عبد الوهاب البياتي ( 2 ) – نصوص – عبدالرزاق عبد الواحد
هذه القصيدة عنوانها ( خيانة ) .. وهي واحدة من أفضل قصائد البياتي .. وكانت آخر طعنة وُجّهت إلى قلب السياب وهوعلى فراش الموت. لقد كانت القصيدة موجهة إليه !
* * *
نحن في عام 1959 . وكنتُ رئيس أول وفد عراقي يزور الإتحاد السوفياتي آنذاك بعد ثورة تموز 1958 . بعد وصولنا إلى موسكو بثلاث ساعات ، زارني في الفندق وفد من ثلاثة أشخاص: رئيس القسم العربي في إذاعة موسكو ، والمترجمة المعروفة ” أللاّ كراد سكايا ، التي ترجمت الكثير من شعرالبياتي إلى الروسية..وممثل عن اتحاد الكتاب السوفييت . قالوا :” أُعلن رسمياً أن ا سم رئيس الوفد عبد الرزاق عبد الواحد ..فهل هو نفس الشاعر الذي نذيع له أحياناً قصائد من إذاعة موسكو ؟ .” قلت مبتسماً : نعم . استقبلوني بحفاوة بالغة .. وفي أول جلسة لنا مع بعضنا قالت المترجمة كرادسكايا :” كيف حال الشعر عندكم ؟ قلت: أحسن ما عندنا الشعر ! .” قالت مندهشة :” عجيب ! . لدينا شاعر تقدمي منكم ، ا سمه عبدالوهاب البياتي ..” قلت : أعرفه ، فهو صديقي .قالت :”ولكنه يقول ( ليس في العراق شعراء .هناك شاعر قديم ينسج على منوال شعراء القرون الوسطى ، اسمه الجواهري .. وهو شاعر لا يفهمه أحد !! ، ولا يحبه أحد !! . وثمّة شاعر آخر شاب اسمه السياب .. هذا بعيد عن هموم الناس ومعاناتهم !! . . إنه غريق في ذاتياته . أنا وحدي أتحمل عبء الدفاع عن الإنسان العراقي .. يحفظ شعري الرعاة ، وصيادو الأسماك !! ) .ضحكت وأنا أقول : ” سيدة كردسكايا .. للرعاة وصيادي الأسماك في العراق شعرآخر يغنونه،إن كانوا يغنون ! هو غير شعري ، وغير شعر البياتي .” قالت وهي تنظر إلي بما يشبه الإتهام : ” ولكن الذي أعرفه أنهم يغنون شعر البياتي وهم يلقون شباك الصيد .. ثم وهم يسحبونها .. أحدهم يغني ، والآخرون يرددون بعده .!! ” .كنت أحاول أن أتملص من هذا الحديث الذي أخذ يحرجني أكثر مما يحرج البياتي .. وذلك أن الناس احتـفوا بي كعراقي احتـفاء مبالغاً فيه إكراماً لثورة العراق التي أرأس أول وفد لها إلى بلادهم .. وعملية تكذيب شاعر عراقي معروف لديهم بتقدميته ، وفي كل كلمة قالها ، مسألة تسيء لي ولبلدي ، وتعطي عنا فكرة توجع القلب ! .
يا دكتور علاء الخزرجي .. من أين لي بك الآن ؟! . لقد كنتَ يومها طالباً في الإتحاد السوفياتي .. يوم زرتـني في فندقي مستنجداً وأنت تقول : “أدركنا يا أستاذ عبد الرزاق . إن عبدالوهاب البياتي يضعنا كل يوم في مأزق لا نُحسد عليه .” وحين سألتك : ماذا فعل ؟. قلتَ :” لقد ادعى أنه حكم عليه بالإعدام مرتين .. وفي المرتين ثار الشعب العراقي بأسره ، وأنقذه في اللحظات الأخيرة من حبل المشنقة !!”.
أتذكر ذلك يا دكتور علاء ؟! ..وهل تذكر ما حدّ ثـتَني به عن ورطة الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت ، حين كتب عن البياتي يقول : ( إن شاعراً يحكم عليه بالإعدام مرتين .. ويثور شعب بأسره مرتين لإنقاذه من حبل المشنقة ، لشاعر جدير بأن يُقرأ!!) . . أتذكر ذلك ؟! .ولم أ ستطع أن أقدم لك عوناً حين ا ستنجدتَ بي يا دكتور علاء .. فماذا كان يمكنني أن أفعل ، سوى أنني قلت للمترجمة كردسكايا : ” أيتها السيدة . إن أكبر طلائع النضال في وطني كانوا من الشعراء .. وسأرسل لك شهوداً من دواوينهم ” وأرسلت بعد عودتي 58 مجموعة شعرية عراقية ، تعكس أصالة هذا الوطن الذي أنكر البياتي حتى نضال إخوته فيه ! .
* * *
المثقفون في العراق يعرفون جميعاً الحادثة التالية..ويتندرون بها .. ( عشرين قصيدة من برلين ) .. مجموعة شعرية للبياتي صدرت وداخلها عشرين لوحة لواحد من أكبر رسامي المقاومة الألمان في الحرب العالية الثانية..مع كل قصيدة تخطيط .الذي لفت نظرنا في وقتها أن كل قصيدة والتخطيط الذي معها كانا بمثابة ترجمة حرفية الواحد من الآخر .في صدر المجموعة ثُبـِّتتْ بزهو شديد العبارة التالية : (التخطيطات الداخلية ، رسمها خصيصاً للمجموعة الرسام العالمي الشهير فلان الفلاني .)يومها ، كان هذا حدثاً هزّ الوسط الأدبي والثـقافي بأسره .. لا لأهمية قصائد المجموعة ، فهي أسوأ شعر البياتي .. ولكن لأن هذا الرسام العالمي الكبير يتبرع بترجمة عشرين قصيدة لعبدالوهاب ترجمة متقنة إلى لوحات ! .يوم واحد مرّ على صدور المجموعة . كنا شلّة أصدقاء بيننا المرحوم ناظم توفيق .. وكان واحداً من أبرز مثقفي جيلنا. فجأة اختطف ناظم المجموعة من يد صاحبها وهو يردد : ” هذه اللوحة أعرفها .. أنا لا أخطيء .. ذاكرتي لا تخطيء ! ” .وذهب ناظم إلى بيته .. وانصرفنا إلى بيوتنا . بعد أيام جاءنا ناظم ومعه عدد من مجلة الحرب العالمية الثانية .. فتح المجلة، وإذا بنا أمام اللوحة التي أشار إليها في الديوان ! .بعد شهور رُويَت لنا الطرفة التالية : قالوا .. في إحدى سفرات البياتي لأوربا ، التمس من بعض معارفه أن يوصله إلى رسام المقاومة الألماني المشهور ( فلان الفلاني ) .. وأثناء زيارته له طلب البياتي صوراً من بعض تخطيطاته للذكرى ، فاستنسخ له الرسام عشرين تخطيطاً .خلال أيام قام البياتي بترجمة الخطوط إلى كلمات ، ترجمة حرفية .. ووصلت نسخة إلى الرسام فثارت ثائرته .. كيف أقدم شاعركم على نشر لوحاتي في كتابه دون استئذان ؟؟! ..فلما قيل له إن صاحبنا كتب على غلاف مجموعته أن التخطيطات رُسمت خصيصاً للقصائد ، جُنّ جنون الرجل ، وراح يردد :” ولكنكم قلتم لي إنه شاعر تقدمي .. وإنه مضطهد بسبب تقدميته !! ” .
عبدالوهاب البياتي ( 3 )
في أحد المرابد عقد معي الدكتور رجاء نقاش حديثاً مسهباً عن الشعر في العراق . خلال الحديث ، سألني رجاء عن تبادل المواقع الذي حصل بين السياب والبياتي ،وكيف وصل الثاني إلى مجلة (الثقافة الجديدة ) وتصدرها .في اليوم التالي ، بينما كنت جالساً مع مجموعة من الشعراء والأدباء العرب في صالة الفندق ، إذ أ قبل البياتي ، وطلب إلي وكله يرتجف ، أن نتحدث على انفراد . قمت من مكاني ووقفنا غير بعيد عن المجموعة كانت أمامنا منضدة..وإذا بعبد الوهاب يخط بإصبعه على المنضدة وهو يقول : ” يَعمن .. أنا أقدر أخط اسمك.. وأمحوه ! . ” قلت بشكل مفاجيء :” أيـَّباه !! .. بأية قوّة تتكلم الآن عبدالوهاب ؟..بقوتك أنت .. أم بقوّة مضافة ؟! ” قال : أنا حذّرتك .” قلت : ” إ سمع يا عبدالوهاب .. أنت تعلم عن نفسك كل شيء . ربع ما تعلمه عن نفسك كفيل بتهديمك تماماً ! .. وأنا أعرف أكثر من هذا الربع !! .”فجأة تحولت لهجة عبدالوهاب إلى ما يشبه البكاء وهو يقول:”لماذا لا تريدونني أن أعود إلى وطني ؟.إنني أحاول الرجوع إلى أهلي وبيتي ، فلماذا تضعون الحواجز في طريقي ؟؟ .”قلت : ” الآن .. وبعد أن تضع تهديداتك البائسة جانباً .. يمكننا أن نتفاهم . قل لي ، ماذا وضعت أنا في طريقك ؟؟.”كان رجاء النقاش قيد خطوتين منا ..وكان يسمع كل كلمة من حديثنا .. وسمعه الأدباء الآخرون أيضاً .قال عبدالوهاب :” ماذا قلت في مقابلتك لرجاء النقاش ؟ .” في تلك اللحظة ، وثب إليّ رجاء مقسماً .. قال : ” والله يا عبد الرزاق .. لم أ قـل له أي شيء ، ولكنني عقدت معه لقاء بعد لقائي معك .. وقلت له في اللقاء : يقول بعض معاصريك أنك استغلّيت الفجوة التي تركها السياب بانسحابه من الشيوعيين ، وهرعت لملئها.. قال رجاء : فأوقف البياتي اللقاء .. وذهب سائلاً عمّن عقدتُ معه مقابلة أمس ، واهتدى إليك ! . أنا لم أخبره شيئاً .”قلت : “طيّب يا عبدالوهاب . ماذا تريد الآن ؟ .” قال :” إلغاء ما قلته لرجاء النقاش عني وعن بدر .”فالتفتُّ إلى رجاء قائلاً : “أخ رجاء .. إمسح من الحديث كل ما يتعلق بعبدالوهاب . “شكراً .. قالها عبدالوهاب ، واندفع مسرعاً إلى رجاء : ” هيا بنا .. سنمسح هذا ، ونواصل حديثنا !!. “
هل خرجتُ عن واقع الحديث بكلمة واحدة يا دكتور رجاء ؟؟ .. أنت شاهد على كل كلمة فيه ! .
* * *
سيقول لي القارئ:كنت تحاول أن تتجنب الكتابة عن البياتي ،وإذا بك تكتب عنه أكثر مما كتبت عن أقرب أصدقائك إليك !! . فأقول : لن يمتدّ لقائي بالبياتي إلى أكثر مما ذكرت . لقد جمعته كله في هذه الصفحات لكي لا أعود إليه في غيرها ،ذلك لأننا لم تتداخل بيننا تفاصيل الحياة إلا بقدر محدود .
يوماً ما كنا أنا وسعدي يوسف ،ومعنا قرابة مئة شاعر من مختلف أنحاء العالم ، نركب الطائرة بين بلغراد ومكدونيا ، متوجهين إلى مهرجان (ستروكا ) الشعري العالمي .. كان ذلك في أوا سط السبعينات .. وإذا بأحد الشعراء الأجانب يقول : ” هناك الآن شاعر أقصى أمنية لديه في هذه اللحظة أن تحترق هذه الطائرة ! .” فالتفت سعدي إليه قائلاً : ” البياتي ! ” وإذا بصاحبنا يضحك ضحكة عالية وهو يقول :” كيف عرفت ؟ ” قال سعدي: ” إنه صديقي ! .”
حين أتجاوز هذه الوقائع ، وغيرها كثير .. وأنصرف إلى عبدالوهاب الإنسان ،خارج حدود نرجسيته الأدبية .. أجد مادة ممتعة أخرى للحديث عن عبدالوهاب .أثبت هنا أن البياتي محدّث بارع ، وإن كان جلّ حديثه في ثلب الآخرين ! . وهو كريم النفس .. سخيّ اليد..لطيف المعشر حين لا يزاحمه المعشر على شيء ! . أما أنك لو قلت أمام البياتي بأن هناك عتّالاً يستطيع أن يحمل نصف طنّ من الحديد ،لزعل البياتي،وكذّب الخبر !.. ذلك أن عبدالوهاب لا يريد أن يسمع بإنسان لديه صفة متفوقة ، حتى ولو كان شيّالاً ! .
حدثني مرة شاعر عراقي معروف ، قال : ” التقيت بعبدالوهاب في معرض الكتاب في القاهرة . كان ذلك قبل حوالي عشرين عاماً . يقول صاحبنا الشاعر : وكان عبدالوهاب كلما صادفنا أديب ، وسلّم على أبي علي .. قدّمني إليه قائلاً : ” أعرفك بالأستاذ فلان .. أول رئيس للإتحاد الفلاني في العراق ! .” فلما كان المساء .. وتناولنا كأسين أو ثلاثاً ..خرجنا نتجوّل في شوارع القاهرة ليلاً.. وعند أحد المنعطفات ، وجدنا رجلاً كهلاً يبيع المشويات في عربة ، فاقترح البياتي أن نتعشى عنده . قال صديقنا الشاعر : كان أبو علي منتشياً .. فوضع يده على كتف بائع المشويات وهو يقول :” إعتنِ جيداً بالطعام .. فصديقي هذا واحد من ألمع الشعراء في العراق ! .””ويضحك صديقنا الشاعر من كل قلبه وهو يواصل التذكر قائلاً :”التفتُّ إلى أبي علي متسائلاً وأنا أضحك:يا أبا علي..ألم تتذكر كوني شاعراً إلا أمام بائع المشويات؟! “
هذا هو عبدالوهاب تماماً !. وعبدالوهاب لاذع .. لاذع في نكتته ..لاذع في تعقيباته على الآخرين ، وفي ما يطلق عليهم من أوصاف .. وفي طريقة استعماله الصفة شيء أوجع من مجرد النكتة ! .. وهو يتقصده ! .
كان يحدثني مرة فقال : ” دخل هذا الولد الذي يغنّي .” قلت : أيّ ولد ؟ . قال : هذا الطويل النحيف الذي يغنّي .. ” وكنت أعلم من كان يقصد ، ولكنني تماديت في التجاهل لأرى الى أين يصل أبو علي ، فقال : هذا .. كريم .. فائز .. فوزي .. هذا الذي يغني ، أنت تعرفه ! ” .وكنت أعرفه ، وأعرف أكثر أن البياتي يعرفه أفضل من معرفتي .. ولكنه كان يظن أنه يقلل من شاعرية فوزي كريم بإهمال كونه شاعراً ، والتركيز على أنه يغنّي .للتاريخ ، أثبت هنا أن أكثر ما أحببته من شعر البياتي ، تلك المقاطع التي كان يغنيها فوزي كريم بذلك الصوت والأداء الذي لا يُنسى ! .
هذا الولد ” اليرتل ” .. اليرتل بالرّاء ، أنت تعرفه.. وبعد مناورة طويلة ، أفهم أن عبدالوهاب يريد أن يقول شيئاً عن الشاعر المرحوم رشدي العامل ! .
ويبقى عبدالوهاب البياتي شاعراً أكثر شهرة حتى من المتنبي ..والجهد الشعري ، وغير الشعري ، الذي بذله من أجل شهرته ، يستحق عليه كل الإعجاب !
* * *


















