عاملات النمل

عاملات النمل
ليست هناك ساعة، ولا وقت، لا يوم ولا شهر، فأنت يا سيدتي رق من العبيد، مملوكة، حكم عليك المجتمع بالأشغال الشاقة، لهذا الشيء خلقتي، خلقتي لتعملي ولتطيعي الأوامر، لا تسالي كم الوقت، فلأجل ماذا تسالين، الديك موعد؟ بالطبع لا، قبل شروق الشمس اخرجي واقتاتي من رزق الله، وبعد غروب الشمس نامي.
اعملي منذ شروق الشمس حتي غروبها، اعملي كالنمل، بلا كلل ولا هدف يعملون ليأكلوا ليس إلا، ليخزنوا غذاءهم للشتاء، وعندما ينفذ يخرجون في الصيف ليعملوا، هدفهم هو الأكل، أطيعي ولا تطاعي، اسمعي ولا تسمعي ، اجني المحصول واطبخي الطبيخ وربي الأولاد، تحطمي ولا تتذمري لأنك أنثي ليس إلا، لأنك كائن ليس متكاملا، منذ القدم كنت تدفنين حيةً في التراب وأنت ما زلت طفلة، والآن تدفنين في العبودية والظلم وأنتي سيدة راشدة، لأنك اضعف والحياة للأقوي .
قرية نائية؛ بعيدة عن الحضارة وعن المجتمع؛ تقع علي ضفاف نهر ضحل، فيه العديد من الحشرات والأوبئة والأفاعي، يسير النهر ببطء شديد حتي تحسبه واقفا لا يجري، لذلك يتراكم في الطمي، سكان هذه القرية يعيشون علي الزرع وعلي تربية الحيوانات، كل ما هو جديد غير مرغوب، عجبا لرؤية جرارات تحرث الأرض؛ لا اعرف كيف اقتنعوا بجلب هذه الآلة الحديثة؟.
بيوتهم في وسط بساتينهم، مشيدة من طين، سقوفها من القصب، يخر عليهم المطر شتاء، ولكل بيت له شارع خاص به، وليس هنالك بيت ملاصق لآخر، البيوت متفرقة وبعيدة، لا يخضع السكان لتعاليم الدين أو الأحكام، لكن يخضعون لأعرافهم، هنالك أشياء يمكن ان يبيحها الدين لكنهم لا يبيحونها، والرجل هو الحاكم وهو ولي الأمر داخل البيت وخارجه، والمرأة لا تملك حتي حق النطق والإدلاء ولو برأي بسيط.
تسير حياة هذه القرية علي دواليب صلدة لا تعرف الملل ولا الكلل، مصممة هذه الدواليب لتسير في جميع الطرقات، لا شيء أمامها لتوقفها ، هذه الدواليب هي النساء، هن من يعملن، هن من يجلبن الماء من النهر ويقمن بتصفيته، وهن من يرعين الأغنام، ويسقين الزرع، ويحلبن الأبقار ويعتنين بالأطفال، وفي شؤون البيت داخلا وخارجا.
اليوم يشبه الأمس وسيشبهه غدا، لا يتذمرن، لأنهن نشأن علي هذا، صنعت النساء الحضارات، فبفضلهن وجدت الزراعة ودجنت الحيوانات، لان الرجل يخرج للصيد وهن يبقين في البيت، شيئا فشيئا وجدت الزراعة وتدجين الحيوانات وصناعة النسيج والفخار.
في هذه القرية النائية يلتقين عدة نساء ليست لهن أسماء، يلتقين عند ضفاف النهر، عندما يعبئن قرابهن بالماء ليذهبن به إلي البيت ليشرب منه الرجال مفتولو الشوارب، ……….
تخرج كل واحدة منهن دون أن تسمع منها أي صوت، تعمل كعاملة النمل، أول عمل تفعله في الصباح هو حلب الأبقار والجواميس، بعدها إعداد وجبة الفطور لزوجها ولأبنائها، بعد ذلك تذهب مسرعة لتحش الحشيش للحيوانات، ينتظرها الكثير والكثير من الأعمال، يظن الكثيرون ، فقط النملة هي الوحيدة التي تقدر علي حمل شيء أثقل من وزنها، نسوا النساء العراقيات يحملن أكثر من أوزانهن بكثير، من أثقال علي الجسد وأثقال في القلوب.
عندما تحمل الحشيش علي ظهرها لا تستطيع رؤية أي شيء منها، تري فقط حشيشا أو قصبا يسير، كيف؟ لا اعرف كيف .
انظر إليهن من عل ، لا استطيع الدخول إلي شوارع وطرقات القرية، لا يسمحون لي بذلك، لأني إنسان غريب ، لو دخلت لهربن مني ، لأنه يحرم عليهن إن ينظرن إلي شخص غريب لذلك لا استطيع الدخول والتلصص والتطفل علي حياتهن عن قرب ، لذلك اكتفيت بالنظر إليهن من فوق وبواسطة منظار ليقرب إلي المشاهد .
أري امرأة تضرب بالسياط ، لأنها وقفت أمام زوجها ، أرادت النطق بكلمة ، اعتبرها ثورة ضد السلطان ، أخذت منجلها وذهبت إلي حظيرة الحيوانات وقادت أبقارها للحقل، وقامت بجني المحاصيل، أما زوجها فتل شاربيه وذهب إلي وجهاء القرية ليجالسهم .
واحد منهم ترك نساءه يقمن بجميع الواجبات ، من تنظيف البيوت والأولاد وتربية الحيوانات والتسوق ، أما هم فمشغولون بأمور أخري ، لقد وقعت معركة بينهم وبين قرية مجاورة ومات جراء ذلك عدد من الشباب ، يريدون الثار من تلك القرية ليوقعوا شبابا آخر للمهالك ، بدلا من انشغالهم بأمور الحياة ، بأمور التعليم والإنتاج والتثقيف ، ونبذ كل ما هو سيء ومعاونة نسائهم ، انشغلوا في الفتن والمعارك .
سمعت جلبة من مكان آخر في نفس القرية ، حولت ناظري أليهم ، وجدت أناسا مجتمعين حول شخص في الستينيات من عمره ، اكتشفت من هذا التجمع هو مشروع زواج ، لقد رأيت العروس ، لم تبلغ العشرين من عمرها ، زفت لرجل بسن جدها ، أكيد هي لم تقبل بهذا الزواج ، كيف تستطيع تحمله ، وهل تستطيع الرفض ، أكيد ستتهم بعشقها ، ستذبح ويوصم أهلها بالعار إن رفضت هذا الزواج ، عندما يقبل الأهل بالعريس فلا يحق للبنت الرفض ، وان رفضت فهذا يعني أنها تعشق فلانا من الناس ، وتعرفون ماذا سيحل بها ، أكيد سيكون مصيرها القتل .
يسود الجهل والخراب علي هذه القرية الصغيرة ، التي لا استطيع رؤية نسائها بوضوح ، في الصباح عندما يذهبن إلي الحقل فلا تستطيع رؤية حتي عيونهن ، عيب أن يري الرجل شيئا من المرأة ، وعند العودة يكون المحصول من خضار وحشيش محملا فوق ظهورهن ، فتري المحصول يسير ولا تعرف كيف لأنه غطي حاملته .
العجب العجاب ، رجال الدين والسياسة يستنكرون أوجه التخلف ظاهرا أما باطنا فهم متفقون علي هذا ويشجعون أن يسود التخلف في جميع بقاع الوطن، كيف يحكمون أناسا عقلاء ومثقفين ، المثقف هو من يجد أخطاءهم ويسعي وراءهم ويجادلهم وينافسهم .
يحدث في الغرب أو الدول الصناعية ، أنها قبل أن تخطط بصنع أي شيء عليها، أولاً أن تفكر كيف تصرف هذه السلعة ، عليها إيجاد سوق لتصريفها ، فان لم تجد هذا السوق فما فائدة صناعتها، لذلك ظهر التنافس بين تلك الدول علي الشرق ، لأنهم وجدوا سوقا خصبا لتصريف بضاعتهم ، ونري الآن السباق بين روسيا والولايات المتحدة في خلق أزمات سياسية وليست اقتصادية بين دول الشرق ليسوقوا ما ينتجونه من أسلحة .
فبعض رجال الدين والسياسة هم أيضا يريدون أن يسوقوا علمهم أو مشاريعهم ، ولكن أين ، لو أصبح جميع الناس متعلمين فمن ستعلم ، ومن سيأخذ بإفتائك إن حكمت أو أطلقت حكما علي أي مسالة ، فتري دائما في جميع العصور الصراع الدائم بين رجال الدين والسياسة وكل طرف يحاول إزاحة الطرف الآخر من الساحة ، ومنهم من جمع الدين والسياسة .
هكذا رأيت قرية صغيرة هي نموذج عن باقي القري ، لم ابق طويلا ، وإلا رأيت الشيء الكثير اكتفيت بهذا القدر ، توجد أشياء وأشياء كثيرة لا يمكنني بوحها جميعا .
وليست هنا المشكلة الكامنة ، في جميع دول العالم نري الحضارة ومقوماتها تغزوا الريف سواء في العادات والتقاليد وفي الأمور الحياة العامة من تكنولوجيا وتعليم ، أما في مجتمعنا فلا نري ذلك ، نري الظاهر ، أي قشور الحضارة ، نأخذ القشور وندع اللب ، أما عندنا فعلي العكس ، نري البداوة تغزو المدن ، حتي المثقفون الذين يطالبون بالتقدم نراهم ما زالوا متعصبين ببداوتهم ، حتي أنا كاتب هذه السطور ما أزال متمسكا ببداوتي ، هنالك فرق بين الدين وبين العادات الاجتماعية التي نسير عليها وليست متوافقة مع الدين .
لا أريد او لا أشجع علي نبذ كل عاداتنا وتقاليدنا البدوية ، ففيها أشياء حميدة ، لا يمكن الاستغناء عنها ، لكن الشيء الذي لا أريد إتباعه هو التعصب القبلي ، النظر إلي الأشياء من زاوية واحدة ، ولا يمكن أن يسير البلد للأمام والكلمة للقوي ، الضعيف ليس له صوت مسموع .
القوة ليست بالعصبية ولا بالجسمانية ، لقد اثبت العلم والحضارة الجديدة خلاف ذلك ، فيما مضي كانت القوة الجسمانية مطلوبة ، أما الآن فلا ، المطلوب هي قوة العقل والبديهية ، بزر صغير ترفع ترسانة كبيرة وزنها مئات الأطنان من اسمنت ، ليس الذي رفعها هو قوة الإنسان ولكن قوة ذكائه.
سيف شمس الدين الالوسي- غداد
/2/2012 Issue 4119 – Date 11- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4119 – التاريخ 11/2/2012
AZPPPL

مشاركة