ذكرياتي 74
عبد الوهاب البياتي ( 1 ) – نصوص – عبدالرزاق عبد الواحد
بصراحة .. أوشكت أن لا أكتب عن البياتي لسببين : أولهما أن معرفتي بعبد الوهاب ليست معرفة عميقة ، فنحن ، وإن كنا طالبين معاً في دار المعلمين العالية .. هو في الصف الثالث ، وأنا في الصف الأول .. إلا أننا لم نكلم بعضنا خلال السنتين إلا مرة واحدة ، أهداني فيها ديوانه (ملائكة وشياطين ) ربما كان للجفوة بينه وبين السياب أثر في ذلك ، والسياب صديقي الأثير آنذاك . وربما لأن عبدالوهاب – كما يبدو لي – كان قليل الإختلاط بالطلبة .. هذا في أوقات الدوام ، أما بعد ذلك ، فالبياتي كان من أهل( البرازيلية).. ولم يكن يلتقي مطلقاً بأهل حسن عجمي ! . وقد لاحظت أن الفجوة بين البياتي والسياب ، هي نفسها – إن لم تكن أكثر اتساعاً – بين البياتي وجميع شعراء المجموعة التي عشت معها .
السبب الثاني الذي أوشك أن يمنعني عن الكتابة عن عبدالوهاب ، أن معظم ذكرياتي عنه ليست وليدة عشرة حقيقية ..إنما هي أحداث مرّت بنا ، وانطباعات تولدت عنها .. وهي في معظمها ليست في صالحه ! .. فإن كتبتُ ، بدوت للقاريء وكأنني لست حيادياً في ما أكتب .. وماذا تراني فاعلاً وأنا لا أملك مادة للكتابة سوى هذه الوقائع التي هي ذكرياتي ؟!.
قلت أرجئ الكتابة عنه الآن ، ولكنني أحسست أن عيون القراء تكاد تنبت في وجهي وهي تسأل:وأين البياتي في ذكرياتك وأنت طالب معه ،وصديق له لفترة من الزمن ، وقد كتب مقدمة ديوانك ( طيبة ) .. وهو شاعر باذخ الشهرة ؟!.
لهذا قررت أن أكتب عن عبدالوهاب . سأكتب وقائع حدثت .. وسأحاول بكل أمانة أن أحافظ على تسلسلها الزمني ، فقد تعطي هذه الوقائع صورة ، وإن تكن غير متكاملة ، لهذا الشاعر المشهور .لا أكتم قارئي أنني ، منذ هذه اللحظة ، سأقسر نفسي على أن أكون حيادياً ، وأتمنى أن أفلح ! .. هل عرّيت نفسي بما فيه الكفاية ؟!
أحياناً أسائل نفسي : أول كلمات عبدالوهاب لي ، يوم أهداني ديوانه الأول في ساحة دار المعلمين العالية ، كانت كلمات بالغة اللطف .. وكان صاحبها مفرطاً في الدماثة . بينما أول لقاء لي برشيد ياسين ، سمعت بعده تعليقه عليّ بأني أصلح أن أكون قصّاباً ، أما شاعراً فلا ..! ، ومع ذلك نفرت نفوراً عجيباً من البياتي ، وتعلقت تعلقاً عجيباً برشيد .. لماذا ؟! لأنني أحسست بصدق الثاني وحميميته ، حتى وهو يتحدث عني بهذه اللهجة الجارحة .. وبحيادية الأول ، وغربته عني رغم دماثة لهجته المشوبة بالتعالي ، وبالكثير من التصنع . ربما كنت مفرطاً في الحساسية لحظتها ، فقد كانت معي ملهمتي .. وعبدالوهاب – وهو معروف بأسلوبه هذا حتى اليوم – حاول ، أمام هذا الشاعر المستجد ، أن يبدو أستاذاً حتى في تواضعه ! .. ولهذا نفرت منه ! .
المهم أن هذا كان أول لقاء لي بعبدالوهاب .
كنت أتساءل : لماذا لا يشارك البياتي في مهرجانات دار المعلمين العالية الشعرية ، وكانت في وقتها ذروة المهرجانات الشعرية في العراق ؟ . قيل لي إنه يترفع عن القراءة مع الآخرين . ولكن ، كان في الآخرين السياب ، وشاذل طاقه ، ولميعة عباس عماره .. وقيل إن شعره لا يصلح للإلقاء ، بل للقراءة .. وقيل أيضاً إنه لا يحسن قراءة شعره .
في السنة التي تخرج فيها عبدالوهاب ،ألقى قصيدة في حفل التخرج ودّع بها دار المعلمين العالية . بعدها لم أسأل لماذا لا يقرأ عبدالوهاب شعره ! .ثاني لقاء كان لنا في أواسط الخمسينات ، وكنا مفصولين معاً من الوظيفة . في تلك الفترة صرنا نلتقي بين وقت وآخر.كنا معدمين ، وإن كان عبدالوهاب أفضل مني حالاً نسبياً . أذكر أنه اقترح عليّ اقتراحاً بدا لي في حينها كبير الفائدة ، شديد الواقعية . قال 🙁 كلانا يا عبد الرزاق نمرّ بضائقة شديدة..ومع ذلك فنحن نحتاج إلى القراءة . ألا ترى أن من الأوفر لنا لو اشترينا الكتاب مناصفةً ، وتأخذه أنت لتقرأه أولاً ، ثم أقرأه أنا بعدك ، وأحفظه عندي ، ومكتبتي مكتبتك) .طرت فرحاً بهذا المقترح الذي يوفر علي نصف ثمن الكتاب .. بعد قرابة عشرين كتاباً ، التقيت ذات يوم بصديقنا الشاعر رشدي العامل .. ودارت بيننا أحاديث كثيرة .. ثم ، وعلى حين غرة ، قال لي : أتعلم أنني أوفر هذه الأيام نصف أثمان الكتب التي أشتريها ؟ . قلت وقد وخزني قلبي : كيف ؟ . قال 🙁 اتفقت مع البياتي) .. فقاطعته : على أن تشتريا الكتاب مناصفةً..وتقرأه أنت أولاً .. ومكتبته مكتبتك !! . فنظر إلي مذهولاً .. وأدركنا كم كنا معاً مغفّلين ! .
* * *
لي ابن عمٍّ ا سمه سليم غاوي عبدالجبار .. كان معنا طالباً في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية .. وكان مشروع ناقد يلفت النظر ، لولا أن تشعبت به سبل الحياة . حين صدر ديوان ( أباريق مهشمة ) لعبدالوهاب البياتي كتب عنه سليم دراسة بالغة الدقة.. بالغة الذكاء . ما أزال أذكر حتى هذه اللحظة ، الدفتر ذا الخمسين ورقة الذي امتلأ حتى آخر صفحة فيه بتلك الدراسة النقدية المذهلة . قال لي سليم :”أريد أن أقرأ على البياتي كتابتي هذه عن مجموعته .” قلت : بسيطة . نذهب معاً إلى البرازيلية ، وأعرفكما ببعض ، واقرأ عليه دراستك ، وهكذا كان .
ما يزال سليم حياً – أمدّ الله في عمره – * ، ويذكر هذا الحدث بتفاصيله لأنه كلفه ضياع بحث كان عزيزاً عليه ..وأشهد أنه كان عزيزاً على النقد الأدبي في وقته .جلسنا ، نحن الخمسة ، في مقهى البرازيلية..وبدأ سليم يقرأ ونحن نستمع . في نهاية دراسته ، توصل سليم إلى الحكم التالي ، قال: ” عندي أن الغموض الذي يكتنف هذه المجموعة راجع إلى واحد من سببين : إما أن البياتي طارئ على الفكر التقدمي ، لم يستطع استيعابه بعد ، ولا تمثله ، ليكتب عنه بوضـوح .. أو أن أداة الشاعر ضعيفة إلى الحد الذي لا تنهض معه بمهمة التعبير عن أفكاره بوضوح . “
أتدري عزيزي القارئ ماذا كان ردّ البياتي على هذا الاستنتاج ؟ . لقد قال جملة ما زلت أذكرها حرفياً حتى اليوم : ” يَعمِن أعتقد السبب الثاني هو الصحيح .” !!
ما كان مني إلا أن ألتفت إلى عبد الوهاب قائلاً له دون أدنى تحفظ : ” سخَّم الله وجهك .. ماذا بقي إذن منك ؟! ” .أرسل سليم دراسته إلى مجلة ( الثقافة الجديدة ) .. وبقدرة قادر ضاعت الدرا سة ، أو ضُيّعت ، فما نشرت ، ولا عثر لها على أثر !! . حين سألنا عنها بعد وقت طويل ، قالوا لنا : ” شاعر كسبناه .. فما المصلحة في أن تهاجموه ؟؟ .. هكذا ! . وضاع المقال .. وبدا أمامنا واضحاً ماذا يعني الإبداع عند هؤلاء المعبَّئين بلا شيء سوى الوصول إلى السلطة ! .
نحن في عام 1956 . كنا عدداً كبيراً من المثـقفين والأدباء مفصولين من وظائفنا ، واستُدعينا فجأة إلى دورة الضباط الإحتياط . . المتزوجون في بغداد ، والعازبون في معسكر السعدية في ديالى . كان عبدالوهاب متزوجاً ، وكنت أعزب . وكان بين المتزوجين ابراهيم كبّة ، وطلعت الشيباني ، وفيصل السامر .. وآخرين . وبين العزّاب صلاح خالص ، ويوسف العاني، ومظفر النواب ،وعبدالملك نوري ..وآخرين . كنت في حينها قد باشرت طباعة مجموعتي الشعرية ( طيبة ) في مطبعة الرابطة ببغداد فبثثت قلقي لعبدالوهاب .. من سيتابع المجموعة ؟ ..من سيشرف على مراجعتها وتصحيحها وأنا في ديالى ؟؟ .لا أنسى فرحي ساعتها عندما تبرع عبدالوهاب بالقيام بالمهمة عن طيب خاطر .بعد قرابة شهر ، عدت من المعسكر في إجازتي الشهرية .. وحال وصولي أسرعت إلى عبدالوهاب ، فبشرني بأن المجموعة تمّ طبعها على خير ما يرام ، وأنه كلف صديقه الفنان المصري أحمد مرسي برسم غلافها ، وأشرف بنفسه على تصحيحها ،وهي الآن جاهزة للتسلّم .. وذهبنا معاً إلى مطبعة الرابطة .
لست أشكّ في أن عبدالوهاب يتذكر هذه اللحظات بكل تفاصيلها .. وقد أعدتها عليه في أحد المرابد أمام أكثر من عشرين شاعراً وأديباً عربياً .ونحن في الطريق إلى المطبعة ،لاحظت أن عبدالوهاب يزداد توتراً بعد كل خطوة تدنو بنا إليها .. ثم فجأة .. قبيل أن نصل بمسافة قصيرة، أوقفني قائلاً : ” يَعمن .. أنا بحكم الصداقة ، سمحت لنفسي أن أكتب مقدمة لمجموعتك !! ” .نزل علي الخبر نزول الصاعقة ..فوقفت منعقد اللسان ، لا أدري ماذا اقول . المجموعة مرزومة ، معَدَّة للتسليم وعبدالوهاب كان مخوّلاً من قبلي بمتابعتها ، والتصرف بها .. فماذا يجدي أي قول الآن ؟ ! .
قلت : “ولكن كيف ؟ ..أنا لم أكلفك أن تكتب لها مقدمة . بدر أراد ورفضت .. وصلاح خالص أراد ورفضت .. فكيف فعلت أنت ذلك حتى دون أن تستأذنني ؟ . قال : ” أنت كنت خارج بغداد ، ولا سبيل إلى الإتصال بك في المعسكر.. ثم لماذا أنت منزعج هكذا ؟! .. سترى كم هي جميلة ، ومنصفة ، المقدمة التي كتبتها لك ! .كاد الدم يتفجر من عينيّ فرط الغيظ ، ولكنني لم أستطع الكلام .. أولاً لأن الواقعة وقعت ، وأي كلام لا يغير منها شيئاً الآن ..ثانياً ، لأنني كنت مديناً لعبدالوهاب بفضل متابعة الديوان وتصحيحه .ووصلنا إلى المطبعة .. وقرأت المقدمة .. وإذا بي أجد فيها ما يلي : ( كنا صديقين في دار المعلمين العالية ..) قلت : ” ولكن هذا ليس صحيحاً يا عبدالوهاب . في دار المعلمين العالية لم نكلم بعضنا.” قال – وكأنني أتذكر الآن الكلمات ، بل الحروف نفسها – (وماذا يضر ذلك ؟ . أنا أردت أن أعطي لصداقتنا عمقاً زمنياً فهل في ذلك ضير ؟؟ . ) قلت : ” ولكنه كذب .” قال 🙁 ليس فيه ضررعلى أية حال! )
وا سترسلت في القراءة فوصلت إلى بيت القصيد . قال عبدالوهاب في المقدمة : ( كان عبد الرزاق يقرأ لي أكثر قصائده التي يكتبها ، فكنت أرضى كل الرضا عن بعضها ، وأسخط كل السخط على بعضها الآخر . ) .قلت : ” أنا ؟ ..أنا يا عبدالوهاب كنت أقرأ لك شعري ؟ منذ متى ؟ .. وأين ؟ .. وكيف ؟! . أنا لم أقرأ أمامك في حياتي بيتاً واحداً ، فكيف نصّبت من نفسك أستاذاً لي ، ترضى عني ، وتسخط عليّ ؟! ” .جميع محاولات عبدالوهاب في تبرير كتابته كانت بائسة .. وكنت أنا الأشد بؤساً ..يومها بدوت غريقاً ..وخسرت صديقاً إلى غير رجعة .
حتى هذه اللحظة .. كلما تذكرت تلك الحادثة اشتعلت غيظاً . ورغم أني أشرت إليها مراراً ، وعلى أصعدة أدبية مختلفة ، فقد ظل يحفر قلبي ذلك الاستغفال الذي يفتقر إلى المروءة ! .


















