريو السينمائي وتوظيفاته لوسائل التعبير الفيلمية عن طريق اللغة ، التي فجرت بنى المشهد السمعية والمرئية ، حيث يتهادى ايقاع البناء المونتاجي بين مقاطع السرد والحوار والأصوات المرعبة للكلاب ورائحة الموت التي تصورها اللغة ، حيث تتطابق حركة الانتباه الطبيعية لمدركات القارئ الذهنية على وفق معيار يتماهى مع التدفق السمعبصري للعرض الفيلمي ، بسلاسة لا يمكن ان تتم إلا من خلال هذا الخيار الجمالي الذي وضعنا أمامه الكاتب ، وهذا صلب الحداثة الروائية التي تعاملت بحساسية فائقة مع جماليات السرد في سيناريو الفيلم السينمائي ، وحضور التفكير الفيلموسوفي في بنية هذا المشهد الحواري الذي أغناه بأدق التفاصيل البانية لشخصية الصياد.
والحقيقة تعد شخصية الصياد من الشخصيات التي يتمركز حولها الروي كونه بؤرة دلالية مهمة شاهدة على مئات القتلى الذين أزهقت أرواحهم ، وضاعت في تلافيف دجلة ، إضافة إلى احتفاظها بتلك الهويات التي سيعلن عنها أمام الإعلام ، الذي يفضح شناعة فعل الاحتراب الطائفي ، والإرهاب ، والسفه السياسي الذي يودي بحياتها في نهاية الرواية .
ومن الشخصيات المنحوتة بمهارة درامية سردية فائقة ، شخصية الأستاذ الجامعي الذي يقاد أمام طلبته خارج أسوار الجامعة من قبل متأسلمين بارعين في صوغ التهم والمسوغات الشرعية للفظ العقول المعرفية خارج أسوار مملكتهم الظلامية الجديدة ، يتمرد على كل هذه المنظومة السياسية وكل تجلياتها الأخلاقية الوليدة ، منتصرا لإرادة العقل والمعرفة التي تنشد التغيير السليم ، خالقا بذلك مدينته الفاضلة التي ابتناها من الصفيح ، وجمع فيها مختلف الديانات التي تتألف بانسجام فكري كبير ، لا يحكمه سوى الانتماء إلى المعرفة .
وقد سعى الكاتب جاهدا في خلق بنية مكانية من خلال اندغام الوصف كشذرات متشظية في فقرات السرد ، وهذا ما جعل القارئ يفعل أفقه القرائي في تشكيل وتوليد معمار المكان الذي يكتسب صيرورته الدلالية من الحدث الذي يجري فيه .حيث اكتسبت قرية الأستاذ ، كمعمار بدائي يقطن فيه جمع متهالك من أناس أهلكتهم حماقات الحرب والاصطراع السياسي والطائفي ، منشئا بذلك الكاتب بنية مكانية مفترضة يأتلف معها السارد بقوة كونها تشكل البذرة الأولى لانتمائه المعرفي و فضاء فسيحا اكتسب فيه هويته وكينونته الوجودية ، حيث تتحول الحياة داخل هذه القرية إلى عرض مسرحي أبدي ، تشكل المقهى واجهة للقاء الوجوه الكالحة والمنكوبة ، حيث يقام عرض مسرحي بإدارة الأستاذ والمخرج المسرحي الشاب الذي يتعرف عليه السارد ويدخل بواسطته لقرية الأستاذ ، وتتحول جدران المقهى إلى واجهة لعرض هويات الغرقى التي ينتشلها الصياد من الغرق في غياهب دجلة ، تتجمع أهالي هؤلاء المفقودين ، حيث يرصد لنا الكاتب في حس درامي تجليات العصف الذهني لذويهم ، وهذا ما يتماهى كاستعارة واضحة مع صورة العراقيين المتجمعين في المقابر الجماعية الذين يبحثون عن آثار تحيل إلى أولادهم الذين تحولوا الى بقايا عظام وقطع ملابس قديمة وهويات أعادت إنتاج كينونتهم كشهداء ، وكأن الروائي يريد أن يقول ان مسلسل القتل الجماعي والمجاني يتوالد ويستمر حتى مع هذا المتغير السياسي المزعوم .
تثير هذه القرية التي تشكل علامة متضادة مع المنطقة الخضراء التي تشع بالترف السلطوي الخاوي والملي بالشواذ ورجال السلطة الجدد الذين يسخر منهم السارد بوضوح في مشهد ينهل تجسيده من جماليات الحوار المسرحي القائم على التكثيف والتأزر مع البناء التشكيلي للصورة التي يحاكيها الكاتب لغويا ، حيث تعرف لورا كل منهم للسارد بطريقة مثيرة لضحكه ، على عكس إستراتيجية تقديم شخصيات قرية الأستاذ الذين يجعلنا ننبهر بنبلهم ، ومدى انتمائهم للخطاب المعرفي للأستاذ الجامعي ، الذي يعتبر من أهم الشخصيات التي يجعلنا الكاتب نتعايش معها من الداخل مقدما أطروحاتها الفكرية من خلال معالجة سردية غاية في الذكاء والفرادة ، حيث يتحاور مع احد الإعلاميين الأمريكان في وسط المقهى الذي هو في حقيقته قلب القرية لنكون أمام حوار أعلامي في وسط عرض مسرحي جاري السريان في طقس عجائبي نابع من الواقع ، ويختتم الكاتب بنيته الروائية بمشهد هجوم على القرية التي تتهم بالفجور والتمرد الديني في بلد تتسيده ولاية الفقيه ، ومنظمات إرهابية ، تعبر عن أصواتها من خلال صحف رسمية تتسيد صفحاتها اليومية منشيتات تسيء قراءة الطموح المعرفي والإنساني لقرية الأستاذ ، وبذلك تنتهي الرواية بالهجوم الشرس على القرية ، حيث تزهق روح الصياد المنقذ الوحيد لهوية المواطن صريع الاحتراب والتأزم الطائفي الذي لا يتوقف .
وخلاصة القول إن مكمن الفرادة الروائية في نص عجائب بغداد قائم على آلية كسر التجنيس لانصهار العديد من الأجناس الأدبية والخطابات الفنية وغير الفنية قديمة أو حديثة في نصوصه ، تصطرع وتتفاعل في الفضاء النصي للرواية . مولدة أصوات عدة ، ألا أنها مدونة أدبية تبقى محافظة جماليا على هويتها الاجناسية على الرغم من انفتاحها الاجناسي . وهذا ما يؤكد حيوية النص الروائي كونه جنساً أدبياً مستقلاً بذاته لكنه غير منقطع عن الانفتاح على الكشوفات النظرية والتطبيقية والانقلابات الفكرية والجمالية للأجناس بأنواعها الأدبية والفنية بشكل أو بآخر ، حيث نجد في رواية عجائب بغداد فصولا عدة مرصعة بعنوانات تقترن دلاليا مع ثيمة كل فصل ، وقيمة الرواية في كونها بوتقة تتلاقح وتتنافذ وتنصهر بها تقنيات فنون وآداب عدة لذا يصبح شكلها متمردا على الحدود والقواعد. إضافة الى تفعيل اللغة الروائية بأقصى طاقتها البلاغية لتتماهى تعبيريا مع لغات فنون أخرى كالسينما والمسرح والحوار الإعلامي ، وبذلك تتعدد الأصوات التعبيرية في بنية السرد ، وتتحول إلى كتابة عبر نوعية لا تحيل إلا لذاتها .
/7/2012 24 Issue 4259 – Date Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4259 التاريخ 24»7»2012
AZP09