عام على رحيل مظفر النوّاب – غزاي درع الطائي
ما كان مظفر النواب (1934 ـــ 20/5/2022) يحب الليل من دون نجوم، وهو يعرف أن (الليل مع الجيش المهزوم طويل)، ويعرف أن الفرح اسم آخر للحزن، وهو يبشِّرنا: (وأُبشِّرْ أَنَّ الأَمطارَ ستأْتي/ وستغسلُ مِنْ لوحتِنا كلَّ وجوهِ المهزومِيْنْ)، وكان يرفع يديه متضرعا إلى الله تعالى: (وبَسطتُ صوبَ اللهِ بينَ الرّافدَيْنِ/ دُعاءَ كَفَّيْ عاشقٍ/ أَنْ يَحفظَ اللهُ العراقَ)، وكانت رووحه بالرغم من كل شيء عربية: (يا حاملَ مشكاةِ الغيظِ بظُلمةِ عينَيْكَ/ ترنَّمْ مِنْ لغةِ القرآنِ/ فروحي عربيَّةْ)، وكان يتساءل: (كيفَ لا يُولَدُ النّاس في الرّافدينِ سكارى/ وكلُّ الذي في العراقِ يُقطَّرُ منْهُ العَرَقْ)، وكان يعلنها صريحة من غير خوف: (قَدَمي في الحكوماتِ/ في البدءِ والنِّصفِ والخاتِمَةْ).
كانت (للريل وحمد) أول قصيدة شعبية له، وقد بدأ بكتابتها عام 1956 وأنهاها عام 1958 وأخذها علي الشوك من دفتره ثم نشرها دون علمه، وكتب عنها سعدي يوسف وعدَّها (نقلة من القصيدة العامية التقليدية إلى مناخ جديد)، وقد طلب النواب الموافقة على طبع مجموعته (للريل وحمد) في بيروت وسافر عام 1969 كي يتابعها، ولم يعد إلا في عام 2011 في زيارة قصيرة لبغداد، أما أول قصيدة له كتبها بالفصحى فكانت (قراءةٌ في دفترِ المطرِ)، وقد كتبها في بيروت عام 1969 ووردت في ديوانه (وتريّات ليليّة).
خارطة الروح
قال الناقد محمد مبارك عنه في مقالة له بعنوان (مظفر النواب: منجم عجيب): هو (ظاهرة كبيرة في الشعر، شعبيه وفصيحه، ليس في العراق وحسب، إنما في عموم خارطة الروح والذهن والحساسية الجمالية والذائقة النقدية في طول الوطن العربي وعرضه…وقد أحدث النواب في مسيرة الشعر الشعبي في العراق الإنعطافة ذاتها التي أحدثها رواد الحداثة الشعرية في مسيرة الشعر العربي الفصيح)، فيما قال عنه الدكتور علوي الهاشمي: (هو نفسه مظفر النواب الذي كان ذات يوم من المواد الممنوع تداولها، بل كان (مادة) تغري المهربين على حمل أشرطته، واستنساخها، حتى وصلت إلى كل مستمع يملك جهاز تسجيل)، كما قال عنه الدكتور علي جعفر العلاق في مقالته (مظفر النواب شاعر القصيدتين): (إنَّه النجم الشعري الساطع الكبير)،وقال عنه الدكتور قاسم حسين صالح : (أحببت مظفر في مراهقتي وكنت اكتب مقاطع من أجمل أشعاره في الغزل بقصاصات ورق وابعث بها إلى (حبيبتي)، التي بعثت لي يوما بقصاصة ورق فيها سطر واحد: (حبيبي قاسم، هذا الشعر مو إلك، لمظفر النواب!)، فقلت: يا إلهي، وصل مظفر حتى الى بنات الشطرة!)، ولقد وصف الشعراء والنقاد والباحثون مظفر النواب بأوصاف شتى، فقالوا عنه إنه: فتى العراق، المنجم العجيب، بحّار البحّارين، شاعر التَّجديد والتَّمرُّد والإبداع، زقّورة العراق، الرَّمز السِّرّيّ للشجن العراقيِّ والثَّورة العراقيَّة، شاعر الحرِّيَّة، النَّورس الحالم، شاعر التَّحريض والثَّورة، السّاكب ملحه على جراحنا، شاعر القصيدتين، شاعرُ الحنين والتمرد والبهجة، ربابة الحزن وصناجة الثورة، الشاعر الصاخب، قصيدة الأهوار الخالدة، الشاعر والثائر في آن، محيي الموؤودات الشعبية، شاعر الرفض والشتيمة السياسية، جيفارا الشعر العربي، تموز الشعر الشعبي، والنهر الأمين لمجراه، أمّا مظفر النواب نفسه، فيقول عن نفسه وشعره: (ولستُ أخافُ العواقبَ فيما أقولُ/ فإنَّ الشَّهادةَ من أجلِ قولٍ جريءٍ ومعتقدٍ/ قبَّةٌ وضريحْ/ إذا كان بعضٌ يفكِّرُ في النَّيلِ منّي/ فهذا أنا/ لستُ أملكُ إلا القميصَ الذي فوق جلدي/ وقلبي وراء القميصِ يلوحْ).
إختلاف الطبعات
صدرت لمظفر النواب مجموعتان شعريتان شعبيتان فقط هما: (للريل وحمد)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1969 وأعادت، دمشق، طبعها عام 2008 و(حَجّام البُريِس)، وهي قصيدة شعبية طويلة، دار ابن سينا، 1971م، والمجموعتان الشعريتان الشعبيتان منشورتان على الإنترنت ويمكن تحميلهما، وكل ما عدا ذلك من شعره الشعبي وهو كثير فغير مطبوع في كتاب، وصدرت له مجموعتان شعريتان باللغة الفصحى هما: (وتريات ليلية)، و(المساورة أمام الباب الثاني)، وفي (رسالة ماجستير) جاءت تحت عنوان (مظفر النواب، التلقي النقدي واختلاف الطبعات، دراسة نقدية تكوينية)، قُدِّمت إلى جامعة النجاح، نابلس، فلسطين، 2016م، جاء ذكر المجموعات الشعرية الأربع التي صدرت في فلسطين، وهي: (وتريات ليلية، الحركة الأولى والثانية)، مطبعة الديار، 1975م، وأُعيد طبعها: دار صلاح الدين، القدس، 1977م، (أربع قصائد)، منشورات دار العامل، 1987م، (سفينة الحزن) ، منشورات الفنار، عكا، 1982م، و(عرس الإنتفاضة)، مؤسسة حطين للثقافة والإعلام، 1989م، وقد أحصيت عدد القصائد الفصحى التي كتبها النواب، ووجدت أن عددها الكلي يبلغ (177) قصيدة، (119) منها لم تُنشر في كتاب حتى يومنا هذا، أما ما يُسمّى بـ (الأعمال الشعرية الكاملة لمظفر النواب) والتي يوجد منها في أسواق المكتبات العراقية والعربية (19) طبعة، فقد صدرت من دون موافقة النواب ومن دون علمه، وهي مليئة بالأغلاط النحوية والإملائية والعروضية. كان النواب يقول: (آنه يعجبني أدوّر عالكَمر بالغيم/ ما أحب الكَمر كلّش كَمر)، وحينما كانت مخالب وحش الغربة تنهش النواب وروحه، كان النواب يعلن في أشعاره ما يتلجلج في قلبه: (كلَّما الرّيحُ مرَّتْ أَقولُ العراقْ)، و(أَعرفُ خطَّ العراقْ/ ومَنْ مثلُ قلبيَ يعرفُ خطَّ العراقْ؟!)، (سَأَصِيحُ فِي الَّليْلِ البَهِيمِ: أَنَا الْعِرَاقْ/ مَتَى أَعُودُ إلى العِراقْ؟)، و(الموت أَرحمُ بالعراقِ مِنَ الوجودِ بدونِهِ)، و(لماذا العراقُ بعيدٌ؟)، ولكن ظل العراق بعيدا عنه حتى عودته إليه محمولا على أكتاف المشيِّعين، فوا أسفاه، وبالرغم من كل ما كان وما يكون، ما زلنا نسمع صوته في البرية يصيح: (يا مشط ذرّي ذهب/ يا الخلكك اشطوله/ بطول الشعر/ والهوى البارد/ ينيم الكطة).