ظلم بالسوية‮ .. ‬عدل بالرعية‮ ‬ – نصوص – أماني‮ ‬سعد‮ ‬ياسين

ظلم بالسوية .. عدل بالرعية  – نصوص – أماني سعد ياسين

” وهل يستحق الدكتور محمد أن يعيش في منزلٍ من غرفتين تحت الأرض وهو الذي درس سنوات طوال حتى وصل الى ما وصل اليه ؟!! “

كانت تتمتم بصوتٍ خافت وتحدِّث نفسها وهي تعمل في منزلها تحاول أن تنتهي من تحضير طعام الغداء قبل مجيء أولادها من المدرسة . وما لبثت أن تأفّفت وهي تُحدِّث نفسها بصوتٍ عالٍ :

” والله ، والله ، هناك صنفٌ من البشر أكثر ما يستأهلونه هو .. الضرب !.. “

” عقليات متخلِّفة !..”

” في بلادي تُقاس البشر بكم تملك من المال !..

” كم معك .. تساوي !.. “

” هكذا تقول الحكمة الشعبية هنا ، وعلى هذا الأساس تُقاس الناس !.. “

” على النقيض من الدول المتقدِّمة حيث يُقاس الناس بتحصيلهم العلمي وإنجازاتهم في ميدان الدراسة والعمل والكفاح ، هنا تُقاس بما تملك من المال والإمكانيات ! “

” أيُّ منزلٍ تملك ؟! وأيُّ سيّارة تركب ؟!!

وأي موديل من الهاتف الجوّال تحمل ؟

وأي .. وأيّ .. وأيِّ ..

باللهِ ، لماذا نحن نشكو من هذا التخلُّف والرجعية الفكرية ؟!!”

” أناسٌ أميَّةٌ ، لا تعرف لا القراءة ولا حتى كتابة الأحرف الأولى من اسمها ، ولا تملك أدنى حظ من الثقافة والفكر ، ومع هذا يُحسَب لها ألف حساب ، فقط وفقط لأنَّ منهم من يملك منازل عديدة ، وأراضٍي ممتدّة ، وعنده أرصدة كثيرة في البنوك وووو … “

كانت تتأفّف .. وتتمتم : ” والله ، والله ، هناك صنفٌ من البشر أكثر ما يستأهلونه .. هو الضرب !.. “

كانت تفكًّر ليل نهار وتحلم بمستقبلٍ مشرقٍ زاهرٍ لأولادها ، وكان جلّ ما تراه في بلدها ، ومن حولها في قريتها البسيطة ، لا يوحي إلّا بالظلم والإضطهاد وعدم المساواة في الحقوق والواجبات .

لم تكن تستطيع إلّا أن تفكر بجارها الطبيب المختص بأمراض الأطفال والذي درس ما يقارب العشر سنوات في الكلية الطبية في القاهرة ، وهو الآن يعيش في غرفة صغيرة لا تستحق أن تكون مستودعاً للخضراوات!..

كانت غرفته تلك التي ورثها عن والده المزارع البسيط الذي أفنى عمره من أجل تعليم ولده سكناً له ، وعيادةً يزوره بها أغلب سكّان القرية من أجل التداوي والتطبُّب على يديه .

كان ” الحكيم ” كما كانوا يلقِّبونه في القرية يعمل في مستوصف حكومي داخل القرية ، وفي عدة مستوصفاتٍ أخرى في المدينة القريبة ، ومع هذا فهو لا يستطيع بالإتكاء على مدخوله البسيط جداً أن يفكِّر حتى في الزواج بقريبته مريم التي بقي سنواتٍ طوال يحبّها ، ويعدها بالزواج بها ما إن يتِّم دراسته كطبيب .

وها قد مرّت سنواتٌ عشر درس خلالها الطب ، ومن بعدها سنواتٌ خمس أُخَر اشتغل فيها في المراكز الحكومية والمستوصفات ، كان يعالج فيها الفقراء والمستضعفين من الناس وأكثرهم من ليس لديه ما يدفعه اليه كعربون وفاء إلّا دجاجة بلدية من مزرعته الصغيرة ، أو بضع بيضات !..

في بلدته الصغيرة ، كان التبادل المالي والتجاري ما زال في غالب الأوقات كما كان في سابق الأيام مرتكزاً على تبادل المنتجات الزراعية والمحاصيل من الأرض التي كان المزارع يزرعها بسبب الفقر المدقع الذي كان يعاني منه سكان البلدة فغالباً ما لم يكن لديهم سيولة في “المادة ” ، كما كانوا يسمّون المال ، وكانوا في غالبية الأحيان يشترون أغراضهم وحاجاتهم من الدكّان الصغير الذي كان عبارة عن غرفةٍ من غرف منزل صاحبه المسكين وذلك بال” دَيْن ” ؛ ومع أنَّ الرجل كان يضع ورقةً كبيرةً في دكّانِّه مكتوب عليها ” الدَين ممنوع ” ، ولكنَّه كان يعرف أنَّه لم يكن ليبيع شيئاً لولا ” الدَين ” هذا !..

وعلى النقيض من ذلك ، كان هناك ابن ” الملّاك ” مالك أغلبية أراضي الضيعة ، مصطفى ، وهو الذي لم يصل في تعليمه المدرسي الى الصف الثاني الإبتدائي بسبب كسله وقلّة تدبيره ، ولا يستطيع أن يفكَّ رمز حرفٍ من الأحرف حتى يقرأ ، وكثيرٌ من الأحرف العربية لا تعني له شيئاً ، وبالرغم من كل هذا كان يمتلك فيلا ضخمة على مشارف الضيعة الساكنة على قمة الجبل ، ويقود سيّارة فارهة هي الموديل الأحدث للسنة الجديدة ، وكل ذلك العزّ والجاه الحديث أو المُستَحدَث كان نتيجة تعاطي والده المُتفذلِك في تجارة الأسلحة المحظورة علناً ، والمُباركة ضمناً من كل الأفرقاء والقادة السياسيين في بلده ، وذلك حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

كان المال وحده هو الوسيلة التي يتربّع فيها مصطفى على عرش مملكته ، وبسبب إغداقه المال هنا وهناك ، وشرائه لبعض النفوس الضعيفة من أهل الضيعة بعزومةٍ هنا ، وهديةٍ هناك ، كان مرشّحاً لأن يكون نائباً في البرلمان ، في حين كان جاره الطبيب المثقّف والذي أضنى عمره حتى وصل الى ما وصل إليه من علمٍ واسع ، يخدم الفقراء والمحتاجين من أهل ضيعته بكل ما يستطيع من وسيلة بل ويعتبر هذا واجباً عليه ، ولم يكن ليحلم حتى بأن يصل الى أن يطرق يوماً باب أحدٍ من المسؤولين في بلده .

تذكّرَتْ منذ أيّامٍ قليلة ولدى مشاهدتها التلفاز شاهدت فيلماً وثائقياً يروي قصة حياة رئيس دولةٍ كانت تُعَد حتّى وقتٍ قريب جداً إحدى الدولتين العظميين في العالم ، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ،

وقد لفتَ نظرها في الفيلم أنّه من أصلٍ متواضع جداً ، وفقيرٍ جداً ، وقد وُلِد في أثناء الحرب لجنديٍّ مغمور لم يكن له أيُّ ذكرٍ أو عائلةٍ يُعرَف بها ؛

ومع هذا فقد وصلَ بعصاميته وجهده ، وتدرّج في عمله حتّى وصل الى المرتبة الأولى في الدولة ، واستلم منصب رئاسة الجمهورية .

ضحكت ضحكتها الساخرة وهي تُحدِّث نفسها :

” كم يجب أن ننتظر من السنوات حتى نصل الى وقتٍ يمكن أن نرى فيه شخصاً عادياً مكافحاً من عامة الشعب يصل الى مراتب حسّاسة في بلدنا ، نيابة ، وزارة أو حتّى وظيفة عادية متواضعة في الدولة ؟!!”

“إنَّه الحلم المُحال !..”

كانت تفكِّر وتفكر .. وتفكر

وتتأفّف وتتأفف .. وتتأفّف

وهي تحاول أن تحلم بمستقبلٍ زاهرٍ لأطفالها في بلدٍ أصبح الحقُّ فيه باطلاً .. والباطل حقاً

.. والعدل والمساواة .. حلماً !..

كانت تفكر ، وهي تتذكّر قول أبيها المسنّ الذي كان يكرِّره دائماً ، مقولةً لم تدرِ أبداً من هو قائلها ، ولكنَّه حتماً إنسانٌ عظيم جداً ، وعادلٌ جداً ، وفيلسوفٌ جداً ، وقد حفظت هذه المقولة عن ظهر الغيب بسبب تكرار والدها الهرِم لها ، وصارت تكرِّرها لأولادها :

” ظلمٌ بالسوِّيَّة ، عدلٌ بالرّعيَّة . “

لم تكن تفهم في حينها كيف يمكن للظلم أن يكون عدلاً !..

أمّا الآن فهي تدرك بل وتعرف يقيناً بأن ” السويّة ” ، والتي تعني المساواة ، هي الأساس في كلِّ عدلٍ . ولا عدل أساساً من دون مساواة ، وأنّ المساواة في كلِّ شيءٍ ، ولو كانت كما تقول الحكمة حتى في الظلم ، لهو قمة العدل والإنصاف .وفي بلادنا للأسف ، لا مساواة ، ولا عدلٌ ، ولا إنصاف !!..