عبد الناصر أخفق في تقدير الموقف السياسي وتسبب في خسارة معركة دبلوماسية دولية أيضاً
ضباط عراقيون أعطوا تقييمات خاطئة في حق القادة المصريين على منضدة الرمل
زهير عبد الرحمن
كان المناخ الذي رأيناه في سيناء قاسياً لا يقارن اطلاقاً بما كنا نعيشه في ايج ثري، حيث ان الرمال المتحركة في سيناء تضع قيداً ثقيلاً جداً على قطعات الجيش المصري، لقد مكثنا في ذلك اللواء لمدة 24 ساعة، وكان قائده العميد واصل، امتداداً للقادة العثمانيين في وطنيته وصرامة قيادته، لقد جرى نزاع شديد بيني وبينهم حيث انهم يستخدمون المدفعية وفق العقيدة الشرقية، خلاف ما نتبعه في الجيش العراقي بالعقيدة الغربية.. وقد تبين من خلال عدة رميات دقيقة على منضدة الرمي، على خلاف ما كنا نعتقده في الجيش العراقي، انهم دقيقون ومتمكنون من الرمي وفق العقيد الشرقية. وكانوا يجرون تمارين فحصية في خلال ثلاث دقائق كانت قطعات من اللواء المدرع المصري تتحرك في اتجاه يشير اليه الانذار، ولقد كنت احتك بضباط ركن ذلك اللواء وكانت درجة تثقفهم الوطني ووعيهم الذي صنعه الرئيس عبد الناصر لا يقارن اطلاقاً بما كان عليه البعثيون في العراق.. لقد كنت ألمس وعي الضباط المصريين يرتبط بالترجمة العملية لما ينطبق به ما يصدر عن لسانهم مع ما ينطبق مع واقعهم المادي الملموس.. وخلاصة القول وبصراحة كنت أسيراً لما وصل اليه الجيش المصري في كل نواحيه التدريبية والمعنوية، وحتى هذه اللحظة، لا أستطيع ان انسى احد ضباط الجيش المصري، واسمه نور عبد العزيز، كان نوعية فدائية في كل ما يطرح وما تعنيه الكلمة.. وكنت اتابعه عن كثب في حرب تشرين حيث كان قد وصل الى رتبة عقيد ركن وكان بمنصب رئيس اركان لواء مدرع، كان يقود هجوماً لاحتلال مضائق فتلا واستشهد على دبابته، كان احد النماذج الرائعة ممن شهدتهم عام 1965، وفي عام 1966،1967 كنت ضمن وفد لكلية الاركان، حيث كنا نزور مقرات الجيش المصري والذي اتاحت لنا زيارة منشآته التدريبية وقيادته في الاسماعيلية ولقاءنا مع القادة المصريين، كان يلفت نظري ما وصل اليه الجيش المصري من وسائل تعليمية نادرة وهو في بلد امكانياته المالية محدودة لا تقاس بما يملكه العراق، والذي لا يمكن ان يصل الجيش العراقي الى ما وصل اليه المصريون لقد صنع الرئيس عبد الناصر اشياء مذهلة مقارنة بما كان يماثله في العراق، فمثلاً كنت مع الوفد نزور قسم المدفعية للاسطول البحري المصري والذي يعتبر قسماً ثانوياً، فوجدت مقاطع هيكيلية لمدافع مصنوعة من زجاج أو بلاستيك شفافة تتحرك اقسامها الداخلية كهربائياً عندما يرمي المدفع لتبين آلية حركة الاقسام الداخلية للمدفع بحيث تنطبع في ذهنية الضابط هذه الالية لكي تعينه على فهم كيفية ادامة المدفع قبل الرمي وبعد الرمي. بعكس ما كنا ندرس في مدرسة المدفعية، في العراق، بشكل نظري عسر الفهم والمدرسة هي المرجع الاعلى لعلم المدفعية في الجيش العراقي.. لقد كان سقوط الجيش المصري في ضربة 5 حزيران عام 1967 قد حقق صدمة غير متوقعة علينا نحن ضباط الجيش العراقي ممن عرفنا عن كثب قابلية الجيش المصري، لا نستطيع تفسيراً لها ذلك الوقت.
عدم وجود وثائق
وبالرغم من عدم وجود وثائق لدينا، الا اننا اصحاب مهنة نستطيع ان نضع سيناريو عبر الاحداث تفضي كل استنتاجاته الى ما افضى من حقائق مفزعة، بالتاكيد فقد تكون رصيداً للمستقبل للحيلولة دون تكرار ما حدث من تكرار للعبة دولية مزدوجة، لعبة سياسية، في تفاعلها مع لعبة حرب، فكانت ما آلت اليه النتائج كما افضت اليها في مثل هذه الحالة.. فآلية الحرب كما نفهمها تبدأ بالامر الذي يصدره رئيس الدولة والذي يحدد فيه الهدف السياسي من الحرب والذي يشكل طبيعة هيكلية معالم الحرب فيما يتعلق بكل دراسات الصنوف المختلفة وتقادير الموقف لكل القطعات والتشكيلات القوات المسلحة وتحديد اماكن تواجدها كيما تفضي الى تحقيق الهدف السياسي من الحرب الذي يكون بالتاكيد الهجوم باكتساح العدو واخضاعه او الوصول الى نقطة معينة من خلالها يفرض على العدو الجلوس الى مائدة المفاوضات للوصول الى حل ممكن للمعضلة المتنازع عليها وهو المطلوب تحقيقه على الارض والترجمة العملية له ان تكون القطعات القوية في مقدمة الهجوم لتشهم القشرة الخارجية لدفاعات العدو ثم تقتحم كل دفاعاته بالعمق كيما تتوغل الى ابعد ما تستطيع لتنفيذ الواجب.. ان هذا يجب ان يصاحبه مرافقة الاكداس الادارية اللوجستية لدعم عملية الهجوم.. ان هذه العملية ليست سهلة وميسورة كما يتصور القارئ، فالعشرات من الضباط الخبراء في كل صفوف القوات المسلحة مجندون لها وعندما اعلن الرئيس عبد الناصر تنحيته عن السلطة، كان يقول.. ان السفير السوفيتي اتصل به ليلاً لابلاغه رغبة القيادة السوفيتية الا يكون هو البادئ بالحرب ضد اسرائيل.. ان الرئيس عبد الناصر، في مثل هذه الحالة مجبراً ان يخضع لموقف الاتحاد السوفيتي الذي لا يملك بديلاً عنه فهو الحليف الوحيد له.. وعندما يعبر الرئيس عبد الناصر هذا التحديد للقيادة العامة للقوات المسلحة فان هذا التحديد للقيادة العامة للقوات المسلحة يفرض تعديلاً كاملاً على آمر الحرب، وبالتالي على هيكلية وضع القطعات المصرية المسلحة على الارض ففي الحالة الاولى يتطلب ان تكون القطعات العسكرية القوية قريبا من خط الحدود كي تحقق الاصطدام بالقوات الاسرائيلية المقابلة لتحقيق الهدف السياسي من الحرب.. اما في الحالة الثانية، فان الهدف السياسي للحرب، قد تغير، اي يعني قبول الضربة الاولى والقطعات المصرية تكون في حالة قبول للهجوم الاسرائيلي وتحديده وايقافه عند حدود معينة ثم القيام بالهجوم المقابل لدحر الهجوم الاسرائيلي وايقافه كي تقوم القوات المصرية القوية المعقبة باستئناف التعرض الشامل وتحويله الى اكتساح على جبهة واسعة ومستمرة لدحر القوات الاسرائيلية عند الحدود التي حددها امر الحرب الصادر عن رئاسة الجمهورية المصرية.. ان هذا يتطلب اعادة الدراسات وتقادير الموقف على كافة جبهات القوات المصرية واعادتها الى اماكنها الجديدة سواء أكان سحبها الى الخلف او دفعها الى الامام.. ان هذا يتناغم مع حركة الاكداس الكبيرة للحاجات الادارية اللوجستية لكافة القطعات المتراجعة الى الخلف او المتقدمة الى الامام.. في هذه اللحظة تتحقق الضربة الاسرائيلية، بحيث يتحقق اعظم ارتباك من المستحيل السيطرة عليه او تجميده، عند حدود معينة تتيح الفرصة للمصريين الالتقاط الانفاس مما يحقق تشرذماً من المستحيل على أي قيادة تمتلك القدرة على تجميد ما هو ممكن في الوقت الحرج المطلوب لشيء من صمود بغية انقاذ ما يمكن انقاذه، وذلك هو التفسير الوحيد لما تحقق في ضربة 5 حزيران عام 1967.
مصر بين موسكو وواشنطن
انني اصر على انها لعبة دولية.. اذ من المستحيل ما شاهدته بام عيني عن الجيش المصري يعبر عن هزيمة.. ولعلنا نمر بسرعة على قدرة المصريين على القتال في تاريخهم القريب حيث كان ابراهيم باشا نجل محمد علي باشا الكبير يقود الجيش المصري في قتال ضار مع الجيش العثماني ذلك الوقت والذي كان يتراجع امام الجيش المصري.. ان سقوط المصريين في حرب 5 حزيران 1967 كانت لعبة دولية مغلفة بلعبة حرب.. فالامبراطوريات المعاصرة، لا تتحمل اطلاقاً انسلاخاً عنها تحت عنوان الحياد الايجابي.. وكان المفروض على الرئيس عبد الناصر الا يتجمد عند حدود الثقة المطلقة للاتحاد السوفيتي، فقوة العلاقات في الشد الامريكي الاسرائيلي اقوى بكثير من قوة الشد السوفيتي المصري وان اسرائيل تقع في قلب الستراتيجية الامريكية، وبخلاف مصر التي تكون حالة اقرب الى الهامشية لتكون هذه المتباينات في العلاقة الدولية بوابة انزلاق، جل للرئيس عبد الناصر، صممتها اسرائيل ومن تحالف معها ليكون الباب مغلقاً بوجهه لتحقيق ولو بصيص امل ضعيف للتحرر الوطني الديمقراطي او الانعتاق من طوق دولي يتعارض وعدم الانحياز اما الى الغرب.. واما الى الشرق.. فلو كان الاتحاد السوفيتي صادقاً ومخلصاً في علاقاته مع المصريين لكان بالامكان من اللحظات الاولى للضربة الاسرائيلية، وعن طريق الاقمار الصناعية وبقية منابع المعلومات ايقن ان الضربة الاسرائيلية الاولى في غير مصلحة المصريين، ولكان موقفه ان يوجه انذاراً شديد اللهجة الى اسرائيل لايقاف القتال ويهددها والولايات المتحدة بالتدخل ولو كانت الولايات المتحدة صادقة في موقفها ما كانت رصاصات اطلقت على جلالة الملك فيصل السعود ثمناً لموقفه من جر المصريين الى الجانب الامريكي في موقفه المكشوف في حرب 5 حزيران، فالاطراف الدولية لا تنظر الا الى قوة الشد الذي يؤول اليها مصائر الشعوب التي تدخل ضمن ممتلكاتها.. لقد كان الرئيس عبد الناصر وفياً لمبادئه حريصاً على الالتزام بها فقد آثر على نفسه الاستقالة تاركاً القرار لخلفه فيما بعد .. وكان.. ما كان.. ان الحالة المطروحة اعلاه سياسياً وعسكراً هي التي اوحت الي ان أحذر السيد رئيس اركان الجيش الفريق اول الركن عبد الجبار شنشل في نقدي لخطة التحشد على سوريا والمنشورة في جريدة الزمان العدد 3472 في 20 كانون الاول 2009 والذي قلت فيه بالحرف الواحد.. والتي تفرض على الاجيال القادمة من الضباط العراقيين ان يتفهموا ميوعة الموقف الدولي المطروح في حرب 5 حزيران 1967 وتكراره واتخاذ الوسائل الكفيلة للتعامل مع ميوعة الهدف السياسي للحرب والذي تحول من الهجوم المصري المباشر على اسرائيل والذي كان يتطابق مع الهدف السياسي المصري الاول للحرب الى تغير مفاجئ للتقبل المصري للضربة الاولى الاسرائيلية واستيعابها ثم التحول بالضربة المصرية ضد اسرائيل كهجوم مقابل واجتياح والذي اسميته في توصيات للسيد الرئيس اركان الجيش الفريق اول الركن عبد الجبار شنشل في التقرير الذي قدمته اليه في 18»6»1976 والى سيادته وانا رئيس لجنة التبنؤ في وزارة الدفاع في العبارة التالية. ومع اننا نثق في ان القيادة السياسية في تعاملها مع النظام السوري حذرة وقد تضع احتمالات سياسية بديلة لكل موقف يظهر مستقبلاً فأن ذلك ينبغي ان يسحب نفسه على ترتيب القطعات العسكرية على الارض بما يكفل تحقيق المرونة بمعنى ان حيثما يوجد موقف سياسي مائع فأنه ينبغي ان يتبعه ترتيب سوقي للقطعات على الارض يستوعب هذه الميوعة السياسية ويستجيب لها بأقل الخسائر الممكنة.. والا فأننا سنقع بخطيئة القيادة العسكرية المصرية عام 1967 عندما تغير الهدف السياسي من التحشد وهو الهجوم على اسرائيل الى عدم ضرب العدو قبل ان يبدأ بالضرب ولم يستتبعه تغير في ترتيب اوضاع الجيش السوقية في سيناء بما يكفل تحقيق التغير في الهدف السياسي.
لو ان الرئيس عبد الناصر وهو احد اساتذة تقدير الموقف كما هو مشاع لقام بتقدير موقف سياسي للوصول الى حقائق سياسية مفضية الى حقائق عسكرية لا تقبل الخطأ ولا تقبل الخضوع.
اولاً قوة العلاقات الاسرائيلية الامريكية اقوى بكثير من قوة العلاقات السوفيتية المصرية.
ثانياً التسليح الامريكي اقوى من التسليح الروسي بمراحل لذا مهما كانت مصر قوية فلن تصل الى القوة الاسرائيلية ولان هذه حقيقة فعليه لكي تبقى مصر قادرة على حماية ذاتها ازاء التفوق الاسرائيلي فالمفروض في هذه الحالة يغير اسلوب الحرب لكي يسقط التفوق الاسرائيلي الامريكي بقوة السلاح وذلك باستغلال طبيعة الارض التي حباها الله تعالى للمصريين فلو ان الرئيس عبد الناصر قد أمن خمسة الالاف دراجة بخارية بمجنبة يستقلها خمسة عشر الف مقاتل من القوات الخاصة ونثرها على اطراف سيناء وبقيت مختفية لتقدمت القوات الاسرائيلية واصطدمت بكمائن مجهزة بأسلحة مقاومة للدبابات ولكان بامكان هذه القوة ان تحدث تأثيراً بالغاً على القطعات الاسرائيلية دون ان يعطي المصريون شيئاً من الخسائر بالغة في الامكانيات وفي البشر وليتم اسقاط القيمة المادية للقوتين الجويتين الاسرائيلية والامريكية.
/4/2012 Issue 4167 – Date 7 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4167 التاريخ 7»4»2012
AZP07